أخذت شعبية الرئيس فلاديمير بوتين تتراجع في الأسابيع الأخيرة لجملة أسباب، في مقدمها تأييده للحرب الاميركية ضد افغانستان من دون قيد أو شرط. فقد أفاد استطلاع محدود للرأي العام في روسيا ان 66 في المئة من السكان يستنكرون العمليات الحربية في افغانستان، وان 44 في المئة فقط يؤيدونها، ما يعني ان شعبية رئيس الجمهورية انخفضت الى هذه النسبة بعدما قاربت 75 في المئة قبل شهور. وأضر بسمعة بوتين على نحو غير مباشر هبوط اسعار النفط العالمية، فالتدابير الاصلاحية في الاقتصاد الروسي قائمة اساساً على عائدات النفط التي تقلصت كما هو معروف. كما ان المسألة الشيشانية المعلقة فعلت فعلها ايضاً. وليس في آخر القائمة اغلاق القاعدة الجوية الروسية في كمران في فيتنام ومركز الاستخبارات الالكترونية في كوبا. وزاد الطين بلة ان توقيت اعلان هذا النبأ لم يكن موفقاً، فقد أذيع قبيل لقاء بوتين بنظيره الاميركي جورج بوش في شنغهاي على رغم ان قرار اغلاق الموقعين اتخذ قبل ذلك بستة شهور، الأمر الذي اعتبره اليسار الروسي امعاناً في سير الكرملين في ركاب البيت الأبيض. وفي هذا السياق يأتي دور محطة الانذار المبكر الروسية في اذربيجان، التي شيدت في منطقة جبلين الاذربيجانية السوفياتية العام 1979 في اطار معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ 1972 بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة. وراداراتها مخصصة لاكتشاف الاهداف الجوية باكراً من مسافة 7 الاف كيلومتر، خصوصاً الصواريخ التي تطلق من الغواصات في مياه المحيط الهندي. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي تحولت محطة جبلين الى قاعدة حربية روسية في أراضي دولة اخرى ذات سيادة. ولم تفلح روسياواذربيجان في اعداد وثيقة تمهيدية لاتفاقية في شأن محطة الانذار المبكر الا في 1998. وشنت الصحف الاذربيجانية حملة صورت فيها المحطة "غولا" أو "فزاعة" من خلال الاشعاعات الضارة على البيئة وعلى صحة المقيمين في البقاع المجاورة. وزعم خبراء مستقلون ان المحطة ألحقت خسائر مادية بأذربيجان بلغت 1.5 بليون دولار. ورداً على تلك الحملة، اكد الخبراء الروس ان تردي الاحوال الصحية المرعب للمقيمين في منطقة المحطة بسبب الإشعاعات المزعومة لوحظ فقط في الانحاء الواقعة شمالها، أي في بقاع لا يبلغها نبض الموجات الكهرومغناطيسية اصلاً. ويشدد هؤلاء الخبراء على ان موقع المحطة موفق للغاية، فهي تطل على ما يجاورها من وهاد ومنبسطات، مما يجعل شعاع رادارات الالتقاط يمضي شاهقاً الى الغيوم ولا يصادف في طريقه غابات أو بشراً. الا ان الاذربيجانيين، كما يقول المراقبون الروس، يريدون الحصول على اكبر تعويض مادي من روسيا في مقابل محطة جبلين المتوقفة عن العمل في الواقع فهي تعمل بنسبة 20 في المئة من قدراتها. وهذا هو سبب المبالغة في الأضرار التي يقولون انها تلحق بأذربيجان. وربما كان ذلك ايضاً وراء ارجاء زيارة الرئيس الاذربيجاني حيدر علييف الى روسيا من تشرين الثاني نوفمبر الجاري الى وقت لاحق بداية العام 2002. فقد تردد ان باكو وموسكو لم تتوصلا حتى الآن الى اتفاق نهائي في شأن مصير محطة جبلين للانذار المبكر. وترددت تساؤلات عن مصير "القاعدة" البحرية الروسية في