بين ندوة "الفرنكوفونية والعالم العربي: حوار الحضارات" التي نظمها اخيراً "معهد العالم العربي" في باريس، ومؤتمر "المنظمة الدولية للفرنكوفونية" الذي ينعقد في العام المقبل في بيروت، علاقات متشابهة متواصلة تتطور معها الفرنكوفونية من طبيعتها الثقافية، الى طبيعتها الشاملة، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، حيث تتجاوز اهداف منظمتها الدولية ما نقلته اللغة الفرنسية من آداب وعلوم، ولا تزال، الى اكثر من خمسين بلداً في العالم تنتشر بين اوروبا وافريقيا وآسيا، وصولاً الى كندا، الى آفاق التعاون الانساني، في مداه الاوسع، وعبر التفاعل الحضاري المنشود بين شعوب العالم. اي ان الحضارة الفرنسية، وفي جذورها المتنوعة الينابيع والاسماء، والتي تكتشف مجالها الحيوي الخلاق، في الاتصال مع بقية اللغات لتجد في الثقافات العالمية الاخرى - والثقافات المستنيرة العميقة - عوالم معرفة، وحقول تجارب متبادلة، تخدم مستقبل اللغة الفرنسية بمقدار ما تخدم التقارب اللغوي - اي التقارب في المعارف وإثراء المواهب - بين سكان الكرة الارضية، وقد تحسنت سبل الاتصالات في ما بينهم، واطلّت اللغة الانكليزية، ذات الانتشار الاكبر بالنسبة الى عدد المتكلمين بها في العالم - لتكون اللغة نفسها التي تؤدي علمياً ما بلغته الاختراعات الحديثة في مجالات الكومبيوتر والانترنت، وكلّ ما تنعكس به ثقافياً وتجارياً وتسويقياً واستهلاكياً لمزاحمة اوروبا وبقية القارات من خلال العولمة التي تجسّدها الولاياتالمتحدة الاميركية سياسياً قبل سواها. واذا صحّ ان الوجه الثقافي من تقدم المعلوماتية والانترنت، يظل في محتواه الحقيقي سطحياً اذا تمّ قياسه بروائع الآداب والفنون الخالدة، التي كانت اللغة الفرنسية من كبار امّهات هذه الروائع، وإنّ الكومبيوتر مهما تطور تكنولوجياً، لا يقدر على نظم الشعر، او توليد الافكار الفلسفية، فان حوار الثقافات الذي تدعو اليه الفرنكوفونية يحجب وراءه حوارات متعددة، تشتمل على مختلف وجوه الحياة العصرية، وعلى جميع الجوانب التي تتأثر بها المجتمعات الدولية - إن لم يكن المجتمع الدولي الاكبر الاوحد - ثقافياً وتربوياً وبيئياً وتجارياً وصناعياً وعسكري، حتى يمكن للحوار ان يثمر ايجابياً، وان يعبر عن عبقرية اللغة الفرنسية في تجسيدها لعبقرية الذين يكتبونها او يتهيأون تعليمياً لقراءتها. ذلك ان العودة الى موضوع ندوة "معهد العالم العربي"، والتي تأتي ضرورية في هذا الاطار، تفسر مغزى انفتاح الفرنكوفونية على اللغة العربية، وفي إطار الروابط التاريخية القديمة بين شعوب سواحل البحر الابيض المتوسط، وامتدادها، ثم امتداد تفاعلها الثقافي مع اوروبا، خصوصاً فرنسا، حتى داخل العالم العربي كله. والبرنامج المتنوع، والغنيّ الذي يتم إعداده لمؤتمر الفرنكوفونية في لبنان في تشرين الاول اكتوبر 2001 يحفل تأكيداً بضرورة تمتين العلاقات الثقافية بين لبنانوفرنسا، على غرار ما ينبغي من تمتين مماثل مع جميع البلدان الناطقة بالفرنسية كلياً او جزئياً او التي سيتاح لها مجال التطور والانفتاح كي يتعلم ابناؤها اللغة الفرنسية الجاهدة لمجاراة اللغة الانكليزية في ميادين التكنولوجيا الحديثة. والبرنامج هذا سيجري إحصاء بما حققته الفرنكوفونية حتى اليوم وما تنوي تحقيقه من تشجيع لدراسة الفرنسية، ودعم