هذه المدينة تشبه نفسها كثيراً، وهي أيضاً متغيّرة بشكل غريب. كلّ عام تبدو مختلفة، وتأتي تفاصيل جديدة لتشعرك أن الأمور تتطور هنا بإيقاع سريع. نقاط الارتكاز الأساسيّة نفسها : مدخل القصبة، شارع سنغور، باب البحر، برج القمرة، زاوية سيدي محمد بن مرزوق، ضريح سيدي منصور عند آخر السور حيث يلتقي العشّاق، قصر الريسوني، الأبواب والجدران والأسوار والدكاكين الصغيرة، مقهى الصيادين، المسجد في مواجهة مركز الحسن الثاني للملتقيات الدوليّة بنجومه الوافدين ومثقفيه البسطاء... وزرقة البحر. ذلك المحيط الأزلي يحاصر المحميّة البرتغاليّة التي تحوّلت من قرية صيّادين وادعة، منسيّة في الشمال الفقير، إلى عاصمة عربيّة للثقافة والفنون... والناس، أهل البلدة، المنصرفون إلى مشاغلهم اليوميّة، دائماً في الظلّ، يتعايشون مع لوحات عملاقة غريبة رسمها على الجدران الكلسيّة البيضاء فنّانون بارزون أو شبّان جدد. يراقبون المشهد بحذر، بفضول، أو ينخرطون فيه بحماسة، يحتفلون بالضيوف والنجوم، ثم يعودون إلى همومهم العاديّة. المشهد هذا الصيف على حاله، والوجوه لا تختلف كثيراً عمّا كانت عليه قبل 23 عاماً هي عمر "موسم أصيلة الثقافي". ربّما تبدّل الناس، لكنّ الوجوه بقيت نفسها. والنظرات والكلمات والروائح، وذلك الصبر الذي يخفي بصعوبة نهماً إلى الارتقاء والانفتاح وتحسين الأحوال. وتلك الموسيقى الخفيّة المتصاعدة من أمكنة لا نعرفها. وفي الوقت نفسه يخالجك شعور أن أشياء كثيرة تتغيّر في العمق، على مستوى الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعلى مستوى التظاهرة التي باتت سجلاً حافلاً من الانجازات والأفكار والوجوه واللقاءات. البلدة كبرت، صارت مدينة مزدحمة بالمصطافين. و"الموسم" قطع نهائيّاً مع هواية البدايات، وتلعثم المراهقة، ليصبح على قدر من الاحتراف والتخصص. تسلك الأزقّة نفسها التي تحوم فيها أطياف صديقة، بحثاً عن دعساتك القديمة، عن قهقهات أو همسات أو انفعالات عالقة في الأثير. تلتقي بنفسك عند ذاك المدخل، أو تلك "الزنقة"، فلا تكاد تتعرّف على صورتك في مرآة الزمن. ذلك أن سنوات كثيرة مرّت، تضيع من جديد في الأزقّة اللولبيّة، مع أنّك زائر قديم، بل "مواطن شرف" كما يحلو لعمدة أصيلة محمد بن عيسى أن يردّد على مسامع بعض المدعوّين الجدد وحلقة الأوفياء. وذلك المساء، في ساحة ابن خلدون، كان يكفي أن تجد نفسك بين الحشود، بين أبناء البلدة، صغاراً وكباراً، مترفين وبسطاء، وبين جمهرة المصطافين المغاربة والسيّاح الأجانب وضيوف الموسم، كي تتيقّن من انتمائك إلى ذاكرة المكان. تجمّع الناس يومها لجهة البيوت، خلف الحواجز الحديديّة، في مواجهة البحر، وقد بات الأفق ديكوراً للمشهد الذي راح العابرون يتدافعون لمتابعته. مسرحيّة استعراضيّة، تجريبيّة، في الهواء الطلق، يقدّمها فريق من الشبان والشابات المغاربة، تحت عنوان "مدينة 2001". جماعة "سان كومبوزيت" هذه، مقيمة في هولندا وتهتمّ بالجسد والحركة والهندسة