تمتاز تجربة الشاعر العراقي خالد المعالي بسمات تقرّبه من النثر. فقصيدته تفصح عن انحياز نثري واضح، وعن سلوك شعري خاص في استعمال العوالم النثرية لكتابة قصيدة قصيرة، قليلة البلاغة، وغير معنية باللغة او بخلق المفارقة في المعنى، او الرهان على الخاتمة المفاجئة. كأن شعريتها تنبع من اهمال الكثير من التقاليد، وصوغ مناخها وفق منطق مفتوح على طموحات أخرى. المعالي المقيم في ألمانيا من أكثر من عشرين عاماً، التقته "الوسط" في بيروت حيث صدرت له مجموعة شعرية جديدة بعنوان "حداء". كيف كانت بداياتك، كيف تعرفت الى الشعر؟ - تكونت في الجو الذي كنت أعيش فيه. فقد سحرتني منذ الطفولة شخصية الشاعر الحسيني حين يكتب المراثي ويصف الأحداث الفجائعية التي تقود الناس الى الانفعال والبكاء والصراخ. أخذت أحاول أن أستغل فترات اختلائي مع الأغنام او الحمير كراعٍ في البراري، لكي أتمثل تلك الشخصية في قول الشعر الذي لم أنجح فيه البتة. أيضاً أخذت أتوجه الى أضرحة الأئمة، لكي أكون ذلك الشاعر المأمول. بعدها هناك الكثير من التفاصيل التي يمكن ايجازها بمحاولة الاطلاع المستمر على مختلف الكتابات الشعرية والنثرية المتوافرة. كما حاولت حفظ آلاف الأبيات الشعرية. وبدأت مبكراً بقراءة كتاب الأغاني وديوان أبي تمام والمتنبي، من دون ان يعني هذا أني قد نجحت في كتابة جملة مفيدة... حتى توصلت ذات يوم الى لا جدوى هذا الانهمام المصطنع بحفظ أشعار لا أفهمها. فالشعر يكمن في مكان آخر، فهو يكون في المكان الذي لا تتوقع ان تجده فيه. تبدو تجربتك كأنها انطلقت في المنفى الألماني، هل نشرت شيئاً قبل خروجك من العراق ؟ - بدأت النشر ولمّا أزل تلميذاً في الاعدادية، وقد توّجت هذه المرحلة بنشر أضمومة أشعار في كتاب بعنوان "لمن أعلن دفتري" العام 1978. كما كنت أنشر آنذاك على سبيل المزاح بإسم الدكتور خالد المعالي، وسبب ذلك أن أحداً لم يهتم بما كنت أرسله من محاولات للنشر، فأضفت لقب الدكتور الى اسمي. وهكذا نشرت محاولاتي، خصوصاً خارج العراق في الكويت وليبيا، واستلمت لأول مرة في حياتي مكافأة مالية لقاء هذا النشاط "الدكتوري". يلاحظ ان الذاكرة وهواجسها تحتل المساحة الأوسع في كتابتك. هل تعيد ذلك الى اقامتك في ألمانيا؟ - يبدو ان الاقامة بعيداً عن وطني، ساهمت بشكل مكثف في دفعي إلى استعادة الأحداث الأولى، والمكان الأول وصوره. الاستعادة ليس بمعنى العرض الفوتوغرافي النوستالجي، إنها استعادة تقوم على الاشتغال بهذا الماضي، أي إعادة انتاجه بطريقة ما، بدا لي انها طريقة شعرية. لا أعرف قضية الاتكاء، انما تقوم في جانب كبير منها على هذه الاستعادة، لكنها كما قلت ليست استعادة فوتوغرافية، اي ليست تكراراً. فهي تستعيد من منظور اليوم الشخصي بالنسبة إلي، تلك الأحداث، تلك الصور. لكي أعبّر بواسطتها عن نفسي شعرياً. قد أستعيد أو أكرر فقط، لكن هذا الشيء لا أستطيع الحكم عليه. فأنا أحاول التعبير عن نفسي من خلال هذه الامكانية البسيطة. هل تعتقد ان تجربتك كانت ستختلف لو بقيت في العراق؟ - بالتأكيد، هذا بديهي. ان تجربة كل كاتب محكومة بالمكان الذي يرتبط به، الكاتب يتأثر بمحيطه. وأنا أقيم منذ أكثر من عقدين في محيط معيّن، وأتواصل مع لغة أخرى غير الضاد، وهذا بالتأكيد سيمارس تأثيره الحاسم. يصعب تصنيفك في جيل شعري معيّن، او داخل نسق شعري محدد. ربّما لأنّ تجربتك نمت وترسخت خارج العراق. - أنت تعرف بالتأكيد ان كل هذه التصنيفات هي أشياء خارجية، وربما محض ثرثرات صحافية. فالشعر، اذا كان في ما أكتبه شيء من الشعر، شيء يتجاوز كل هذه الأطر. أنت كشاعر تأتي الى العالم بشيء من الموهبة، وبرغبة عارمة ربما في الاطلاع على خفايا هذا العالم - الخفايا من المنظور الشعري او المنظورات الأخرى، وعليك ان تصوغ رؤياك من خلال اللغة. أنت وحيد هنا وكل حديث عن الأجيال او المدارس المزعومة هو حديث وهم. ألست شاعراً عراقياً في نهاية الأمر؟ - أولاً أنا، ان كنت فيما أكتبه شاعراً، شاعر فقط. كل الأشياء الأخرى هي تفاصيل تأتي فيما بعد. لكن لكل شاعر صلات خفية بالمكان والزمان ربما، وأنا كغيري قدمت من هناك وستبقى تلك الطبيعة بكل جوانبها حاضرة، رغماً عني، فيما أكتب أو أتصور أو أحلم. لو انّي بقيت هناك لماذا إذاً هذا الالحاح على استعادة المكان؟ - الغياب يدفعك إلى افتقاد المكان واستعادته. لكن، لو بقيت هناك، لفكرت بالتأكيد بطريقة أخرى، ولتجلّت استعادتي لعوالم الطفولة بطريقة تختلف تماماً عمّا تراه في نصوصي الآن. كما أن إقامتي وعيشي في ألمانيا منحاني، ربما، شيئاً من امكانية التفكير بصوت عال. وهذا نبهني بشدة الى مشكلة الحشو ليس في النثر فقط، وانما في الشعر العربي الحديث أيضاً. حيث تبدو لك معظم القصائد العربية الحديثة اليوم وكأنها محض تهويمات لا علاقة لها بالمكان... وكأن الشاعر لا يعيش الآن بيننا، وإنما هو شاعر وهم يجتر قراءاته في أحسن الأحوال. لكل شاعر بيان شخصي. أين يكمن بيانك؟ وما هي التبدلات الأسلوبية التي خضع لها هذا البيان؟ - لو كان لدي بيان لكتبته وارتحت. لكني، حقيقةً، لا أعرف الا ذلك الهوس بقول شيء لم أستطع ان أقوله لحد الآن. وكلما توهمت بأني قد توصلت إليه، أكتشف أني لم أصل إلى مكان. هل هو السراب لا أدري، وأنا شخصياً ربما أتشكك في ذلك "الشاعر" الذي استطاع ان يعلن لنا بيانه، وما زال صوته يلعلع على الملأ. لكن هناك شعراء مهمين كتبوا بياناتهم صراحة في الستينات. - أنا أصرّ على أني شخص في سفينة تائهة، واذا كان ثمة بيان لدي فهو الذي، ربما، يسعفني الحظ في تركه في قنينة سترمى في البحر. وسيسعفني الحظ أكثر اذا ما التقطها قارئ ما، على شاطئ ما، واستطاع ان يقرأها ويفهم جدواها. أي ان البيان المزعوم لن يكون الا خلاصة ما كتبته، بعد ان أغادر هذه الحياة. هل هذا موقف مما يكتبه الآخرون؟ - أنا لا أهدف الى اعلان أي موقف مما يُكتب. أكتب ما أستطيع كتابته فقط. هذه هي طريقتي الممكنة من دون افتعال. لست بحاجة الى اعلان أي موقف مما يكتب اليوم، من شعر، فالسنوات القليلة المقبلة كفيلة بذلك. لكنك قبل قليل تكلمت عن الحشو الذي يملأ القصيدة العربية الحديثة. - أنا أحاول ان أكتب الشعر. وهذه العملية ليست ردّ فعل على ظواهر سائدة اليوم، بل هي نتيجة تجربة شخصية في الحياة. تجربة تتجاوز هذه الظواهر السطحية. ولكنك تكتب قصيدة نثر متخففة من حمولة لغوية تقليدية. - صدقني، لو راجعت تجاربي السابقة، لرأيت فيها أشياء أخرى ربما. لم أقصد استخدام أي أسلوب لغوي متخفف من البلاغة، وانما كتبت ما قادتني إليه حساسيتي فقط. إن ظاهرة شيوع البلاغة والحشو عند هذا الشاعر او ذاك، لم تكن دافعاً لتغيير خياراتي اللغوية، انما جاء اصطدامي بها نتيجة الاقامة في مكان آخر، والتعايش مع لغة أخرى، حيث اكتشفنا أهمية المفردة وأهمية البلاغة، وحضور الحشو والطنين في القصيدة العربية المعاصرة. إضافة إلى اسهاماتك في مجال نقل بعض الشعراء العرب إلى لغة غوته، أصدرت أنطولوجيا ألمانية للشعر العربي. أين تكمن برأيك قوة القصيدة العربية، وماذا يبقى منها بعد الترجمة؟ - تكمن قوة القصيدة العربية في اقترابها من مكانها، وفي محليتها بالدرجة الأولى. وبعدها يأتي بالطبع الابتعاد عن البلاغة المفرطة والحشو. وهناك طبعاً مدى نجاح الشاعر، او الشاعرة، في التعبير عن تجربته، المرتبطة به وبمكانه وبتاريخه. الصدق هو معيار الشعريّة، لا اللغو المجاني على طريقة "حاملاً سنبلة الوقت ورأسي برج نار"! تسشهد بشعر أدونيس كنموذج لما تعتبره عيباً في الكتابة الشعرية؟! - إنّه الشاعر الأكثر شهرة، وتجد صدى كتاباته في الكثير مما ينشر اليوم من شعر عربي رديء. تفتح النار على الشعراء، وتنسى أن ما تكتبه يقترب كثيراً من النص المترجم! - هذا ما تقوله أنت! أما حينما أترجم هذه المحاولات الى اللغة الألمانية، فيجد فيها أهل الشعر والنقد شعراً عربياً او شرقياً. وهنا لا أجد أي جواب على طرحك هذا، الا في كوني حائراً فعلاً ازاء هذا الأمر: فهل أنا أجلس فعلاً على كرسيين في آن واحد؟ أنت تشرف على "دار الجمل". كيف أخترت أن تصبح ناشراً ؟ - "منشورات الجمل" بالنسبة إلى محاولة اضافة بعد آخر إلى نشاطي في الكتابة والترجمة، من أجل التعبير عن مكنوناتي او رغباتي في النشاط الثقافي. منحتني هذه الدار امكانية ترجمة ونشر الكتاب الذي أحب أنا نفسي قراءته. أي يمكنك ان تعتبر عناوينها، على الأغلب، تمثل بعضاً من الكتب التي أحببت قراءتها شخصياً، وحاولت مشاركة القارئ في هذه المتعة. هذه عملية صعبة ومعقدة ومزعجة من جانب، لكنها ممتعة ومثيرة ومليئة بالاكتشافات من جانب آخر. وهي تشكل بالنسبة إلي نمطاً من الحياة، بطبقاتها الثقافية المتعددة، على رغم كل المصاعب والمشاكل التي تواجهني كناشر. أصدرت مجلة "فراديس"، ثم "عيون" بعد خلافات مع عبدالقادر الجنابي. هذا الخلاف الذي بات قديماً، يشكل ظاهرة يمكن تعميمها في أوساط المثقفين العراقيين في المنفى! - يشكل المنفى العراقي، مثل كل منفى، ملجأ مليئاً بالأفكار العجيبة الغربية. فهي تارة أفكار رائعة، وتارة أفكار مريضة تماماً، وليس في هذا الوضع ما يختلف عن المنافي الأخرى، كالأميركية اللاتينية على سبيل المثال. الخلافات إذاً أمر طبيعي تماماً، بل صحيّة وضروريّة. أصدرنا "فراديس" عن "منشورات الجمل" العام 1990، وأنيطت مهمة رئاسة تحريرها بالشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي. كانت تجربة جميلة، ضخت دماء جديدة في الحياة الثقافية العراقية والعربية. وقد أدت خياراتها الراديكالية الى خلافات، كانت وراء توقفها. انعدام معايير النشر معظم الشعر العراقي الراهن هو عملياً خارج العراق، لكنك تصرّ على استثناء نفسك من مقولة الأجيال، ألا ترى ان هذا يصعّب أي تحليل او متابعة يمكن ان يقوم بها الناقد؟ - لنعترف أولاً بأن هذا الناقد الكريم الذي تقصده لا وجود له، سواء كان الأمر يتعلق بالشعر العراقي او بغيره. وبالتالي فإن الحديث عن هذا الناقد المزعوم لا أهمية له. هناك أيضاً مشكلة مستشرية، هي انعدام معايير النشر في العالم العربي، وهذه مشكلة يعاني منها الشعر العربي الجديد. فأغلب ما ينشر اليوم من "دواوين شعرية" من انتاج أشخاص لديهم امكانات اقتصادية، في حين أن الشاعر العربي إجمالاً لا تسمح له امكاناته على الأغلب، بتغطية تكاليف نشر دواوينه. التشرذم هو واقع يخص الشعر العربي كله إذا، وليس الشعر العراقي فقط. وطبيعي ان يكون الوضع السياسي، في السنوات الأخيرة، لعب دوراً تدميرياً في تخريب الثقافة العراقية في الداخل والخارج. ويأمل المرء أحياناً في ان يساهم هذا التدمير، ولا أقول هذا على سبيل الكوميديا السوداء، في ان يتعلم المثقف العراقي الدرس ويتمكن من رؤية واقعه بطريقة بصيرة وعميقة. أتكلم عن تأثير هذا التشرذم على امكانية التراكم الشعري الذي يمكن ان يلغيه المنفى تقريباً. - لقد أفرز النصف الأول من القرن الماضي في العراق، نتيجة لشبه الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، شخصيات ثقافية أساسية منها علي الوردي والسياب وجواد علي والبياتي والملائكة وجواد سليم وغيرهم. ويمكنك ان تطبق ذلك على بلدان أخرى أيضاً. لكن التطورات اللاحقة خلخلت هذا الاستقرار، وأدّت الى الفوضى وانعدام القوانين، وبالتالي انعدام الحرية الفردية التي هي أساس كل ابداع. وحتى ان بروز عدد من الكتاب والشعراء والفنانين اليوم في الداخل، او في الخارج، يبدو مثل معجزة حقيقية