يحمل الرئيس جورج بوش "بشارة" الى نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي يلتقيه اليوم، فهو سيبلغه قرار حلف الأطلسي قبول سبع دول جديدة وبالتالي سيضعه أمام واقع مر، وهو ان قواعد الحلف صارت على مشارف روسيا. وهذه "البشارة" قد تتزاوج مع "بشرى" ثانية، إذ لا يستبعد ان يطلع بوش مضيفه على سيناريوات لاحتلال العراق وتعطيل العلاقات الاقتصادية بين موسكووبغداد. وستتعاظم "فرحة" الكرملين عندما يطلب منه الضيف الأميركي أن ينهي الحرب الشيشانية ويشرع في مفاوضات مع الذين وصفهم بوتين بأنهم "ارهابيون". هذه وغيرها من المحاور ستبحث أثناء زيارة بوش الى مدينة سانت بطرسبورغ، وهي الثانية الى روسيا السنة الجارية. وهذه الحقيقة في حد ذاتها كان يمكن أن تعد تجاوزاً للبروتوكول يعبر عن متانة العلاقات بين الكرملين والبيت الأبيض، إلا أن الروابط الثنائية غدت في الواقع أشبه بعلاقة الفرس والفارس، ودأبت الولاياتالمتحدة على أن تأخذ من روسيا كل شيء ولا تعطي سوى الوعود، وحتى هذه صارت تضن بها. ومنذ أحداث 11 أيلول سبتمبر ادخلت موسكو تعديلات جذرية على سياستها الخارجية وأصبحت في الواقع شريكاً بل وحتى حليفاً لواشنطن في حملتها ضد "الارهاب" عموماً وفي أفغانستان تحديداً، ووضعت مجالها الجوي تحت تصرف الطائرات الأميركية وأعطت الضوء الأخضر لإقامة قواعد عسكرية في جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تعد من أقرب حلفاء موسكو. وفي وقت لاحق قرر الكرملين تأكيد "ولائه" لواشنطن بالتخلي عن قاعدتي كامران في فيتنام ولورديس في كوبا، كما عمد الى اثبات "حسن النية" بتقليص العلاقات مع بيلاروسيا، الجارة السلافية الحليفة لروسيا، لكون الأخيرة لا تحظى برضى الولاياتالمتحدة وتعاطفها. وفي سياق خطوات أخرى كثيرة أجرت روسيا مراجعة لسياستها الخارجية على محاور عدة، وتحديداً في الشرق الأوسط، فلم يعد ثمة تباين كبير بين موقفها والتعاطي الأميركي، وغدا "التفهم" للسياسات الاسرائيلية وممالأتها أحياناً ظاهرة مألوفة في موسكو. وأخيراً عمدت روسيا الى "تليين" موقفها من مشروع القرار الأميركي الذي صدر تحت الرقم 1441 وذلك تحاشياً لاستخدام حق النقض "الفيتو" وتفادياً لأي "ازعاج" للأميركيين. وفي المقابل حصلت روسيا على... قبض ريح، بل وكانت أحياناً "تُعاقب" على افراطها في ابداء الود. وهكذا حصل حين قامت الولاياتالمتحدة بإلغاء معاهدة "آي بي أم" للصواريخ المضادة للصواريخ والتي ظلت موسكو تعدها الحجر الأساس في الاستقرار الاستراتيجي العالمي. ولاحقاً شنت واشنطن حملة ضد ما سمته "محور الشر" الذي ضم ثلاث دول، ايرانوالعراق وكوريا الشمالية، تربطها بموسكو علاقات سياسية واقتصادية وثيقة. ونكثت الولاياتالمتحدة بوعودها اخلاء المرتكزات العسكرية التي حصلت عليها في آسيا الوسطى بانتهاء حملتها ضد "طالبان" و"القاعدة" وأقامت قواعد ثابتة أكبرها في "ماناس" في قيرغيزستان. وتحركت واشنطن على محور القوقاز فأرسلت مجموعة عسكرية الى جورجيا بحجة "تدريب" قواتها المسلحة، لكنها في الواقع شرعت في التمهيد لإقامة مرتكز ثابت لها في الخاصرة الجنوبية لروسيا. ولم تتحقق آمال موسكو في دعم اميركي للحملة الروسية في الشيشان باعتبار ان المقاتلين هناك "ارهابيون"، ولا يمكن التفاوض معهم. الا ان الرئيس الاميركي الذي ايد بوتين في طريقة تعامله مع حادث احتجاز الرهائن في مسرح موسكو، قال ان على روسيا، على رغم ما حصل، ان تبحث عن سبل ل"حوار سياسي من اجل حل سلمي" للمشكلة الشيشانية. ويلاحظ السياسيون الروس ان الصحافة الغربية عادت الى تشديد انتقاداتها لسياسة موسكو حيال الشيشان واتهامها بانتهاك حقوق الانسان، بعدما توقفت عن ذلك منذ أحداث 11 أيلول. ويضاف الى الخيبات الكثيرة القرار الذي اتخذ في قمة براغ أمس بضم سبع دول الى حلف الاطلسي منها ثلاث من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق لاتفيا وليتوانيا وأستونيا وثلاث من الدول التي كانت عضواً في حلف وارسورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا التي كانت جزءاً من تشيكوسلوفاكيا، اضافة الى سلوفينيا وهي من "شظايا" يوغسلافيا التي لم تكن عضواً في حلف وارسو لكنها كانت على صلات وثيقة مع موسكو. وبذا يقترب الاطلسي من حدود روسيا ذاتها وتصبح طائراته التكتيكية قادرة على ضرب مواقع فيها كما ان صواريخه يمكن ان تصيب المدن الروسية في غضون دقائق، وبذلك فإن بوش الابن يلغي تعهداً قدمه والده الى الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بأن حلف الاطلسي لن يمتد شرقاً. وتوسيع الحلف حالياً ستكون له كلفة اقتصادية لروسيا، اذ ان الدول المنتمية اليه حديثاً كانت من الزبائن التقليديين لمؤسسة بيع السلاح الروسي ومنذ الآن ستضطر الى التحول نحو الغرب. الا ان خسارة روسيا الكبرى هي في المجال الاستراتيجي، فالحلف الذي سيضم 26 دولة اوروبية يبقى مفتوحاً امام دول اخرى لكنه مغلق في وجه روسيا. وستغدو الاخيرة محاصرة تماماً في حال نفذت شقيقتها السلافية اوكرانيا نيتها الانتساب الى الاطلسي، او اذا "افلحت" القوى اليمينية الروسية في توسيع شقة الخلاف بين موسكو ومينسك ودفعت الاخيرة الى الارتماء في احضان الغرب. وقد يكون احد اهداف زيارة بوش الى سانت بطرسبورغ يتمثل في "جبر الخواطر" والتخفيف من مرارة العلقم الاطلسي، وهو قال عشية وصوله ان اقتراب الحلف من حدود روسيا وتحديداً في البلطيق "ليس مدعاة للخوف" ومضى شوطاً ابعد حين قال مخاطباً الروس "يجب عليكم ان ترحبوا بذلك". وقامت موسكو ب"تنفيذ الامر" فوراً، اذ اعلن وزير خارجيتها ايغور ايفانوف ان بلاده "اصبحت لا تعتبر توسيع الاطلسي نحو الشرق خطراً ... لأن نشاطه غدا يتركز على محاربة الارهاب العالمي". وهكذا تتخلى روسيا عن مواقع تشبثت بها ودافعت عنها طوال 50 سنة وتمهد ل"نجاح باهر" لزيارة بوش، أو على الأقل في شقها المتعلق ب"ترضية" بوتين. ولن يكون ثمة "بوس لحى" في سانت بطرسبورغ، الا ان الرئيس الأميركي قد يعرض "تعويضات" على روسيا لقبولها "جيرة" الاطلسي اضافة الى انه سيعد كمية من "الجزرات والعصي" لاستخدامها من اجل استحصال ضوء أخضر روسي لعملية عسكرية محتملة ضد العراق. ويتوقع المراقبون ان يكون الملف العراقي أشد تعقيداً من "الاطلسي" اذ ان توسيع الحلف أصبح منذ أمد طويل امراً واقعاً ومتوقعاً، في حين ان موسكو ما زالت ترى خطراً على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في حال حدوث تغير جذري في بغداد. بيد ان موافقة روسيا على القرار 1441 الذي وصفه ايفانوف بأنه "متشدد" كانت مؤشراً واضحاً الى ان موسكو ليست مستعدة للتخلي عن "ود" الولاياتالمتحدة من اجل العراق. والارجح ان بوش سيسعى الى إقناع بوتين بإبقاء سيف ديموقليس مصلتاً فوق العراق والتغاضي عن عملية عسكرية محتملة تقوم بها الولاياتالمتحدة ضد بغداد. بل ان سيرغي كاراغانوف رئيس "مجلس السياسة الخارجية والدفاع"، وهو منظمة غير حكومية لكنها تعد من "مراكز التفكير" الأساسية في روسيا دعا الكرملين الى "تجاوز العقد" والانضمام الى الحملة الأميركية المقبلة شرط الحصول على "مكافآت" مناسبة. وقد تكون مناقشة هذه المكافآت عنصراً مهماً في لقاء بوش - بوتين، ولكن من الواضح انها ستبقى طي الكتمان. وثمة مؤشرات الى ان الأميركيين سيعرضون على روسيا تعهدات بالحفاظ على العقود المبرمة مع بغداد في المجال النفطي وفي قطاعات اخرى، الى جانب انهم قد يقترحون "التعويض" على روسيا باستثمار عشرات البلايين من الدولارات لاستخراج النفط من شرق سيبيريا وتصديره الى الولاياتالمتحدة ليكون بديلاً من النفط العربي. واذا وافق بوتين على استبدال عشرة عصافير على الشجرة بدلاً من العصفور الواحد الذي في يده فإنه بذلك سيحصل على لقب "الصديق الصدوق" لكنه سيضع الخطوة الأولى على طريق تحويل روسيا من دولة كبرى الى جزء من الامبراطورية الاميركية، وهو في هذه الحال سيغدو، كما يقول المعلق السياسي المعروف اليكسي باشكوف، "والياً وليس رئيساً".