ازدادت المؤشرات حول عزم الولاياتالمتحدة على ضرب العراق وتغيير القيادة السياسية فيه، بغض النظر عن ثبوت تورطها في هجمات 11 أيلول سبتمبر أو عدمه، وبغض النظر عن السماح لفرق التفتيش على الأسلحة بالدخول أو رفض ذلك. ولم يعد السؤال هو: هل ستضرب واشنطنالعراق أم لا، وانما متى؟ وكيف؟ ومن أين؟ ولماذا؟ وماذا بعد ذلك؟ وإذا كان موقف الإدارة الأميركية، خصوصاً وزارة الخارجية، يلفه الغموض، فإن بعض التقارير يتحدث عن حسم الإدارة لقرارهاوانشغالها بالإعداد والتحضير. وقد نقلت مجلة "نيوزويك" في الشهر الماضي عن مسؤولين أميركيين قولهم ان الرئيس جورج بوش ومجلس الأمن القومي قررا إطاحة صدام حسين، وإن مسؤولين كباراً يدرسون إمكانية اجتياح العراق من الشمال والجنوب في وقت واحد لإطاحة الرئيس صدام. وإن رؤساء أركان الجيوش يدرسون خطة تتضمن نشر 50 ألف جندي أميركي على الحدود الشمالية للعراق و50 ألف جندي آخر على حدوده الجنوبية، ومع ذلك يتساءل المخططون: هل ستكون هذه القوة كافية للسيطرة على العاصمة العراقية؟ باعتبار ان الجنرال بول ميكولاتشك المسؤول عن القوات البرية في المنطقة يعتبر أن السيطرة على بغداد وإطاحة صدام تحتاج الى 196 ألف جندي أميركي. وقال ديبلوماسي غربي في عمان إن الملف العراقي سيفتح في غضون أشهر قليلة بهدف تدمير أسلحة الدمار الشامل بغض النظر عن ضلوع العراق أو عدم ضلوعه في عمليات أيلول. في الوقت الذي شكك القائد السابق للقوات الأميركية في الشرق الأوسط والوسيط الحالي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الجنرال انطوني زيني، في نجاح أي نوع من هذه العمليات، محذراً من أن الفشل سيكون مصيرها مثلما كان مصير الهجوم على كوبا في عام 1961. وقال: ماذا سنجد نتيجة الخطة؟ الأرجح "خليج الماعز". في إشارة منه الى العملية الأميركية الفاشلة المعروفة باسم "خليج الخنازير". في هذا الوقت ناشد أعضاء في الكونغرس أخيراً الرئيس بوش البدء بتدريب المعارضين العراقيين وتخصيص أموال إضافية للقيام بنشاطات أوسع، وقال السيناتور الديموقراطي اليهودي جوزيف ليبرمان، أثناء زيارته لتركيا: "على واشنطن التحرك لإطاحة الرئيس صدام في إطار الحرب على الإرهاب، وان الحرب على الإرهاب لن تنتهي إلا بعد إطاحة صدام حسين من السلطة في بغداد". بينما أرسل زميله الجمهوري جون ماكين رسالة الى بوش يحثه فيها على استهداف العراق بعد الحملة على أفغانستان. ولكن ما يؤخر تنفيذ هذه العملية حتى الآن هو رفض معظم الدول العربية وتركياوإيران لها، وتخوف أطراف عدة من مضاعفات عملية كهذه بسبب ما تحمله من مخاطر مستقبلية على وحدة العراق واستقلاله . لقد ظلت تركيا في الأسابيع الأخيرة تعبر بصراحة عن مخاوفها من أن تؤدي عملية ضرب العراق الى انهيار الحكومة المركزية وتقسيم البلد وقيام دولة كردية في الشمال إضافة الى قيام دولة شيعية في الجنوب، حيث قال مسؤولون أتراك انهم يتخوفون من تقسيم العراق وتشكيل كيان شيعي يكون امتدادا لإيران في جنوبه ودولة كردية في شماله، بينما قال رئيس الأركان التركي حسين كفرك أوغلو انه لا يرى داعيا أو مبررا لضرب العراق، لافتاً الى وجود معارضة دولية واسلامية وعربية لما تخطط له الولاياتالمتحدة، في حين أكد الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر الموقف التركي، أثناء زيارة أمير قطر الشيخ حمد آل ثاني لأنقرة، عندما أعلن انه يعلق أهمية على وحدة الأراضي العراقية وانه لا يعرف ما الذي فعله العراق كي يتعرض للتهديد العسكري، وان امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ليس عذرا كافيا لضربه لأن هذه الأسلحة منتشرة