سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصر تستضيف إلكترا وأنتيغون وفيدرا ... وروميو وجولييت مجريان على ضفاف النيل . بين غياب المسرح اللبناني وتراجع التجريب والاحتفاء بالانتفاضة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي : بحثاً عن الذاكرة المفقودة
حفلت الدورة الثالثة عشر ل "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" بكثير من الظواهر الإيجابية التي تؤكد وصول المهرجان إلى مرحلة النضج. يؤكّد على ذلك الارتفاع الملحوظ في مستوى العروض وحجم الإقبال الجماهيري عليها، وهو إقبال يتزايد سنويا على رغم إصرار بعض رموز الحركة المسرحية في مصر على مهاجمة المهرجان ومقاطعته. لكنّ منتقدي المهرجان، لا يمانعون في ادراج أسمائهم على قائمة المكرّمين الذين يحتفي بهم "التجريبي" كلّ صيف، وآخر هؤلاء محمود ياسين الذي كرم هذا العام بعد أشهر قليلة من الهجوم الذي شنه على المهرجان، خلال مشاركته في "مهرجان الكويت المسرحي". وقد عاب ياسين يومها على "التجريبي" اهماله إنجازات جيل الستينيات. وقبله وقف محمد صبحي في الموقع نفسه، إذ وافق على أن يكرّمه المهرجان، من دون أن يكف عن مهاجمته ومهاجمة القائمين عليه. في دورة هذا العام قدمت الفرق العربية وحدها نحو 45 عرضا من بينها 26 مصرياً، واستضاف المهرجان 40 عرضاً مسرحياً من 33 دولة أجنبية، بينها الصين وتايلاندا اللتان شاركتا للمرّة الأولى. أما المسابقة الرسمية فشاركت فيها 47 مسرحية. وتميزت عروض هذا العام بالاعتماد على نصوص كلاسيكية، أو بالغرف من معين الأساطير الإغريقية والرومانية. هكذا جاء إلى القاهرة أبطال أسطوريّون مثل إلكترا وأنتيغون وفيدرا وغيرهم. ولمسنا حضوراً لافتاً لنصوص شكسبير التي قدم بعضها هذا العام في أكثر من معالجة. مسرحيّة "روميو وجوليت" قدمتها المجر وايطاليا، و"هاملت" قدمه فنانون كويتيون وفق إعداد جديد للنص، تحت عنوان "المشهد الرابع"، فيما قدم في معالجة مصرية تحت عنوان "محطة هاملت". النصّ يستردّ سلطته ويلفت في المقابل تراجع العروض التي تعتمد أساساً على التشكيلات الحركية الراقصة، في حين أن "التجريبي" هو الاطار النموذجي لاستدراج مثل تلك التجارب وتسليط الضوء عليها. فقد عاد النصّ ليسترد سلطته وموقعه التقليدي، ما دفع النقد إلى التساؤل حول مدى تراجع التجريب لمصلحة أطر تقليديّة، لعلّها الأقرب إلى حساسية الجمهور الذي لم يبلغ بعد درجة النضج الكافية لتقبّل التجارب المغايرة والتفاعل معها. وقد لاحظ الجمهور وأهل المسرح أن هذه الدورة تميّزت بغياب شبه طاغ للرموز المسرحيّة العربيّة، من روجيه عسّاف ونضال الأشقر إلى الطيب الصديقي والفاضل الجعايبي، مروراً بجواد الاسدي وقاسم محمد وتوفيق الجبالي وآخرين كانت مشاركتهم الفنية علامة من علامات المهرجان. ولا يمكن إغفال ظاهرة أخرى ميزت عروض هذا العام وهي الغياب التام للمسرح اللبناني، من دون أي تفسير أو مبرّر منطقي. وقد احتلّ الهم الفلسطيني موقع الصدارة، من خلال أعمال، آتية من فلسطين "عناد"، "القصبة" أو من الدول العربيّة وليد عوني في "سترة النجاة تحت المقعد"، والعرض الإماراتي "كوكتيل".... وجاءت المفاجأة من الفرقة الفرنسية التي اختتمت عرضها بأشعار توفيق زياد التي تمجد فعل المقاومة مثل "أناديكم". ولم يكن ذهاب جائزة أفضل عرض في المهرجان إلى مسرحية "قصص تحت الاحتلال" لمسرح القصبة، سوى تأكيد على المناخ. لكنّ ما سبق لا يعني أن الجائزة أتت من باب المجاملة، بل هي جائزة "فنية" في المقام الأول. وكانت أولى محطات الاختلاف في المهرجان التجريبي، العرض الافتتاحي الذي قدمه المخرج المصري الشاب خالد جلال، على شكل استعراض يحيي الشخصيات المسرحية الخالدة: الكترا، بروتس، هاملت، إيزيس توفيق الحكيم، فرفو يوسف إدريس. تميّز العرض بالبساطة واعتمد على الملابس كعلامة بصرية أساسيّة، لكنّه سقط أحياناً في مطبّ الأداء الكاريكاتوري الساخر الذي وصل إلى حد مسخ تلك الشخصيات الدرامية. وأساء إلى العرض طابعه الارتجالي والحركة المتوترة للممثلين، كما تساءل الجمهور عن سبب غياب شخصيات شهيرة من المسرح العربي، وغياب أي اشارة إلى المسرح الآسيوي... في حين أن الهدف منه هو الاشارة إلى دور المهرجان المصري العريق في خلق مناخات التفاعل المثمر بين مختلف الثقافات والتجارب المسرحية. وجاءت المسرحيّة المجريّة "روميو وجولييت" فرقة اتلانتس عشيّة الافتتاح، لتعبّر عن هذا التفاعل، إذ تجاوب معها الجمهور من دون أي مقاومة. فقد نجح المخرج آدم هورجاس في تقديم معالجة جديدة للنص الشكسبيري، موازناً بين عناصر العرض المختلفة من تمثيل وموسيقى وأداء حركي راق تجاوز حاجز اللغة. وكانت السينوغرافيا هي البطل الحقيقي لهذه المعالجة المبهرة، إذ عمد المخرج إلى تحريك ممثليه فوق قطعة مطاطية أقرب ما تكون إلى "شبكة العنكبوت" التي تمتد على مستوى مرتفع من عمق المسرح لتصل إلى مقدمته وهي تلامس أرضية الخشبة. واستفاد المخرج من تحريك ممثليه عند أسفل هذه الخامة، فكانوا أقرب إلى قطع الديكور التي تكشف عن العالم غير المرئي في العرض. وقد طغى اللون الأبيض على مشاهد المسرحية، ولم يظهر اللون الأحمر إلا للتدليل على مفارقة الغياب وموت المحبين. زحام المرجعيات وقدمت مصر عرضين متميزين داخل المسابقة الرسمية: الأول "سترة النجاة تحت المقعد" للمخرج وليد عوني فرقة الرقص الحديث التابعة لدار الأوبرا المصرية الذي يجمع بين المسرح والرقص المعاصر. وكعادته قدم عوني عرضاً مثيرا للتساؤلات، ماضياً في تطوير الاسلوب نفسه الذي نجده في "الأفيال تختبئ لتموت"، "المقابلة الأخيرة"، "شهرزاد"، "حارس الظلّ"... ففي هذا العمل يعيد عوني استعمال المفردات التي شكل منها عروضه السابقة، ويمنحها فضاء جديدا في سياق عملية إعادة القراءة التي يقترحها. وهذا السياق ينتج طفرات تأتي فجأة في وسط العمل الدرامي الراقص، عبارة عن لغة ممسرحة من دون حوار، "هي الرابط لحركة الجسم وطاقته". ونلاحظ هنا أن الحركة أبسط، وربما كانت أقل عنفا، مما كانت عليه في عروضه السابقة، نتيجة الحضور الجديد للكلمة التي تحتل موقعا