يسود اعتقاد في المانيا بأن انطلاقة حزب حماة البيئة الألماني "الخضر"، كانت وليدة أحداث عفوية شهدتها البلاد أواخر السبعينات، فتأثرت بأجوائها الاجتماعية والسياسية بمقدار تأثيرها في واقع التفكير الشبابي في تلك الفترة، وغالبيته ذو أصول يسارية متفاوتة بين الاعتدال والتشدد. وتلمح مصادر مطلعة الى عدم دقة مثل هذا الرأي، من حيث ابتعاده كلياً عن ملامسة الظروف التي كانت سائدة في أواخر الستينات وكل عقد السبعينات والتي أسفرت عن بلورة حركة تعنى ظاهرياً بالحفاظ على البيئة، لكنها تجسد في حقيقة الأمر أهدافاً أخرى تتعلق بضرورة استيعاب المجاميع الشابة من اليساريين في تنظيم خال من "الشوائب"، على حد وصف مسؤول سابق في أحد الأجهزة الأمنية الألمانية. كانت المانيا الرسمية في تلك الفترة تتابع بقلق استفحال ظاهرة "الارهاب اليساري"، وكان على اجهزتها التفكير في الأسباب والمسببات، ثم في كيفية معالجة جذور ذلك النزوع القوي نحو العنف وإشهار السلاح بوجه رموز الدولة البرلمانية الديموقراطية. وفي تلك الفترة أيضاً بدا واضحاً ان بريق الاصلاح السياسي الذي حملته الدولة شعاراً وبقي محصوراً في جدلية الكلام كان نفسه بحاجة الى اصلاح، خصوصا وأن النصف الثاني من عقد السبعينات شهد حكماً قاده الديموقراطيون الاشتراكيون بزعامة فيلي برانت ومن ثم هيلموت شميت وكان أقرب الى اليسار. لم يكن الاشتراكيون "اليساريون" ليخفوا عجزهم عن استيعاب تلك النخبة الفتية، واذابتها وسط الحلقة السياسية العاملة تحت قبة البرلمان. ولذلك أسبابه الجوهرية، وأبرزها اعتبار الشباب سياسة تلك الفترة أنماطاً تقليدية لا تلعب دوراً ايجابياً في الاستجابة لطموحاتهم الانسانية في الدرجة الأولى. وكانت أجهزة الدولة طبقاً لمصادرها قريبة من كل ما يجري، تتابعه وتعمل على استثماره في التوصل الى الحلول التي تجعل أولئك الشباب بعيدين عن السقوط في دوامة العنف المعروفة، وان كانت لا تتدخل، ولا حتى توحي بأنها تراقب، الأمر الذي شجع في توسيع حلقات الجدل السياسي حول كيفية ضمان مشاركة الشباب السياسية الأفضل خبرة في اطار ديموقراطي معلن يحترم الدولة ومبادئها وترعاه الدولة واجهزتها عبر توفير الحماية القانونية له. أول مراحل النهوض كان عاما 78 و79 النقطة الأبرز في انضاج تجربة حماة البيئة، وتحويلها الى تنظيم سياسي قائم بذاته، فقد حقق ممثلوهم نجاحات باهرة مكنتهم من المشاركة في الادارات البلدية والبرلمانية الاقليمية، بل كان عام 79 حاسماً في تاريخ "الخضر" لجهة تمثيلهم في البرلمان الأوروبي، فقد نجح ممثلوهم في احتلال مقاعد ضمن هذه المؤسسة الوحدوية، واعتبر إحراز بيترا كيلي لنسبة تجاوزت الثلاثة في المئة أول اشارة مشجعة، بل أشير بوضوح الى انها تشكل قاعدة لمزيد من العمل في تجاه ولادة حماة البيئة "الخضر" حزباً سياسياً يقف الى جانب الأحزاب الرئيسية الأربعة: الديموقراطي الاشتراكي، الديموقراطي المسيحي، الديموقراطي الحر والمسيحي الاجتماعي. اعتبر نجاح بيترا كيلي القشة التي قصمت ظهر البعير، اذ لم يعد غلاة اليساريين يشككون بجدوى اقتحام رفاقهم بوابة العمل البرلماني الديموقراطي، بعدما أسقط في أيديهم واضطروا الى مجاراة اولئك الرفاق الثلاثة المحيطين ببيترا كيلي انتحرت في ما بعد مع رفيقها الجنرال المتقاعد سيباستيان في ظروف لا تزال غامضة حتى اليوم. وأدت تلك المجاراة والنجاحات التي حققها حماة البيئة في ولايتي شمال الراين - غرب فاليا وبريمين الى الانضاج