وتمتلكها أميركا وأوربا وكوريا وغيرها. ومن المعروف أن أنقرة تخشى قيام دولة كردية في العراق لئلا تثير النزعات الانفصالية لدى أكراد تركيا. إلا أن الموقف التركي غير ثابت ومن المحتمل أن يتغير، خصوصاً بعد اللقاء الاخير بين أجاويد وبوش في واشنطن. فوزير الدفاع التركي صباح الدين تشكماك أوغلو، اعلن اخيراً، أن ظروفاً طارئة قد تؤدي الى تقويم جديد، وان بلاده قد تعيد التفكير في مسألة ضرب العراق، إذا كانت هناك أدلة مقنعة على جود خطر، وقال وزير الخارجية إسماعيل جم إن على التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة محاربة الإرهاب أينما وجد. ويتحدث المحللون عن ضعف الاقتصاد التركي الذي يمر في أسوأ فترة ركود منذ خمسين عاماً، ما يجعله بحاجة الى المساعدات الاقتصادية الأميركية والى صندوق النقد الدولي، وبالتالي خاضعاً للموقف الأميركي. وبالنسبة الى مخاوف أنقرة من قيام دولتين كردية وشيعية وتعاظم النفوذ الإيراني في العراق على حسابها في حال ضرب العراق، تقول معلومات إن واشنطن طمأنت تركيا الى ضمان وحدة العراق وعدم السماح بقيام دولة كردية في الشمال ولا بدولة شيعية في الجنوب وتحجيم دور إيران في المستقبل، بل وتهديدها انطلاقا من العراق. وفي هذا الإطار قامت واشنطن بقطع علاقاتها بصورة مفاجئة بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، ورفض خطة"المؤتمر الوطني العراقي" القاضية بتكوين جيش من ثلاثة آلاف مقاتل عراقي، والانطلاق من الأراضي الإيرانية بمساعدة من حكومتها. ويتردد ان السبب الحقيقي وراء وقف الدعم المالي الأميركي للمؤتمر، الذي أعلن عنه قبل أيام، ليس التحقيق في الحسابات بقدر ما هو سبب سياسي موجه أساساً الى رئيس المؤتمر أحمد الجلبي، حيث تبحث الدوائر الأميركية عن بديل له من كبار ضباط الجيش العراقي السنة. ونقلت صحيفة "لوس انجليس تايمز" عدد 5/1/2002 عن مسؤولين أميركيين قولهم ان واشنطن تفضل العمل على إنشاء تنظيم قوي يجذب المناصرين داخل العراق وخارجه، وان "المؤتمر الوطني العراقي" لم يقم بجهود ملموسة في هذا الإطار، وان واشنطن ستمنح الحزب المبلغ الذي طلبه كاملاً إذا أجرى تعديلات على إدارته. من ناحية أخرى قال المستشار السابق في وزارة الدفاع الأميركية ريتشارد بيرل، المؤيد لضرب العراق: إن من الخطأ إعطاء طهران أي دور في العملية وان علينا تشجيع انهيار النظام الإيراني وان التعاون مع طهران يضعف المعارضة المتزايدة للنظام الإيراني. وهناك مؤشرات عن امكان انطلاق الحملة الأميركية على العراق من محافظاته الغربية بالتعاون مع إسرائيل التي ستشارك في توجيه ضربات دقيقة اليه بطائرات الهليكوبتر على غرار ما يجري في الأراضي الفلسطينية. ويتحدث بعض المحللين الأتراك عن وعود أميركية للأتراك بمستقبل افضل على الحدود الجنوبية مع العراق في حال إطاحة صدام حسين والمجيء بنظام أكثر مرونة مما سيعيد سيطرة الحكومة المركزية في بغداد على كامل التراب العراقي وهذا سيكون لمصلحة تركيا، في حين أن بقاء صدام في السلطة يشكل عائقا أمام عودة التحام شمال العراق ببقية أراضيه مما يدعم بناء كيان كردي هناك، كما هي الحال الآن، الامر الذي يشكل خطراً على تركيا. وتدفع هذه المعطيات القادة الأتراك الى مجاراة واشنطن والاستعداد للتعاون معها إذا ما تدخلت في العراق بحجة انهم لا يستطيعون رفض تأييدها لأن الشراكة الاستراتيجية التركية - الأميركية تقتضي التعاون معها إذا احترمت المصالح التركية. فقد أعلن رئيس الوزراء بولند أجاويد انه سيوجه رسالة الى الرئيس صدام حسين لاقناعه بضرورة السماح بعودة المفتشين الدوليين الى العراق، وانه يأمل في