والأزياء، معظم أفرادها، بمن فيهم مصمم العرض سعيد محروف مغاربة، وبعض المشاركين مقيم في المغرب مثل الممثّلة بدريّة الحسن ابنة أصيلة. كانت الشمس الغاربة خلف ستار من الغيوم تبدو في الأفق أشبه بالقمر، فترخي على العرض اضاءة فضيّة تنسجم مع ذلك الايقاع البطيء للممثلين - الراقصين، وهم يعيدون بحركات مينماليّة بطيئة انتاج مشاهد يوميّة مؤسلبة. نساء بالأبيض يسبحن في منطقة انعدام الوزن، كأن المخرج الأميركي المعروف بوب ويلسون نفسه عبَر تلك العشيّة في ساحة ابن خلدون! قد يشكو العرض من نقاط ضعف كثيرة، ويفتقر إلى تماسك اللغة ونضج الرؤية. لكنّ ما همّ، فهذا الطقس، يضاف إلى مناخ الاحتفال الذي تشوبه المفاجأة والغرابة. طقوس وهوية والموسم نفسه، بات يقوم على مجموعة من الطقوس التي تصنع هويّته. الافتتاح وضيوفه وضجّته الاعلاميّة... حضره هذا العام وزير الثقافة المصري الفنّان التشكيلي فاروق حسني، وزير الثقافة المغربي الشاعر محمد الأشعري، وزير حقوق الانسان في المغرب محمّد أوجار الذي كان ذات يوم من أركان أصيلة، مستشار العاهل المغربي أندريه أزولاي... وكان بوسع أمين "مؤسسة منتدى أصيلة" العمدة محمد بن عيسى، وزير الخارجيّة المغربي، أن يخاطب جمهوره باعتزاز، رافعاً الشعار الغالي على قلبه: "الثقافة في خدمة التنمية"، وقد أوتيت ثماره، وتجسّد على أرض الواقع. من طقوس أصيلة أيضاً هذا التجمّع المهيب في حديقة تشيكايا أوتامسي لإحياء ذكراه، والخطباء الذين توالوا على المنصّة: بن عيسى، وزير خارجيّة السنغال، شريف خزندار مدير "دار ثقافات العالم" في باريس، باولين جواكيم الكاتب البنيني وصديق الشاعر الكونغولي-الزيلاشي الراحل، الذي لم يخلُ كلامه من استفزازية وجرأة وغضب. أشعار تشيكايا المحفورة على الرخام، والأصدقاء القدامى والأصدقاء الجدد الذين لم يلتقوه في حياته. لحظة الخشوع والصمت اخترقها احتفال شعبي عفوي، هتافات وايقاعات عربيّة - افريقيّة آتية من الشارع لم يكن يتوقّعها أحد، لعلّها احتفال بمولد أو ختان، توقّف الخطباء دقائق ريثما تمرّ هذه "الزفّة" البدائيّة... والشاعرة فيرا دوراتي التي تعمل قاضية في بلادها، وكانت تخفض نظرها بخفر كلّما دار حولها الكلام، هي الآتية من الرأس الأخضر كابي فيردي جزيرة المغنيّة سيزاريا إيفورا، لتتسلّم جائزة تشيكايا للشعر الافريقي التي كانت من نصيبها هذا العام. وتلك السماء الملبّدة بالغيوم، بدت واطئة جاءت تضفي على اللحظة بعداً تراجيديّاً وحزيناً. فالحزن أيضاً من طقوس أصيلة. الفنّ المغربي: السنوات التأسيسيّة الطقوسيّة نفسها نلمسها في ايقاع الحياة داخل "قصر الثقافة" الذي أعيد ترميمه وتحديثه أخيراً، وهو يستضيف الفنّانين العرب والأجانب، ويحتضن محترفات الصباغة والحفر التي يعملون فيها طوال الشهر، تاركين انتاجهم لمجموعة المدينة. محترف الحفر أشرف عليه ككلّ عام الفنّان السوداني محمد عمر خليل، فيما أشرف يونس الخرّاز، الفنّان المغربي الشاب وابن المدينة، على محترف