النهائي لفكرة "الخضر" فأعلن عن الانشاء الرسمي لهذا الحزب مطلع عام 1980، انشاء كان في ظاهره قوياً متفائلاً وفي واقعه مؤشراً على تفجير التنازع بين جناحيه الأبرز وهما الأصوليون والواقعيون، وتميز ذلك التنازع في الكثير من الأحيان بالقسوة والانفعال وبالحسم، مما جرّ على الخضر الكثير من المشاكل، وبعضها مبدئي يتعلق بأساس وجودهم وشرعيته. فقد اتضح في ما بعد قصر نظر المراقبين الذين اعتبروا الخضر خليطاً من اليسار المعتدل والمتشدد، بعدما تكشف وجود تيار آخر من ذوي الاتجاهات والقيم المحافظة حسم أمره نهائياً خلال مؤتمر الحزب العام بمدينة زار بروكن في سنة الانشاء ذاتها. آنذاك ظهر هيربرت غرول، وكان قبل وجوده مع الخضر عضواً في حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي، محاولاً تغليب تيار جماعته المحافظة، لكن التصويت على أفكار غرول أدى الى تغليب كفة اليسار الى الأبد، بعد انسحاب غرول والكثير من جماعته، ولم يعد بإمكان المتبقي منهم في صفوف الخضر لعب أي دور مؤثر في سياسات الحزب أو توجهاته. نشأ في الخضر بعد انسحاب المحافظين تيار صغير من فلولهم في الحزب، رفع شعاراً جديداً تحت عنوان "لا يسار ولا يمين بل سعي الى الأمام". إلا أن هذه التطورات، وكثير منها فاجأ القاعدة الحزبية، لم تقف حائلا العام 1981 دون تحقيق الخضر مكاسب مهمة أبرزها في ولاية هيسن عاصمتها فرانكفورت، حيث دشن ممثل الخضر نائب المستشار الحالي ووزير الخارجية يوشكا فيشر أول مشاركة لهم في حكومة الولايات بعدما عيّن وزيراً للبيئة. في ذلك العام ظهر فيشر أكثر حماسة من بقية رفاقه الوزراء في إبراز دور حزبه واحراز المزيد من المكاسب، والأهم في تحقيق قناعات مضافة لدى ناخبيه بأهمية دوره في توجيه سياسة المانيا في المجال البيئي. حركات السلام لم يكن الخضر حتى ذلك الوقت يفكرون في دور يتجاوز أفكارهم البيئية، لكن ما حدث في خريف 1981 كان له تأثير كبير في خروجهم عن اطار البيئة. ففي ذلك العام شهدت المانيا خروج مئات الآلاف من الشباب وغيرهم في مسيرات عمت كل المدن وتركزت في العاصمة السابقة بون، اعتبرت دعماً كبيراً لحزب الخضر، الذي بدأ يخوض جدلاً واسعاً ونقاشات عميقة بشأن نصب محطات جديدة للصواريخ المتوسطة المدى في الأراضي الالمانية، بعدما كان رفض مواقف الحكومة الاشتراكية المتحالفة آنذاك مع حزب الأحرار والمساندة للقرار الأميركي بنصب هذه المنظومة. ومع رفضهم ازدادوا ثقلاً سياسياً نتيجة تأييد العمال والكثير من المثقفين لهم. في تلك الظروف الدقيقة من التاريخ السياسي الالماني بدا أن غالبية الألمان لم تعد مقتنعة باستمرار النموذج الديموقراطي الاشتراكي والليبرالي في الحكم، ولذلك أسبابه السياسية عدا عن الاقتصادية المعروفة التي حُملت مسؤوليتها الى وزارة المستشار السابق هيلموت شميت. وبعد سقوط حكومة شميت واتجاه حزب الأحرار الديموقراطي نحو التحالف مع الحكومة الجديدة بزعامة الحزب الديموقراطي المسيحي ومستشاره في حينه هيلموت كول، بدا واضحاً ان نجم الخضر بدأ يلمع، وبدأ ممثلوه يستعدون لجني مكاسب انتهازية موقف حزب الأحرار الديموقراطي. فقد أدى هذا النهج الى توجه ناخبي الأحرار نحو اسقاطهم في برلماني ولايتي هامبورغ وبريمين من ناحية ومن الناحية الأخرى الى الايذان باجراء ثاني مفاوضات على صعيد الولايات تهدف لاشراك الخضر في الحكم الاقليمي. وعلى رغم فشل تلك المفاوضات الا ان مثل هذا الائتلاف الحكومي أصبح حقيقة يمكن اللجوء اليها