الحصول على رد إيجابي قبل توجهه الى واشنطن. وقال إن حرباً ضد العراق ستجر إليها تركيا شئنا أم أبينا وسنجد أنفسنا داخل الحرب لأسباب جغرافية وامتدادات عرقية لنا في داخل العراق. وقد اعتبرت رسالته هذه بمثابة محاولة لتبرئة الذمة مما قد يتعرض له العراق، واستعداداً للوقوف الى جانب الولاياتالمتحدة في حال رفضت بغداد المطالب الاميركية. الموقف الكردي ولا شك في ان محاولة واشنطن إرضاء الأتراك من أجل إقناعهم بالمشاركة في الحرب المقبلة، أغضبت الأكراد وجعلتهم لا يتحمسون للمشاركة في أي حرب ضد بغداد، أو السماح للقوات الأميركية والقوات العراقية المعارضة بالانطلاق من كردستان، لشعورهم بأنهم لا يجنون أية مكاسب سياسية منها، بل على العكس يمكن أن يخسروا ما حققوا حتى الآن من إنجازات، وفي مقدمه الوضع الفيديرالي الذي يعيشونه على الأرض في ظل الحوار مع بغداد، إضافة الى ما تسببه أي حرب من دمار وضحايا وتشويه لسمعتهم بالعمالة لواشنطن والخيانة للعراق. وعلى رغم زيارة موفد من وزارة الخارجية الأميركية ريان كروكر لشمال العراق ومحاولته إقناع القادة الأكراد بالتعاون مع واشنطن وتشكيل جيش موحد ليقوم بمهمة الهجوم على بغداد، فقد أصدر الاتحاد الوطني الكردستاني بيانا اعتبر الأكراد جزءاً من نسيج المجتمع العراقي ورفض شعارات الإسقاط والقصف العشوائي على العراق، وأبدى مخاوف من عودة الديكتاتورية في ظل الهيمنة الأميركية. ومع أن الدعوة الأميركية للتعاون معها سببت بعض الحيرة لدى الأكراد فان خيار الحوار والتعايش مع بغداد الذي تبناه البرلمان الكردي المنتخب عام 1992 يظل خياراً استراتيجياً كردياً. وإذا كان انحياز الأكراد الى جانب بغداد ضد أميركا مستبعدا جدا في ظل الظروف الحالية، فإن من المحتمل جداً وقوف الأكراد على الحياد في أي هجوم تشنه واشنطن على العراق، خصوصاً في ظل الشك بالوعود الأميركية وعدم وجود أي تصور لقيام دولة كردية لدى واشنطن في الوقت الراهن. الحكيم والمجلس الأعلى وفي الوقت الذي يتردد فيه الأكراد في تأييد الهجوم الأميركي على العراق، ايد السيد محمد باقر الحكيم رئيس "المجلس الأعلى للثورة في العراق" الهجوم، وقال من طهران "ان العراق نظام إرهابي ويتعين استهدافه بطبيعة الحال في الحرب ضد الإرهاب"، وان المجلس "يرحب بشن هجمات عسكرية دولية بغرض تغيير النظام، إذا ما كان هناك التزام باحترام استقلال العراق وعدم التدخل في شؤونه الداخلية". وجاءت تصريحات الحكيم وسط أنباء عن اتخاذ الإدارة الأميركية - بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر الماضي _ قراراً بعدم التعامل مع أية قوة إسلامية خصوصاً إذا كانت شيعية وموالية لإيران، واعتبار جميع الإسلاميين المتطرفين إرهابيين إما بالفعل أو يشكلون مشاريع إرهابية في المستقبل. وهذا ما دفعها لقطع علاقتها مع ممثلي المجلس الأعلى اخيراً، مما يرجح عدم استجابة واشنطن للتعاون مع الحكيم والمجلس الأعلى الذي يتخذ من طهران مقراً له، إضافة الى محاولة واشنطن استرضاء أنقرة بعدم التعاون مع إيران أو إقامة دولة شيعية في الجنوب. وإذا ما سمحت أميركا لنفسها بالتعاون مع الحكيم، فلا يستبعد كثيرون ان تتخذه وسيلة لتحقيق أهدافها ثم التخلص منه، كما حدث مع الرئيس الأفغاني السابق رباني، قائد تحالف الشمال الذي احتل العاصمة كابول تحت ظل القصف الأميركي ثم تم استبداله بحميد قرضاي. وتتساءل شخصيات عراقية: إذا كانت أميركا تفكر باستبدال أحمد الجلبي، العلماني، لأنه ينتمي الى الطائفة الشيعية بالهوية، فكيف ستقبل برجل يتصدى لقيادتها دينياً كالسيد الحكيم؟ ويعلقون: ان اشتراط الحكيم للقبول بالتدخل الدولي التزام احترام استقلال العراق وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، يتناقض ببداهة مع طبيعة الهجمات العسكرية الدولية وتجربة التدخلات الأميركية، وان الحكيم ليس بهذه الدرجة من السذاجة أو القوة لكي يضع شروطا أمام التعاون مع أميركا، وانما يحاول أن يلف موقفه متعمدا بالغموض ويقنع أتباعه الرافضين للهجوم الأميركي واحتلال العراق، بعدما كان أعضاء في "فيلق بدر" أبدوا انزعاجهم من تصريحات سابقة ومماثلة للحكيم في بداية العام الماضي. وانه يحافظ على خط الرجعة إذا ما فشلت الخطة الأميركية أو لاقت معارضة شعبية واسعة، أو خرجت عن الوعود المعلنة. التغيير عبر فرق التفتيش ويقول مقربون من المؤتمر الوطني العراقي إن لدى واشنطن خطة سرية لإسقاط النظام العراقي تعتمد على فرق التفتيش التي تحاول إدخالها الى العراق تحت التهديد بالقصف الجوي والصاروخي، والهدف الحقيقي من تلك الفرق ليس التفتيش عن الأسلحة التي تعرف واشنطن قبل غيرها أنها دمرت تماما، وانما هو إزعاج النظام العراقي وإسقاط هيبته والتدخل في كل زاوية صغيرة منه، والتجسس عليه ومحاولة اختراقه وتعمد استفزازه بشكل سافر حتى يطلب سحب تلك الفرق، من أجل معاودة قصفه بصورة شديدة حتى يخضع لإرادتها من جديد. ومن المرجح أن تعمد واشنطن الى زرع فرق عسكرية صغيرة هنا وهناك تمهيدا لدعم أية محاولة انقلابية، واستخدام القرار 688 الصادر من مجلس الأمن بشأن حقوق الإنسان، لحماية عملائها الذين سيزرعون في كل مدينة وقرية. وهذا ما يفسر رفض الرئيس صدام حسين عودة فرق التفتيش ما دام أن الهدف النهائي من ورائها إسقاط نظامه، سواء قبل بعودتها أم لم يقبل. وبما أن واشنطن، حسب الخطة، تحاول إسقاط الرئيس العراقي فإنها لن تقبل بالطبع بأي رئيس عراقي قادم يأتي عبر الانتخابات الديموقراطية الحرة أو يكون مستقلا يرفض التدخل الأجنبي، أو يحمل هوية إسلامية أو وطنية وانما تريده أن يكون مواليا لها وأداة طيعة في يدها. الا ان فصائل عراقية معارضة خارج المؤتمر الوطني عبّرت في مؤتمر عقد في لندن عن موقفها معتبرة ان تغيير النظام هو مسؤولية الشعب العراقي أولا، ورفضت وضع الشعب أمام خيارين: إما بقاء النظام الحالي وإما الانخراط في المشروع الأميركي لتغييره، ولفتوا الى أن الذين يدعون الى الاستفادة من التطورات الدولية بعد أحداث 11 أيلول وتطبيق التجربة الأفغانية على العراق لهم تاريخ طويل في المراهنة على العامل الخارجي الذي أثبت فشله. ولاحظ المعارضون أن واشنطن لم تدعم في شكل جدي جهود الشعب العراقي لإسقاط النظام في انتفاضة آذار مارس 1991، وشددوا على التمسك بالثوابت مثل استقلال العراق ووحدته ورفض تدمير البنية التحتية للعراق بذريعة العمل لإسقاط النظام، وحذروا من استبدال ديكتاتور بآخر، فيما برزت دعوة الى بلورة مشروع وطني للتغيير يستند أساسا الى المقاومة الشعبية في الداخل، وضرورة استقلال قرار المعارضة، والتحذير من التبعية التي ستؤدي الى الإضرار بمصالح المعارضة وأهدافها. وبالطبع كان هناك في المؤتمر من ينادي أيضا بالانخراط بالمشروع الأميركي لتغيير النظام واستثمار المستجدات الدولية وتوظيفها لخدمة الهدف المشترك وهو إزالة النظام الحالي واستبداله بنظام ديموقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان. ويبقى السؤال المطروح: هل تهدف أميركا الى إسقاط نظام صدام حسين فقط؟ أم تهدف الى تحطيم العراق خدمة للمصالح الاسرائيلية؟ وهل سيسفر الهجوم الأميركي على العراق، إذا ما حدث، عن نظام ديموقراطي حقيقي يعبر عن هوية الشعب العراقي العربية والإسلامية؟ أم سيكون لعبة بيد واشنطن والى أمد غير منظور؟