الصباغة. وقد استضافت باحة القصر أمسية برتغاليّة، من أصفى ما يمكن أن تنتجه موسيقى "الفادو"، كما استضافت عازفة البيانو المجريّة أدريان كروز في أمسية نادرة. العروض الفنيّة والموسيقيّة الأخرى، قدّمت على خشبة "مركز الحسن الثاني"، وأبرزها السهرة مع المطرب المغربي عبدالهادي بلخيّاط، وأمسية أحياها عازف العود الشاب العراقي عمر بشير، وقد جاء على خطى أبيه، معلّم العود الراحل منير بشير الذي كانت آخر وقفة له على المسرح، في القاعة نفسها في أصيلة. وكان جديد "الموسم" هو "المعلّقات" التي ازدانت بها الشوارع، وحملت توقيع فنّانين مغاربة بينهم فؤاد بلامين ومحمد بناني وعبد الكريم الوزّاني ومحمد المليحي ومريم لعلج ومليكة أوكزناي. وقد اكتشف جمهور المهرجان، على جدران المنازل التقليديّة، جداريّات جديدة أضيفت إلى سابقاتها أو حلّت مكانها... كأن الأحياء تغيّر جلدها مع المواسم. هذا العام لاحظنا كثرة الأسماء النسائيّة، وبروز فنانات من الجيل الجديد مثل مريم بلحاج ونسرين الشوادري وعزيزة جمال وكنزة بن جلون، إلى جانب أحمد راشدي ومحمّد مرابط وأحمد الصغير ورشيد حنبلي. وقد تميّزت الدورة الثالثة والعشرون بإعادة الاعتبار إلى الفنون والآداب بشكل أساسي، مستعيدةً الروح الأولى للتظاهرة التي بدأت تشكيليّة أساساً، واحتضنت الأدباء والشعراء. فالندوات كلّها كانت مخصصة لأشكال التعبير الابداعيّة والثقافيّة. وقد استضافت المدينة معارض عدّة للفنّ الكويتي والبحريني والمغربي، إضافة إلى معرض خاص بشباب الفنّ المغربي من أبناء أصيلة وفاء الحديبي، محمد العنزاوي، معاد الجباري، إنس بوعناني، يونس الخراز.... في مركز الحسن الثاني، قسمت قاعة العرض المتعددة الأجنحة والزوايا، إلى قسمين: الأوّل خاص بالفنّ البحريني، ويسلّط الضوء على حركة تشكيليّة غنيّة متعددة الوجوه والاتجاهات والروافد، لم تأخذ نصيبها من الشرعيّة والانتشار على مستوى العالم العربي، مشرقاً ومغرباً. نشير بين أسماء المشاركين إلى جمال عبدالرحيم وعلي محمد المحيمد وعبّاس الموسوي وجعفر العريبي ولبنى علي الأمين وعمر الراشد واسحاق الكوهبي وشفيقة الهرمي وبلقيس فخرو وإبراهيم بوسعد. أما الجزء الآخر من الصالة الواسعة، فكرّس للفنّ المغربي الذي كانت أصيلة عاصمته الأبرز، منذ اجتمع فيها نفر من كبارالتشكيليين المغاربة والعرب، من فريد بلكاهية ومحمد شبعة إلى مروان قصّاب باشي وجورج بهجوري، وراحوا يرسمون على جدرانها. وها هو ابن البلدة الفنّان المعروف محمد المليحي، ينظّم معرض "نشأة الفنّ التشكيلي المغربي المعاصر"، مستعيداً السنوات التأسيسيّة بين منتصف الخمسينات ومنتصف الستينات التي مهّدت للسنوات الذهبيّة في السبعينات وما تلاها. وإلى جانب المعرض الذي ضمّ أعمالاً لبلكاهية وشبعة والمليحي والغرباوي والشرقاوي، عقدت ندوة قدّم لها محمد السرغيني حول تجربة الخمسينات والستينات التي تراوحت بين التصوير والتجريد، بين الفطريّة والانطباعيّة. المدينة والثقافة... ونجوم السينما وإذا كانت الدورة الأخيرة قد وضعت جانباً المشاغل الفكريّة التي تمحورت حولها جلّ ندواتها منذ سنوات العولمة، حوار الشمال والجنوب، الآخر والعنصريّة...