أساسياً في العرض. ويزيد من صعوبة قراءة العمل الجديد، كونه محملاً بمرجعيات مختلفة، من رامبو وهنري ميللر إلى الأحداث الراهنة في فلسطين. وكل ذلك انعكس ارتباكاً على البنية الدرامية. إنه بتعبير عوني نفسه، "عرض في حالة تطور مستمر". وإذا كان عمل عوني قد حظى بعروض عدّة، لاعتبارات لها علاقة ببرمجة دار الأوبرا، فقد عانت المسرحيّة المصرية الأخرى في المسابقة، "فيدرا سيدة الأسرار" لحصار غير مفهوم، إذ لم تتح لها سوى فرصة واحدة للعرض، ما اضطر الممثلين، تحت ضغط الجمهور، إلى تقديمه ثلاث مرات متتالية في أقل من ست ساعات على خشبة مسرح الهناجر. والمسرحيّة التي كتبها محمد أبو السعود، وأخرجها هاني المتناوي، أنتجت ضمن طموحات مديرة الهناجر والقومي هدى وصفي، الساعية إلى تبنّي الفرق الحرة المميزة. والمسرحيّة لفرقة "الشظية والاقتراب" التي تعمل منذ عقد كامل وفق صيغ إنتاجية مختلفة، وهو واحد من العروض الجريئة في طرحها الفلسفي لمضمون فكرة الحرية، من خلال قراءة جديدة لأسطورة "فيدرا". وقد نجح المتناوي في تقديم عرض منضبط، وفق جماليات ليست بعيدة عن مضمونه. فقد جاء الديكور تجريديا إلى حد بعيد، فيما أعطى الفضاء المسرحي بإضاءته الكابوسية ومن خلال حركة الممثلين نورا أمين، محمد شندي، المتناوي، إحساسا بالقلق الوجودي. "زهرة الصحاري" ... في شقة وحظيت عروض مصرية أخرى خارج المسابقة، بإقبال واسع، بينها: "زهرة الصحاري" الذي أخرجه ناصر عبد المنعم عن نص كتبه بالفرنسية الهادي بوراوي، وأضاف إليه التونسي عبد الرحمن أيوب. وقد لعبت بطولة العرض الممثلة المحترفة سوسن بدر، ومعها أحمد عزمي وإسماعيل محمود وفرح وهذا في ذاته مؤشر جيد إلى قدرة العروض التجريبية على استقطاب ممثلين محترفين. وعلى رغم نجاح المخرج في تقديم عرض به كل مواصفات المسرح الشعبي، إلا أن الرؤية التبسيطية التي تبناها العرض حول علاقة الشرق بالغرب، ظلت عاجزة عن تجاوز الرؤية التي طرحها الطيب صالح في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال". وخارج المسارح الرسمية كان لجمهور المهرجان موعد خاص في مقر فرقة "الورشة" المصرية التي رسخت وجودها، مبتكرة فضاءها الخاص على المستويين الانتاجي والفنّي. وعلى مدى يوميين استقطبت الفرقة جمهورا كبيراً، ضاقت به أرجاء الشقة التي كان السؤال عن مكان وجودها هو الشغل الشاغل لرواد المهرجان العرب والأجانب. وعاش هؤلاء زهاء ساعتين من المتعة الممزوجة بالانبهار الغرائبي، وهم يشاهدون ممثلي الورشة الجدد والقدامى وفنانيها الشعبين متحلقين حول مؤسسها ومخرجها حسن الجريتلي في حلقة شبه دائرية يتبادلون أداء عدد من مشاهد الحياة اليومية في مصر. تمزج المشاهد بين الشخوص والحكايات، سواء المروية على لسان أم عماد أو التي تستند إلى قصص كافكا، وبين أغنيات أقرب للمزاج الشعبي الذي صاغته أغنيات بديع خيري وبيرم التونسي. ولا تفرق المشاهد بين منولوجات إسماعيل ياسين وشكوكو وبعض أغنيات شعبان عبد الرحيم، بل تغير في صيغ ادائها لتبدو أقرب إلى "المسرحة". وهي