لم يسبق أن شلّت حركة السير في بعض الدول العربية خلال فترة الازدحام، كما حدث عندما بثت الفضائية اللبنانية L.B.C. برنامج الرشاقة واللياقة البدنية. كما لم يسبق ان تحدثت صحف خليجية عن مساجلات زوجية بسبب تسمر الزوج أمام الشاشة الصغيرة، كما جرى عندما ازدهرت ظاهرة برامج المنوعات على الفضائيات اللبنانية، تلك البرامج التي تركز على الأناقة والجمال والقوام الرشيق واللسان الماهر، مع ما قدمت من جمالات فضلاً عن اغراء المبنى والمعنى في الشكل والمضمون. لكن هذه الحقائق التي كانت قبل سنوات أقرب الى الخيال، قد تحتاج قريباً الى خيال آخر لتأكيد الاستمرار وتثبيت المركز في الطليعة، كي لا يكون نجاح الفضائيات اللبنانية فورة ظرفية وحسب. فأين موقع هذه الفضائيات راهناً على الخريطة المرئية العربية الصاروخية التطور والانتشار؟ مطلع تسعينات القرن العشرين أدركت العولمة الاعلام، وصارت العولمة والاعلام توأمين. ولم يكن انتصار الC.N.N الاعلامي في حرب عاصفة الصحراء العام 1991، سوى الوجه الآخر لانتصار القوات المتحالفة التي تولت تحرير الكويت. فكان تعميم الحقيقة الاعلامية الاميركية أقوى سلاح يُساهم في خدمة الحقائق العسكرية الميدانية. وبدا الاعلام العربي آنذاك واقعاً تحت تأثير النظرة الاعلامية الأحادية، متلقياً لا مساهماً في ضخ ونقل المعلومات. في تلك الفترة كان لبنان الطالع حديثاً من حربه الطويلة 1975 - 1990 يبحث عن وظيفة ودور أوسع للوسائل الاعلامية، خصوصاً التلفزيونية منها، التي تكاثرت خلال الحرب وبعدها ثم تأقلمت مع مرحلة السلام وراحت تفتش عن صورة أشمل وسوق أكبر على صعيد المشاهدين والمعلنين. فاختارت المحطات اللبنانية أولاً "العوربة" على طريق العولمة الاعلامية بالنظر الى حاجة الجمهور العربي الكبير الى وسائل تحكي لغته وتحاكي وجدانه وقضاياه، ولكون العالم العربي، ثقافياً واقتصادياً، هو المدى الحيوي للمؤسسات التلفزيونية اللبنانية. وفيما باشر مركز تلفزيون الشرق الأوسط M.B.C البث من لندن العام 1991 ثم تبعته شبكة Orbit، وشبكة راديو وتلفزيون العرب ART، والفضائية المصرية، تأخر صعود الفضائيات اللبنانية الى الأثير بسبب ظروف لبنان السياسية حتى العام 1996، على رغم البث التجريبي المتقطع الذي باشرت به المؤسسة اللبنانية للارسال L.B.C وتلفزيون "المستقبل" العام 1993. وهكذا، ومنذ منتصف العام 1996 تاريخ بدء البث الفعلي للفضائية اللبنانية LBC على القمر الصناعي العربي Arabsat ثم انطلاق بث تلفزيون المستقبل آخر العام نفسه وعلى القمر ايضاً، حصل انقلاب فعلي في الصورة التلفزيونية العربية، واستطاعت المحطتان في فترة قياسية احتلال مركزين من المراكز الثلاثة الأولى في المساحة التلفزيونية العربية. ويؤكد كل من المدير العام لتلفزيون المستقبل الدكتور نديم المنلا ورئيس مجلس ادارة المؤسسة اللبنانية للارسال الشيخ بيار الضاهر، ان الكتلة الكبرى من مشاهدي الفضائيتين اللبنانيتين هي بحسب الاحصاءات في المملكة العربية السعودية، وبعدها تأتي سلطنة عمان والأردن ثم دولة الامارات العربية المتحدة واليمن وتتأرجح بنسب متفاوتة في بقية البلدان العربية. أما الدكتور المنلا فيعتمد اضافة الى انطباع الناس، على الموازنات الاعلانية لقياس نسبة المشاهدين، ولكنه يميز في النهاية بين السوق الاعلانية والسوق الاعلامية، لأن النتائج لا تكون دائماً متطابقة. ويورد مثلاً على ذلك فيقول ان اكثر من 80 في المئة من الموازنات الاعلانية تتركز في المملكة العربية السعودية، فيما نسبة مشاهدي "المستقبل" في الأدن وسورية لا تصدق على حدّ تعبيره. ويشير في السياق نفسه الى ان الM.B.C والL.B.C والمستقبل تستحوذ كمحطات متنوعة لا متخصصة على أكثر من 90 في المئة من الموازنات الاعلانية، فيما تحصل الفضائيتان اللبنانيتان L.B.C والمستقبل على 55 في المئة من السوق الاعلانية الاجمالية في المنطقة، كما يقول الشيخ بيار الضاهر، لافتاً الى ان الفضائية اللبنانية L.B.C تحوز ثلث السوق تقريباً، وهي تحتل اليوم المرتبة الأولى في المشاهدة. ماذا بالنسب إلى البرامج؟ - الواضح، وبعد أربع سنوات من متابعة المحطتين اللبنانيتين، ان برامج المنوعات والألعاب احتلت حيزاً واسعاً من شبكات البرامج وساعات البث، تليها البرامج الحوارية والرياضية ثم الاخبار والبرامج السياسية. ودلت آخر الاحصاءات ان المنوعات ما زالت تحتل أولوية في طلب المشاهد العربي. ويوضح الضاهر ان برنامج المنوعات "يا ليل يا عين" على الL.B.C يتربع منذ مدة على القمة، يليه برنامج الألعاب والمنوعات "ع الباب يا شباب" ثم البرنامج الحواري مع شخصيات ثقافية وسياسية "حوار العمر" وبعده الدراما اللبنانية "طالبين القرب" والاخبار والفيلم الاميركي... ولا يناقض د. منلا رأي الضاهر حول أهمية المنوعات في الفضاء التلفزيوني اللبناني، لافتاً الى ان المحطات اللبنانية استطاعت ان تقدم نفسها للجمهور ك"بوتيك" وليس كسوق شعبية! ذلك ان اسلوب توضيب البرامج والتسلسل الانسيابي في توقيت العرض، خلقا لهذه المحطات هوية وانتماء. وأضاف ان البرامج الحوارية مرغوبة جداً في العالم العربي خصوصاً اذا كان المقدم امرأة لأن الأمر ليس مألوفاً في المجتمعات العربية. بينما يشدد الضاهر على ان محطته قطعت هذه المرحلة. ويقول: قد يزيد وجود المرأة نسبة المشاهدة حوالي عشرين في المئة، ولكن لا يمكن الاعتماد باستمرار على هذه القاعدة لأن أي امرأة مهما كانت ناجحة وجذابة لا تستطيع ان تسوِّق برنامجاً فاشلاً. أما بالنسبة الى الرياضة فيتحدث المنلا عن واقع صعب. فإضافة الى الكلفة التي أضحت باهظة يستطيع المشاهد ان يتابع المباراة نفسها على شاشات مختلفة، وتحاول المحطات ان تتميز بالتعليق وحسب. اما لماذا تقدمت المنوعات على السياسة ونقاطها الساخنة في الفضائيتين اللبنانيتين؟ فالجواب متعدد الجوانب، والأسباب بعضها لا يقال، وبعضها الآخر يشار اليه بالتورية والمقارنة مع محطة "الجزيرة" القطرية التي استطاعت ان تحجز لنفسها موقعاً بارزاً من خلال نمطها في التعاطي مع المواضيع السياسية، مع الإشارة الى ان الريادة في الاخبار ما زالت لمحطة M.B.C، فيما تتميز "الجزيرة" ببرنامجين سياسيين فقط. مدير تلفزيون "المستقبل" برر ضآلة حجم المساحة السياسية بالقول انه لا يمكن مقارنة محطة متنوعة بمحطة متخصصة بالاخبار والبرامج السياسية كالجزيرة مثلاً. واستطرد انه يختلف مع توجه محطة "الجزيرة" التي تعتمد خطاً لا ينحاز باستمرار الى الموقف العربي، كما حصل أخيراً خلال تغطية المفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي، إذ ركزت "الجزيرة" على مطالبة اسرائيل بالتعويضات بمليارات الدولارات بينما لم تُشر الى حق لبنان بالتعويضات نتيجة الاحتلال الاسرائيلي والعدوان على أرضه. وتابع المنلا: ان المحطات العربية لا يمكن ان تكون محايدة في الدفاع عن حقوق العرب. وفي الإطار عينه أشار مدير عام L.B.C الى ان "الجزيرة" أباحت لنفسها تخطي بعض المحظورات والخطوط الحمر السياسية التي لا نسمح لأنفسنا بتجاوزها. واذا كان للغوص في السياسة وبرامجها محاذير، فهل هناك محرمات أو ممنوعات أخرى؟ الكلام عن محرمات هو تضخيم للواقع بحسب الضاهر والمنلا اللذين أشارا في هذا المجال الى مراعاة الخصوصيات الدينية، وبعض تقاليد البلدان العربية وعدم التدخل في الحساسيات بين الدول العربية، أو التعاطي في الشؤون الداخلية. وما خلا ذلك، فلا عقبات أو ممنوعات كما ان اللهجة اللبنانية التي بدت غريبة على أذن بعض المجتمعات، أصبحت مستساغة ومحببة ومرغوبة. وإذا كانت هذه معطيات الماضي القريب والحاضر الراهن، فماذا عن الغد في ظل سرعة وكثافة التطور التكنولوجي وولادة تقنية الوسائط المختلفة Multimedia في القرية الكونية الاعلامية؟ يعترف الضاهر بأن هذا التطور سيفسح في المجال أمام اطلاق خمسمئة قناة، قد تخلق مشكلة منافسة لاربع أو خمس محطات رئيسية يمكن ان تستوعبها السوق. لكنه مطمئن الى ان الأمر لن يعدو كونه مجرد فورة عابرة، يعود بعدها المشاهد الى التركيز على أربع أقنية مفضلة لديه، وبين هذه الاقنية ستدور المعركة على الصدارة. بمعنى آخر، يقول الضاهر انه اذا كانت المحطات الأربع "ال.بي.سي" و"المستقبل" و"ام.بي.سي"، والفضائية المصرية، تستقطب الآن تسعين في المئة من المشاهدين، فستنخفض النسبة الى حوالي ستين في المئة مع تعدد المحطات وتكاثرها. ولمواجهة هذا الواقع لم يستبعد الضاهر قيام شراكة أو مشاريع دمج بين المحطات العربية خصوصاً مع ارتفاع الاعباء المالية وكلفة التشغيل التي ستجبر الجميع على التفكير بهذا الحلّ. وأضاف الضاهر ان رأس مال الشركات التلفزيونية العالمية ضخم جداً لدرجة انها لا تلاقي صعوبات في انفاق مئة مليون دولار مثلاً لاستيعاب المساحة التلفزيونية في لبنان، واستنزاف المحطات اللبنانية. واستطرد ان لا حل لل"ال.بي.سي" بعد خمس سنوات الا ان تشكل جزءاً من "كارتل" تلفزيوني عربي لكي تتأهل في مرحلة لاحقة الى الدخول في مجموعة عالمية أكبر. الدكتور المنلا له رأي مشابه لمواجهة مشكلة الانفجار العددي التلفزيوني العربي والاقليمي. فهو اقترح حلاً على الطريقة الاميركية، حيث هناك المحطة الأم والمحطات الشقيقة التابعة لها. وثلثا الانتاج في المادة المعروضة يكون للمحطة الكبرى وشقيقاتها ويترك هامش الثلث للبرامج الخاصة بكل محطة، والتي تعكس توجهها الخاص أو اهتمامات المنطقة القائمة فيها. وتابع المنلا: ماذا يمنع ان تكون هناك محطة أم في الخليج توزع برامجها على محطات الدول الخليجية التي تحتفظ بثلاثين في المئة لعرض انتاجها الخاص، فتنخفض الكلفة وتتأمن استمرارية هذه المحطات. وماذا يمنع ايضاً ان تنشأ محطة واحدة لسورية ولبنان والأردن وفلسطين والعراق ومحطة لمصر والسودان والمغرب، الخ؟ لكن المنلا استدرك معترفاً بمشكلة أساسية تعيق اقتراحه وتتمثل في ان معظم المحطات العربية تملكها الحكومات والانظمة التي لها نظرة الى الاعلام تختلف عن القطاع الخاص. وبعد ان شدد على ان لا حل بديل امام المحطات العربية سوى ابتكار آليات للتعاون كمرحلة انتقالية، حذر المنلا من خطر سقوط معظم الفضائيات العربية تحت وطأة الاعباء المادية في مواجهة محطات تملك الاموال والكفاءات، خصوصاً ان عدد المؤسسات التلفزيونية أكبر من قدرة السوق على الاستيعاب. وعلى غرار ما قال الضاهر عن الL.B.C، فإن المنلا يعتبر ان المطلوب في هذه المرحلة ان تستمر "المستقبل" محطة اساسية، حتى يحين وقت الاندماج الذي سيحصل عاجلاً أم آجلاً. وكشف أخيراً عن اطلاق قناة فضائية جديدة لتلفزيون المستقبل في النصف الأول من العام الحالي لتأمين انتشار أوسع وتعزيز حضور "المستقبل" في العالم. أما مدير عام ال"ال.بي.سي" الذي كان أول من فكر في الخروج من الاطار اللبناني العام 1991، فيبدو أكثر تريثاً، إذ اعتبر ان المعركة الفعلية لم تبدأ بعد، ومن الخطأ الدخول في المعركة باكراً واستباق الأمور، ذلك ان الخطأ في التوقيت يؤدي الى صرف أموال في غير موقعها. ولكن هذا لا يعني ألا تستمر ال"ال.بي.سي" في التجديد وفي العمل على المحافظة على موقعها الأول. يبقى السؤال الآتي: هل الفضائيات اللبنانية التي تخطت تحدي الانطلاق والنجاح، ستتمكن من كسب رهان الاستمرار والانتشار؟ والجواب بعضه مراهنة على الاعجوبة اللبنانية التقليدية، وعلى مساحة الحرية الباقية في البلد الصغير، وبعضه الآخر مراهنة على اعجوبة ما، قد تظهر في تطور عربي في مجال آليات التعاون يواكب تطور التكنولوجيا والآلات