، لتفسح هذا العام لمختلف مجالات الابداع من الفنّ السابع إلى الرواية، فقد خصصت ندوتها الأولى لمراجعة تجربة أصيلة بشكل غير مباشر، ومقارنتها بتجارب أخرى مشابهة مغاربياً، عربياً وعالميّاً. هذه الندوة التي أشرف على تنظيمها مدير "دار ثقافات العالم" المسرحي السوري الأصل شريف خزندار، وهو أحد شركاء الموسم القدماء، كان عنوانها "المدينة والثقافة". ولا يخفى على أحد اليوم، كما ذكّر الوزير بن عيسى في مستهلّ الندوة، أن أصيلة تجسيد حيّ للدور التنموي الذي يمكن أن تلعبه الثقافة على مستوى مدينة معيّنة. هكذا دعي عدد من المعنيين لتقديم تجارب ساهمت من خلال الفعل الثقافي في احياء وانعاش مرافق عدّة في حياة المدينة. تكلّم أندريه أزولاي مستشار الملك محمد السادس عن تجربة مدينة الصويرة التي بدأت بمهرجان لموسيقى الكناوة، حضره 20 ألف مشاهد، وصولاً إلى تظاهرة ضخمة أمّها هذا العام 220 ألف مشاهد عدد سكان الصويرة التي يتحدّر منها عدد من العائلات اليهوديّة المغربيّة 60 ألف نسمة... ويعتزم المهرجان تخصيص تظاهرة للموسيقى الكلاسيكيّة، وأخرى للموسيقى الأندلسيّة، كما أعلن أزولاي أنّّه "سيتم تدشين أوّل كرنفال للمدينة، بمشاركة سكّانها، أيّام عاشوراء المقبلة" !. وبين المشاركين في ندوة "المدينة والثقافة" نشير إلى أندريه جيليس عمدة مدينة سيرينيون الفرنسيّة، منى مكرم عبيد التي تحدثت عن الثقافة في مدينة القاهرة، أكرم مصاروة المدير السابق ل "مهرجان جرش" الأردني. ولعلّ ندوة "السينما فنّ وصناعة" الباحثة عن سبل ومجالات تعاون بين الشمال والجنوب، هي التي جمعت أكبر قدر من "النجوم" الذين خلقوا حولهم حركة اعلاميّة، واهتماماً جماهيرياً. فالندوة التي أعدّ لها الناقد اللبناني غسّان عبد الخالق، استضافت النجمين المصريين حسين فهمي وعزّت العلايلي، كما شارك فيها المخرجون ميشيل خليفي فلسطين وسعد شرايبي المغرب وخالد الصديق الكويت، إيناس الدغيدي مصر، أحمد الراشدي الجزائر، والمنتج المغربي الشاب محمد أولاد محنّد ابن المدينة الذي كنا نلتقيه مراهقاً في الهزيع الأخير من ليل أصيلة لمناقشة شؤون الفنّ والثقافة، وها هو اليوم جالس إلى المنصّة، يحذّر - بكل وقار - من طرح قضايا الانتاج المشترك، بمعزل عن معضلة خطيرة، هي مشكلة التوزيع ! وشارك في الندوة مجموعة من النقّاد، بينهم سمير فريد مصر، قصي صالح درويش سوريّة. وطرحت فيها قضايا حيويّة تجاوزت الانتاج المشترك، إلى أسئلة الحريّة والليبراليّة والابداع والتواصل والسينما الاستهلاكيّة والأصوليّة، وقوانين السوق، ومخاطر انتشار نوعيّة معيّنة من الأفلام. حوار الرواية العربيّة وكان مسك ختام الموسم ندوة "حوار الرواية العربيّة"، خصوصاً أنّها المرّة الأولى منذ عقدين ونيّف التي تفتح أصيلة أبوابها لهذا النوع