اللاذقية، الا ان نية روسيا في اغلاق مركز الاستخبارات الالكترونية في لورديس كوبا وقاعدة كمران البحرية في فيتنام مثار جدل ساخن على اكثر من صعيد في روسيا. واذا كان اغلاق كمران قد يمر بسلام، فإن مشكلة محطة الاتصالات والتجسس الالكتروني في لورديس تمس صلب العلاقات الروسية - الكوبية. واللافت ان كلا الموقعين من تركة الاتحاد السوفياتي. فقاعدة كمران الجوية الاستخبارية على الساحل الجنوبي الشرقي لفيتنام نصبت من قبل العسكريين السوفيات في عهد المواجهة العظمى بين الاسطولين الاميركي والسوفياتي في عرض المحيط الهادي، وكذلك المواجهة مع الصين. وفي التسعينات فقدت هذه القاعدة الغرض الأول من وجودها. وتقلص عدد القائمين على خدمتها الى بضع عشرات بعدما كان ثلاثة آلاف. وفي 1995 شهدت القاعدة فاجعة تحطم ثلاث طائرات روسية من بين خمس طائرات كانت عائدة من معرض جوي في ماليزيا وأرادت ان تحط في مطار قاعدة كمران للتزود بالوقود في طريقها الى موسكو. وأثبت التحقيق ان سبب الحادث هو التخلف الفني لأجهزة المطار التي هي في أقصى حالات التشويش والاضطراب، ولهذا لا معنى لتسديد 300 مليون دولار سنوياً هي مبلغ ايجار القاعدة الذي يستوفيه الجانب الفيتنامي. اما محطة لورديس فلها قصة اخرى، فقد اتخذت موسكو قرارها باغلاق هذا المركز الذي شيد العام 1967 وعمل فيه 3 آلاف من رجال الاستخبارات الروس تقلص العدد أخيراً إلى ألف شخص، بتسرع وعلى انفراد وربما من دون علم الكوبيين. وإلى ذلك، فثمة مئات من كبار الاخصائيين الروس العاملين فيه من ذوي المهن المشابهة لمهنة بوتين قبل توليه رئاسة الجمهورية. وعلى رغم تأكيدات وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف بأن قرار اغلاق المركز جاء بعد دراسة، بعيداً عن الاعتبارات النفعية أو الملابسات الوقتية، ولا علاقة له بما وصفته الصحف الغربية بهدية بوتين إلى بوش، فإن الجانب الكوبي فوجئ بالقرار، لأن المحادثات التي جرت في هافانا قبل إعلانه دارت فقط حول مبلغ الايجار. وتبدو المبالغة واضحة تماماً في تصريحات العسكريين الروس الذين أكدوا أن نفقات المركز تكفي لتغطية تكلفة إصلاح القوات المسلحة الروسية برمتها أو اطلاق 20 قمراً اصطناعياً تجسسياً أو انشاء مئات المحطات الرادارية الجديدة أو بناء سفينة ذرية هائلة. ويمضي أولئك العسكريون إلى القول إن محطة لورديس باتت عتيقة معنوياً، مشددين على أن هذا الشكل العتيق من الاستخبارات لم يعد يواكب عصر التقدم التقني السريع، وأن الأقمار التجسسية قادرة على اداء مهمات المحطة. كما أن المعاملة بالمثل التي تتوقعها موسكو من واشنطن لم تتحقق. وعلى العموم، يرى اليسار الروسي أن أميركا لا تعامل روسيا بالمثل أبداً، ويشيرون في هذا المجال إلى تنازلات الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن الذي قدم للأميركيين مخطط أجهزة الاتصالات المنصوبة سراً في مبنى سفارتهم في موسكو. لكن واشنطن لم تقدم للروس شيئاً في المقابل، عدا ابتسامة ساخرة انطبعت على الوجوه، إلا أن أجهزة الانصات في السفارة الأميركية كانت تخص الروس والأميركيين، فيما تمس قضية لورديس طرفاً ثالثاً هو كوبا، لم يؤخذ في الاعتبار. وما أكثر القواعد العسكرية والمحطات التجسسية الأميركية "العتيقة" التي تطوق روسيا. فهل عمدت الولاياتالمتحدة إلى اغلاق واحدة منها؟ العكس هو الصحيح. فقد ظهرت محطة انذار جديد في النروج قرب الحدود الروسية. كما أن الأميركيين يرسخون أقدامهم في القواعد والمطارات والمواقع السرية الروسية في آسيا الوسطى بحجة مكافحة الإرهاب الدولي وتحت ستار الحرب في أفغانستان. ومهما يكن فإن المحللين يعتبرون اغلاق محطة الاستخبارات الالكترونية في ضواحي العاصمة الكوبية حدثاً ذا دلالة كبيرة من الناحية السياسية، فهو يرمز إلى انتهاء فترة 40 عاماً من الوجود العسكري الروسي السوفياتي في النصف الغربي من الكرة الأرضية، الذي كانت أزمة الكاريبي العام 1962 ذروة له. آنذاك سحب الروس صواريخهم المتوسطة المدى 60 صاروخاً بعدما كانت موجهة ضد الولاياتالمتحدة، ويومها أعرب الرئيس الكوبي فيديل كاسترو عن استيائه من اجراءات نيكيتا خروشوف تلك. وهو اليوم يعبر عن حيرته ازاء قرار موسكو اغلاق محطة لورديس التي تغطي استخبارياً أكثر من نصف أراضي الولاياتالمتحدة أو كلها تقريباً في رواية أخرى بعدما قام الروس بتحديثها في الفترة من 1996 إلى 1999. غير أن شطب الوجود العسكري الروسي من على خارطة كوبا أمر موضوعي لا مفر منه، باعتقاد المحللين، لأنه نابع من واقع سقوط الاتحاد السوفياتي ومن التحولات الديموقراطية التي جرت في روسيا، ومن تحول سياستها الخارجية التي حتم تغيير الأولويات تجاه كوبا أيضاً. ووجدت روسيا صعوبة كبيرة في اتخاذ مثل هذه التدابير، بسبب غياب الإرادة السياسية الحازمة ونتيجة لقوة الاستمرارية والتأثر بالكليشهات العقائدية القديمة. وأخيراً تمكنت روسيا من تجاوز تلك الصعاب، ويبدو أن الوقت حان فعلاً لاجراء جذري كهذا. وتوافرت ظروف تجعل المماطلة والتسويف شيئاً مخالفاً للمنطق. فالوظيفة الاستراتيجية التي كان يؤديها مركز الاستخبارات الالكترونية انتفت بعدما تحولت أميركا أو روسيا من عدو إلى صديق، ثم ان الاعتبارات الاقتصادية لعبت دورها، إذ أن ايجار المركز وحده كلف روسيا 200 مليون دولار سنوياً. وبلغ مجموع ما أنفقته عليه روسيا "الفقيرة" في السنوات العشر الماضية 3 بلايين دولار. ويقول الجانب الروسي إن كوبا كانت على الدوام تتسلّم الايجار نقداً أو بالمقابل السلعي، وترفض حسم المبلغ من الديون المترتبة عليها للروس وقدرها 10 بلايين دولار. وعلى كل، كانت للاستخبارات الالكترونية الروسية أهمية بالغة بالنسبة إلى الدوائر الأمنية، كونها وسيلة موثوقة للتأكد من صحة المعلومات. فالمخبرون والأقمار الاصطناعية يقدمون معلومات ثمينة لا تغدو أكثر دقة وتوثيقاً إلا بعد مقارنتها بمعلومات الاستخبارات الالكترونية، ولذا ثمة من يقول إن الروس يغادرون كوبا من الباب ليعودوا إليها من الشباك. فعندما تسربت أولى أخبار غلق قاعدة كمران ومحطة لورديس العام الماضي، أكد كبار المسؤولين الروس النبأ الأول وكذبوا الثاني. ويستنتج المحللون من ذلك ان الروس يستخدمون المحطة التجسسية أو المركز الالكتروني لمصلحة اقتصادهم الوطني هذه المرة، مما يعني ان منسوبي الاستخبارات العسكرية لن يظلوا عاطلين، وسيتحولون إلى التجسس الاقتصادي لاستحصال التقنيات الجديدة وأسرار الاتصالات التجارية والمخططات السرية لكسب الأسواق