عندما يحين الوقت، او عندما تؤذن الظروف السياسية وتقلباتها بذلك. ومن أبرز تناقضات الوضع في تلك الفترة داخل الخضر بروز تحول سريع ومفاجئ في موقف الأعضاء السابقين في العصبة الشيوعية، بحيث صاروا يقبلون فكرة أي ائتلاف لحزبهم مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي، بعدما عرفوا بمقاومتهم لأي توجه نحو الاشتراكيين، ما اعتبر في حينه مكسباً للقبول الكلي بعمل الخضر السياسي تحت ظل البرلمان. الحرب الباردة لطالما اعتبرت العلاقات الالمانية مع الولاياتالمتحدة في تلك الفترة وما تلاها استراتيجية لجهة التنسيق في السياسة الدولية والعلاقات الخارجية اجمالا. وطالما كانت هذه العلاقات كذلك فإن انتماء الخضر ظل محط متابعة الكثير من مراقبي الشأن الالماني. فهل كانوا "أميركيين" أم هل هم الآن كذلك، بعد ان شغل أحد أقطابهم منصب نائب المستشار ووزير الخارجية؟ الواقع ان سياسات الخضر لم تكن من النوع المتطابق مع نهج الولاياتالمتحدة ومواقفها ازاء التطورات في أوروبا ومنها المانيا، بالقدر نفسه الذي ميز خطوط هذه السياسات بعدم اظهار أي كراهية أو رفض مطلق لما تقرره واشنطن، مع ان الخضر خلال فترة الثمانينات صاروا في الاطار السياسي الأقرب الى تمثيل نهج جماعات السلام ومواقفها الثابتة المنتقدة لحلف شمال الاطلسي والكثير من خطوات الحكومة الأميركية إزاء العلاقة مع موسكو ودول المعسكر الاشتراكي. فهم صاروا يدعون علناً الى انسحاب المانيا الاتحادية في حينه من الحلف الأطلسي، معتبرين هذا الاجراء هو الحل الذهبي لإعادة توحيد المانيا، ولو لم يدعوا في الوقت نفسه الى انسحاب مماثل لالمانيا الديموقراطية من حلف وارسو لواجهوا مأزقاً سياسياً عميقاً. ومع انهم لم يكونوا "أميركيين" مثلما كان يطلق على بعض الفعاليات الالمانية الأخرى، إلا أن "شعرة معاوية" بين الجانبين لم تنقطع أبداً، وظل هناك في الخضر من يعمل على ادامتها، ربما لاستثمارها في الوقت المناسب. لكن يتعين الاشارة الى ان أنصار هذه العلاقة كانوا في معظمهم من التيار الواقعي، وكثيراً ما كانت طروحاتهم تصطدم بفكر انصار التيار الأصولي الأكثر تشدداً، لكن بعض قياداتهم التاريخية مثل يوتا ديتغورث ترك المسرح وآثر الابتعاد قبل مشاركة الخضر في السلطة بعد انتخابات 1998. ومع انسحاب شخصيات تاريخية من ذوي الاتجاه الواقعي أيضاً مثل أوتو شيلي، وزير الداخلية الحالي، بدا أن عقدة الصراع داخل الخضر لن تجد الحل القريب والمرضي لكل الأطراف. ولم يتقارب الأصوليون والواقعيون الا في مسألة الوحدة الالمانية، وكان هذا التقارب وبالا على الحزب وكيانه السياسي. ازدواجية الموقف استمر الخضر، قبل سقوط جدار برلين وانهيار المانياالشرقية، في الدفاع عن مشروع أثار حفيظة الكثير من الألمان، بمن فيهم ناخبوهم التقليديون. وتلخص ذلك المشروع بالدعوة الى قبول صيغة تعايش بين دولتين المانيتين. وقد رأوا في هذا الطرح اسهاماً في تخفيف حدة التوتر بين المعسكرين الغربي والشرقي واكدوا ضرورة اسدال الستار كلياً على القضية الالمانية عبر ذلك الحل. واللافت انهم ظلوا حتى 1989 يروجون لهذه الفكرة التي أراحت الكثير من الدوائر الغربية من دون أن تحظى بقبول الادارة الأميركية. كان الاعتقاد السائد لدى جميع قيادات الخضر في حينه ان فكرتهم إزاء حسم المصير الالماني ستؤدي في النتيجة الى البدء بنزع واسع للسلاح داخل أوروبا. ويبدو أن هذه القناعات ذاتها التي ألّبت عليهم الشارع الالماني هي التي جعلتهم