الأدبي. علماً أن روائيين كبار يترددون على أصيلة منذ البداية، من الطيب صالح إلى الراحل إميل حبيبي، مروراً بحليم بركات والآخرين، لكنّهم يشاركون في ندوات لا تتناول الرواية مباشرة. هذه المرّة اجتمع النقّاد والأدباء، ووضعوا اشكالات الكتابة الروائيّة على بساط البحث. وكان الحدث الأهمّ هو وجود الكاتب المغربي محمد شكري، بطيفه النحيل... هذا العصفور المتعب الذي انتظر طويلاً قبل أن يشارك في ندوات أصيلة. ها هو يصفّق بجديّة، تخاف عليه أن ينكسر... تتوقّع أن يغضب، أن يقلب الطاولة على المشاركين، فإذا به، يتابع بصبر، يسند رأسه الثقيل، ويستمع. اعتذر جابر عصفور عن حضور الندوة التي كان من مهندسيها، وبقي سعيد يقطين وحده ليشرح لنا تحوّلات الرواية العربيّة وتفاعلاتها مع المجتمع والذات والعصر. محمد شكري كشف علاقته الاشكاليّة مع اللغة العربيّة، هو الآتي من الريف، من الهجرات المجاعيّة، ومن لغته الأمازيغيّة الأم. "العالم يفلت منّا والفنّ يحاول أن يقبض على هذا الافلات"، قال شكري الذي تبنّى "لغة المضطهِد" بكسر الهاء وصار واحداً من أهمّ كتّابها، وهو غير نادم على ذلك. وأعلن صاحب "الخبز الحافي" إنّه "لاجئ لغوي"، مستحضراً في بحثه بروست وتوفيق الحكيم وموليير وديكارت والآخرين... أما الناقد المصري صبري حافظ، فحاول أن يقرأ رواية التسعينات في مصر، في ضوء تحوّلات المكان، وبروز "مدينة ثالثة" في القاهرة قوامها التوتّر والعشوائيّة والازدحام. هكذا حاول أن يطبّق بميكانيكيّة اختزاليّة وسطحيّة انعكاسات هذا التحوّل على أدب نورا أمين وميرال الطحاوي ومي التلمساني ومنتصر القفّاش ومصطفى ذكرى... مسلّطاً الضوء على غياب اليقين لدى هؤلاء، في عالم ملؤه التناقضات والاشكاليات. انشاء وتنظير وغرقت القاعة مع مبارك ربيع، وبعده محمد عزالدين التازي بدرجة أكبر، في سيل من الانشائيات التنظيريّة التي لا تريد أن تقول شيئاً، والمصاغة بلغة معقّدة حيث كان يمكن الوضوح، غارقة تحت وابل من المصطلحات غير الضروريّة والخارجة عن سياقها. ناهيك بكميّة البديهيّات والثنائيّات والعموميّات والقوانين المدرسيّة... وكل ذلك يكشف عن حالة من الاستلاب المتفشية لدى جزء من المثقفين المغاربة، ممن أساؤوا استيعاب واستعمال النظريّات النقديّة الجديدة التي كان المغرب أوّل من نقلها إلى لغة الضاد. وشهدت الندوة مواجهة غير مباشرة بين محيي الدين اللاذقاني وصلاح فضل، إذ حذّر الناقد السوري زميله المصري من الاسراف في مديح المرأة لدى تناول الأدب الأنثوي. فهذا المديح مثل الهجاء والتجاهل والطمس. وأشار اللاذقاني إلى أن لغة المقدّس تنفي المشاركة بين الكاتب والمتلقّي... كما لفت الأنظار "إلى منطقة الصمت الرصين" في الخليج، حيث يطلع أدب روائي مميّز رغم العوائق الاجتماعيّة والثقافيّة. وحول التركيز المبالغ فيه على خصائص الأدب الأنثوي، روى حليم بركات كيف تقدّمت إليه باحثة معروفة ذات يوم بدراسة للنشر في مجلّة "مواقف" التي كانت تعدّ عدداً خاصاً