إقامة مراكز البحث والادارة، علاوة على الترجمات من اللغة الفرنسية واليها، هذه الترجمات التي اتسعت وكثرت عناوينها خلال العقود الاخيرة، ولكنها تبقى في حاجة كبرى الى تحسين نوعية الآثار المختارة للترجمة، وتحسين نوعية الترجمة حتى تؤدي المرجوّ منها، إطلاعاً وتثقيفاً لجماهير القراء والدارسين، اياً يكن موضوع الترجمات، وما تهدف اليه، على صعيد المسرح او السينما، أو التلفزيون. فالفرنكوفونية التي كانت في الماضي مسؤولة عن نشر اللغة الفرنسية، اصبحت في توجهاتها الجديدة مسؤولة عن جودة الحوار الذي تقيمه مع اللغات والثقافات الاخرى، حتى يثمر التفاعل روائع انسانية ذات مستوى ابداعي دائم. والنوعيّة في نشاطات الفرنكوفونية والتي تقف اساساً وراء الاحترام الدولي الذي تحظى به، يجب ان تبقى المقياس الاول في تحديد شروط التعليم والا تضيع امام كمية المدارس الابتدائية والثانوية، او الجامعات، التي تدعي تدريس الفرنسية وآدابها، وتمنح شهادات الاختصاص والدكتوراه فيها، بينما الحاصلون على هذه الدرجات المتفوقة، يثيرون الشكوك بالجامعات نفسها، نظراً لما يرافق نيل تلك الشهادات من شبهات، يتخرج معها الطلاب وهم غير جديرين بما يدّعون حمله من تحصيل جامعي، وما اكثر الامثلة في مختلف بلدان العالم وفي مختلف اللغات. "المنظمة الدولية للفرنكوفونية" ستجتمع عام 2001 في بيروت، وكانت منظمة "اليونيسكو" من قبلها خصت بيروت، بتسميتها عاصمة للثقافة العربية للعام 1999. وفي معرض التمني لمؤتمر الفرنكوفونية ان ينجح في لبنان اكثر مما نجحت برامج العام الماضي على صعيد التبادل المحدود جداً، بين لبنان و"اليونيسكو"، والذي لمْ يسفر عن انتاجات ثقافية بارزة، في جميع المجالات، لا بدّ من التذكير بالمقال الذي صدر في "الحياة"، وبمناسبة بيروت عاصمة للثقافة العربية عام 1999، حول اقتراح كتابة انطولوجيا تجمع ذكر اسم "لبنان في الشعر"، منذ العصور القديمة حتى الآن، وفي مختلف اللغات والثقافات، بالتعاون بين لبنان واليونيسكو، الى جانب امكان كتابة انطولوجيا اخرى مثلاً، عن "العروبة في الشعر"، وانما، مع الاسف - من دون اغتنام لبنان فرصة 1999. ربما ان للبنان في اللغة الفرنسية شعراء وادباء وكتاباً كثيرين، فهل يكون حظّ الانطولوجيا عام 2001 اكبر؟ والفرنكوفونية المنفتحة على الثقافات الاخرى، قد تستطيع تشجيع المسؤولين عن الثقافة، يترأسها مرجع كبير في الادب والتاريخ كالدكتور علي شلق المعروفة مؤلفاته في هذا المجال، كي تباشر التحضير والعمل؟ وفي المجلس الاعلى للفرنكوفونية المؤلف من ثلاثين عضواً، عضوان لبنانيان بارزان هما الروائي امين معلوف والمحامي بازيل يارد، وهما قادران على جعل التحضيرات القائمة تمهيداً لمؤتمر العام القادم، اكثر تجاوباً وفاعلية، ضمن البرنامج الواسع، الذي تعقده الامانة العامة "لمنظمة الفرنكوفونية الدولية" باشراف الامين العام الدكتور بطرس بطرس غالي. ولئن صحّ ان الثقافة هي ثروة لبنان الاولى، وانّ اللغة العربية، لغتُهُ الام، هي اساس العطاء الحضاري الذي يميّزه، فان ما يصحّ ايضاً وايضاً، هو ان ينجح لبنان، على صعيد الفرنكوفونية في مزيد من الانتشار العالمي يجعله يتلاقى وبقية الثقافات من انكلوسكسونية وسواها على طريق الغد الانساني الارقى والانبل والاجمل. * كاتب لبناني مقيم في باريس.