بذلك تدخل عناصر جديدة إلى بنائها التعبيري التهكمي الساخر. لكنّ يبقى السؤال مشروعاً حول مدى امكان اعتبار هذه الفرجة "عرضاً مسرحياً"، حتى ولو تعاملنا معها في سياقها الكرنفالي. تونس المحيرة وبيت جالا المقاومة وجدت العروض المصرية منافسة قوية من العروض العربية هذه الدورة. شاركت تونس بعرضين، حمل الأول عنوان "نواصي" اخراج عز الدين قنون، وقدمته فرقة "المسرح العضوي" في ساحة وقاعات بيت الهراوي الأثرى. ويتناول العرض رحلة ست شخصيات تبحث عن هويتها، بعد وفاة رب العائلة وتنازع أبنائه على الميراث. ونضيع في حالات متناقضة وتساؤلات حول الشرعية والأحقية في الخلافة، وتبني خطاباته السلطوية المتناقضة. ويكتشف المشاهد أنه أمام شخصيات هشة ومهزومة، على رغم قناعها المتصلب، لكل منها جرح خاص... ويواصل قنون هنا اختبار علاقة الممثل بالفراغ المسرحي، وقدرته على ابتكار حركة مسرحية تتغير بتغير هذا الفراغ. ويقوم العمل على مجموعة ممثلين ممتازين، من مختلف الأجيال، وازنوا بدقة بين الأداء الكوميدي والميلودرامي، نجحوا في شد انتباه المشاهد، على رغم الضعف الدرامي والبنيوي الذي يعتري النصّ. كما بدت تنقلات الممثلين وحشر الجمهور داخل حجرات بيت الهراوي هي الأخرى مفتعلة، ومن دون مبرر يغير من أشكال التفاعل الإيجابي مع العرض. على رغم نقاط ضعف مسرحيّة "نواصي"، فقد رأى كثيرون أنّّها كانت أجدر بتمثيل تونس، من عرض "المنشار الحائر" الذي قدمه "مسرح فو" بإخراج مشترك لرجاء بن عمار والمنصف الصايم. وقد فاز هذا الأخير بجائزة أحسن ممثل عن دوره في المسرحيّة، ربّما لقدراته التمثيليّة. فهو يلعب طوال ساعة وثلث الساعة دور كاتب سيناريو يتخيل مشاهد سيكتبها في أعماله، فيبدو بعضها مجسدا في عمق المسرح. وهذه المرة تكثف رجاء بن عمّار من اشتغالها على جسد الممثل وصوته، متداخلاً مع أصوات أخرى، لكنّ ذلك لا ينقذ العرض من الشطط الذي يؤدي إلى الملل. وكان لا بدّ من قدر من التكثيف والانضباط في حركة الممثل التي بدت مليئة بالزوائد والثرثرة الانفعالية، خصوصاً وهو يتحرك في فضاء عجزت علاماته البصرية عن البوح الدلالي، فأوحت بالارتباك والتلفيق. ومن جهة أخرى أثار العملان المشاركان باسم فلسطين، قدراً كبيراً من الحماسة والتجاوب لدى الجمهور. العمل الأول كان عنوانه "وبعدين"، لفرقة "عناد" الآتية من "بيت جالا" التي سلّطت الأحداث المأسويّة الأضواء عليها منذ أشهر عدّة. والعرض تولّد من ورشة عمل مع رائدة أبو غزالة، وكما يتضح من اسمه فقد كان مشغولا بالبحث عن نهاية لما يحدث في فلسطينالمحتلة. ورغم الطابع المباشر، المبرر في مثل هذه الأحوال، استطاعت المخرجة تقديم حلول فنية متميزة على مستوى الإخراج، تربط المشاهد بالعرض قبل أن يبدأ. فنحن ندخل إلى القاعة التي تشبه الملاجئ المستخدمة في الحروب، عبر نفق مليء بالجثث... جثث ضحايا القصف الذي نتابعه عبر شاشات تلفزيونية موضوعة في الممر نفسه. ويمزج العرض بين وقائع إنسانية مباشرة، وأخرى تسجيلية تراهن على مستقبل يرسمه أطفال الانتفاضة