عن الرواية. كان غرض الباحثة هو اثبات اختلاف المخيّلة النسائيّة عن مخيّلة الرجل، وقد نجحت فعلاً في استخراج سمات المخيّلة النسائيّة، في رواية من تأليف... إنعام الجندي! إذ ظنّت الكاتب السوري امرأة بسبب اسمه. وفي هواجسه الشخصيّة لاحظ الروائي العراقي فؤاد التكرلي أن "ما كتب في مجال الرواية العربيّة خلال العقدين الأخيرين لا يرقى إلى مستوى الحدث وأهميّته". واستعرض الأديب التونسي حسّونة المصباحي أثر الرواية الغربيّة على الرواية العربيّة التي ازدادت جرأتها على تناول المواضيع المحرّمة، والمسكوت عنها في التقاليد السائدة. جائزة محمد زفزاف أما نبيل سليمان الذي حيّاه زملاؤه، وقدّم بصفته "المشاغب الجميل... وكاتباً من أحرار الشام" في اشارة إلى ما تعرّض له في بلاده خلال الأشهر الماضية... فدعا إلى اشتغال الرواية على حقوق الانسان، واعترف أن الزمن كذّب الكثير من توقّعاته وطروحاته. ودرست الجامعيّة المغربيّة رشيدة بن مسعود التفاعلات النصيّة والتواطؤ الشعري بين رواية أحلام مستغانمي "ذاكرة الجسد" وأدب الكاتب الجزائري الراحل مالك حدّاد، صاحب "سأهديك غزالاً" و"رصيف الأزهار لم يعد يجيب". وطرح الميلودي شغموم تساؤلات حول فكرة اعتبار "الرواية ديوان العرب" في لحظتنا الراهنة. فيما برز الأديب الليبي أحمد ابراهيم الفقيه في لحظة غضب عفويّة وصادقة حين خاطب دعاة التجديد في الأدب قائلاً: "اكتبوا ما شئتم، اختاروا ما طاب لكم من الأشكال والقوالب والمراجع والتقنيات... لكن اكتبوا أدباً عميقاً وجميلاً وصادقاً!". شرابي والطيب صالح وكان حضور المفكّر وعالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي، من نقاط القوّة في الندوة. لكن صاحب "مقدّمات لدراسة المجتمع العربي" اكتفى للأسف باسترجاع نظريّته الشهيرة حول طغيان النظام البطريركي الذي لا يعترف للمرأة بحقّها في الوجود والمبادرة... وخاب ظنّ محبيه، الذين تمنّوا لو أن الرجل الذي بدت عليه علامات التعب، بذل جهداً وطبّق منهجه المهمّ على عدد من الروايات العربيّة التي تعكس تلك الاشكاليات بشكل أو بآخر، في بنيتها ولغتها وموضوعها. أما الخيبة الكبرى فجاءت من الطيّب صالح. فقد انتظر منه الجمهور شهادة حقيقيّة، حول تجربته التي تعتبر مفترق طرق في مسار الرواية العربيّة، فإذا به يطالعنا بحديث طريف عن الشيخوخة، وعن الشعر! أتبعه بهجوم مجاني وسطحي وغير مبرّر على الحداثة والمحدثين! لكنّ محمد بن عيسى استعاد زمام الأمور، بعد أن حيّا ذكرى جورج أمادو، الكاتب البرازيلي الكبير الذي انطفأ قبل أسابيع وكان من روّاد أصيلة. فقد أعلن أمين "مؤسسة منتدى أصيلة" عن تأسيس جائزة للرواية العربيّة تحمل اسم الكاتب المغربي الراحل محمد زفزاف وتأسيس صندوق لدعم ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبيّة. وكان طيف زفزاف يحوم في الجوار، ينتظر ربّما أن يفرغ صديقه محمد شكري من الكلام الجاد، كي يمضيان معاً إلى "شي بيبي" أو "غارسيا" أو أي مقهى آخر.