يتمادون فيكررون المطالبة بالغاء وزارة الشؤون الالمانية، ويصرون سنوياً على مقاطعة حفل سنوي كان ينظم في السابع عشر من حزيران يونيو من أجل وحدة المانيا. وهكذا أسقط بأيدي قيادات الخضر عندما سقط جدار برلين وبدت عملية التوحيد أمراً محسوماً حتى قبل بدء المفاوضات حولها. ومع انجاز التوحيد واقتراب موعد أول انتخابات برلمانية للشطرين الموحدين بدا واضحاً حجم الهزيمة المتوقعة للخضر، بينما كانت الأحزاب الأخرى تروج لحسنات التوحيد ومستقبل الدولة الموحدة، وتؤجل كل ما سواه من موضوعات كانت تعتبرها رئيسية. وبالفعل هزم الخضر في انتخابات الدولة الموحدة كما لم يهزموا في سواها، ولم يحققوا الحدود الدنيا التي تؤهلهم للاستمرار في العمل داخل البرلمان. ولم يعادل هزيمتهم المرّة سوى فوز "جماعة التسعين" في المانياالشرقية. بمعنى انهم حققوا الفائدة من ازدواجية سياستهم ازاء الدولة الشيوعية السابقة، اذ ومع اصرارهم على استمرار بقاء نظام الدولتين الالمانيتين، كانوا يقيمون أفضل العلاقات مع القوى المعارضة في تلك الدولة، وكانت علاقاتهم مع "جماعة التسعين" شبه استراتيجية، الأمر الذي ساعد في دمج الجهدين ومن ثم في اتاحة عودة الخضر الى البرلمان عبر نافذة "التسعين" الشرقية. ويبدو أن هذا الموقف المزدوج هو الذي عمل على توتير علاقاتهم مع الشيوعيين الشرقيين الذين أعادوا تنظيم صفوفهم ضمن حزب الاشتراكية الديموقراطية. نجح الخضر بعد ذلك في لملمة الصفوف بعدما تمكنوا من التقاط الانفاس واستخلاص بعض العبر من الخطأ السياسي القاتل إزاء مسألة الوحدة، ومضوا قدماً خلال السنوات الثماني التي أعقبت الوحدة وسبقت مشاركتهم الحاسمة في حكم المانيا، بعد ازاحة الائتلاف الليبرالي المحافظ بزعامة كول. وكانت تلك الفترة كفيلة بنسيان الماضي، بل زادت من قناعة الناخبين بهم، فارتفع عدد أعضاء الحزب زهاء عشرين في المئة، واصبح قبل فترة وجيزة من أحداث ايلول سبتمبر الماضي يلامس عتبة الخمسين ألفاً. "ايجابيات" الدور الأميركي ومع أن الخضر ما زالوا يشكلون ثالث أبرز قوة سياسية داخل البرلمان الاتحادي بعدد نوابهم البالغ سبعة وأربعين، الا ان موقفهم إزاء الحرب ضد الارهاب سحب نسبياً البساط من تحت أقدامهم، بعدما كانوا حزباً يشكل الظهير لأنصار السلام ويتبنى مواقف متشددة ضد منطق الحرب، خصوصاً اذا كانت أهدافها النهائية غير محددة. وبعد أن كان الخضر يترددون في اطراء السياسات الاميركية، أصبح الواقعيون منهم بزعامة وزير الخارجية يوشكا فيشر يتقدمون الصفوف للحديث عن "ايجابيات" الدور الأميركي في المانيا اثناء حقبة ما بعد الحرب وما تلاها، وصاروا يطالبون علناً برد "الجميل" للولايات المتحدة عبر اعلان التضامن المطلق مع ما تقرره ادارة بوش في مواجهة الارهاب، ما ادى الى حدوث تململ في صفوف اولئك الذين يعارضون منطق الحرب في معالجة القضايا الخطيرة والكبرى، والذين دعوا قيادة حزبهم الى الانسحاب من الائتلاف الحكومي وتركه يعالج وحده هذا المأزق الخطير الذي ادى في المرحلة اللاحقة الى فتح باب مشاركة القوات الالمانية في عمليات خارج حدود البلاد. لقد فتح الخضر بموقفهم هذا الباب على مصراعيه امام احتمالات تراجع جديد لهم خلال انتخابات العام الجاري البرلمانية. لكن هناك من يرى ان الموقف الالماني من قضية الحرب لم يكن ليتغير، سواء بقي الخضر في الائتلاف أم انسحبوا منه، وان هذا الأمر سيدركه ناخبوهم من جماعات السلام وسيقررون، على الارجح، اعادة انتخابهم!