الذين يهدون المشاهد حجراً يرجم به المحتل، في طقس رمزي يكمل رسالة العرض الفنية. شعر عبدالصبور في كوميديا سوداء أما العمل الفلسطيني الثاني "قصص تحت الاحتلال"، فقد فازت الفرقة التي قدّمته مسرح القصبة بجائزة أفضل عرض. ونجح في انتزاع الإعجاب، كونه راهن على التفاصيل الإنسانية البسيطة التي حلم بها المواطن الفلسطيني بعد أوسلو، ثم جاءت التطورات لتحول الأحلام إلى كوابيس. يقوم العرض على حكايات صيغت بحس ساخر وعميق، يصل بالمشاهد إلى ذروة الإحساس بقسوة الكوميديا السوداء. ويربط بين كل هذه الحكايات راو وحيد على حافة الهوس، يروي مقاطع اختيرت بعناية من احدى قصائد صلاح عبد الصبور. وتزيد القصيدة من عمق المأساة. فما حيلة الكلمة حين يصبح القتل فعلاً يومياً؟ ينجح المخرج نزار الزغبي في تقديم هذه الحكايات في سينوغرافيا بسيطة وبديعة، ليست سوى أكوام من أوراق الصحف التي تدفن تحتها البطولة والحقيقة... وكرسي تجلس عليه دمية يظلّ معلقاً في الفراغ والبعد الرمزي هنا لا يخفى على أحد. أما حركة الطفل الفلسطيني في رمي الحجر، فتتحول رقصة بديعة مرجعيتها الوحيدة هي الأحداث الواقعية. فهي هنا ابنة شرعية لبيئتها، كما بقية مفردات العرض النابضة بالحياة. أما العرض الإماراتي "كوكتيل" الذي قدمته فرقة مسرح الشارقة، وأخرجه محمد العامري، فسعى هو الآخر إلى تناول الأوضاع العربية الصعبة. لكن مفرداته جاءت مرتبكة، ولم تتمكن من القبض فنياً على المعنى... ومثله كان العرض السوري "يوميات مجنون" الذي أعده وأخرجه كمال البني عن نص لغوغول، وقدمته فرقة "المسرح القومي". اعتمد العرض على رصد معاناة مواطن يتعرض لضغوط نفسية شديدة، ولكن الإخراج بدا تقليديا وفاتراً، على رغم من اجتهاد المخرج المُعدّ في إضافة شخصيات جديدة إلى النص الأصلي المكتوب لممثل واحد. ولم تنجح هذه الإضافة في كسر الحضور البارد للممثل الرئيسي في العرض، خصوصاً أن الممثلين الآخرين لم يمتلكوا فعالية حقيقية في تطوير النص، وبدوا أقرب إلى الأطياف منهم إلى شخوص من لحم ودم. تفوّق تقني وفنّي وكما هي العادة راهنت العروض الأجنبية في المهرجان، إما على التفوق التقني أو على قدرات الممثلين الاستثنائية. ولذلك لم يكن مستغربا أن تنال هذه العروض الجوائز المرتبطة بالتقنية والإخراج والتمثيل. وبين هذه العروض، مسرحيّة "الكترا" اسبانيا التي قدّمت رؤية جديدة لنصّ سوفوكل المكتوب في القرن الخامس، وميزتها الأولى الأداء التمثيلي تشارو سوخو / اليكترا الفائزة بجائزة أحسن ممثلة. كان الممثلون بالملابس التاريخية الثقيلة، يتحركون بخفة ورشاقة في فراغ مسرحي ممتلئ بالبانيوهات المغاطس التي تشير إلى طقس الثأر الدموي. وتدور الأحداث في منزل أغاممنون والد الكترا الذي قتلته زوجته كليمنسترا، والجديد هنا قدرة المعد على مزج النص الكلاسيكي بعدد من الأغنيات الشعبية المتوسّطية وتقديم العرض بتقنية تحافظ علي حضور "الكورس" كما هو موجود في الكلاسيكيات مع عصرنة عبر مشاركتها في الطقوس المشهدية التي تربط التراث الآسيوي القديم برقصات الطبول الأفريقية. وعكس عرض "كارمن فونبري" بولندا المستوحى من حروب البوسنة ومن الصراعات العرقية في العالم المعاصر، تميّزاً على المستوى السينوغرافي. قدم العمل في مساحة مكشوفة في أرض الاوبراالمصرية، ولم يكن مفاجئا أن يفوز بجائزة أفضل تقنية. وربما لم ينافسه في الحصول على الجائزة، سوى العرض الياباني "بيت العرائس" الذي قدم خارج المسابقة رغم تميزه الشديد. ست ممثلات يتخذن هيئة العرائس إلى جانب ست سلاحف نينجا تقوم باستخدام العرائس أيضاً، لتقديم حكاية عائلة يابانية تشتمل على انماط بشرية مختلفة تحاول جميعها الهرب من الجنون. ويتناول العمل قضية أساسية هي القدرة على الهرب من الأنساق الشمولية، موظّفاً تقاليد المسرح الياباني عبر تقديمه في إطار مسرح العلبة، مع استعمال الغناء الاوبرالي ذو الطابع المسرحي. وفي إطار المشاركات العالميّة المميزة الأخرى في "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي"، تبرز "الشموس الجانبية" لفرقة تحمل اسم مخرجة العرض اديتا براون النمسا. يتناول العرض علاقة أم بابنتها، مستعرضاً وجوه هذه العلاقة، عن طريق المزج بين تقنية الفيديو والحوار الراقص الذي يسترجع بعض ذكريات هذه الأم. وقد نالت مخرجته جائزة أفضل إخراج، لاستخدامها المبهر لتقنية الفيديو، لتجسيد مشاعر الأم داخل تشكيلات حركية راقصة. وإذا كانت الدورة ال 13 للمهرجان تميّزت بتقديم عروض ممتعة ورفيعة المستوى، فقد عانى الجمهور من صعوبة اللحاق بإيقاع البرمجة، خصوصاً أن كلّ العروض تركّزت في موعدين ثابتين السابعة أو التاسعة مساء. وهناك ملاحظات أخرى حول تراجع مستوى الندوات الفكريّة المصاحبة للمهرجان. موضوع الحلقة النقديّة هذا العام كان "المسرح التجريبي الآن - الواقع والتحديات"، وتوزّعت المداخلات على ثلاثة محاور، هي في حقيقتها استعادة محاور سابقة طرحها المهرجان في السابق. وتسود اليوم قناعة بضرورة إعادة النظر في فكرة الندوات ذاتها، طالما أن الأسماء المشاركة تتكرر، وطالما أن جميع المشاركين يصرّون على البدء من نقطة الصفر باستعراض تاريخي لتطور التجربة المسرحية وصولا الى الخلاف حول معنى التجريب. كأن المهرجان بلا ذاكرة! وربّما كان من الأفضل اعادة النظر بصيغة الندوات واللقاءات الفكريّة. لماذا لا يتمّ، مثلاً، تنظيم حلقات نقاش تتناول الأعمال الأساسيّة المشاركة بحضور فنّانيها؟ لماذا لا تقام ندوات لتقديم اصدارات المهرجان المهمّة والتعريف بها؟ هناك حاجة فعليّة لتناول تلك الكتب، خصوصاً أنها لا تزال بعيدة عن متناول القارئ العادي، ونادرة في أيدي المتخصصين، رغم أهميتها ورغم أن عددها تجاوز 153 عنواناً، تضاف إليها اصدارات هذا العام التي بلغت 16 كتاباً. من أبرزها "الدراما والأيديولوجيا في إسرائيل"، "تجربتي في بولندا" أو "ارض الرماد والماس" للمخرج والمنظر المسرحي ايوجينو باربا الذي كان اسمه على رأس لائحة المكرمين. فقد كرّم هذا العام تسعة من رموز المسرح العربي والعالمي، منهم محمود ياسين والمغربي عبد الرحمن بن زيدان.