هل يتوقف مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في صورة نهائية؟ هذا هو السؤال الذي طرح بشدة خلال الدورة العشرين لهذا المعرض، وكان كثيرون وجهوا السؤال نفسه الى فاروق حسني وزير الثقافة المصري في المؤتمر الصحافي الذي عقده قبل بداية المهرجان. إنه السؤال الذي يلاحق الوزير حسني كثيراً بصفته صاحب الفكرة وأكثر المتحمسين للمهرجان، أمام خصوم كثر ارتاحوا الى تسميته"المهرجان التخريبي"! هل يستمر المهرجان التجريبي أم يتوقف بعد مغادرة فاروق حسني منصبه الوزاري، إما الى منصب مدير عام ال"يونسكو"أو إلى مرسمه الخاص؟ ابتسم الوزير لدى تلقيه السؤال مطالباً الجميع بضرورة الدفاع عن المهرجان وحمايته والإصرار على استمراره كونه"حدثاً ثقافياً فتح آفاقاً للبحث، وساهم في إثراء خيال المسرحيين وكان دائماً فرصة للاحتكاك والتعرف على ثقافات مختلفة". لعل الدورة العشرين هي دورة فارقة تسمح بإعادة النظر في أهداف المهرجان وطموحاته وحجم ما حققه على أرض الواقع للمسرح والمسرحيين، وفرصة للبحث في سبل تطويره خصوصاً أن دورة المهرجان هذا العام تكاد تلامس المشهد المسرحي الأسوأ للمسرح المصري. فقبل ايام قليلة من افتتاح المهرجان احترق المسرح القومي بسبب"احتكاك كهربائي"ليزداد عدد المسارح المغلقة، مسرح"الطليعة"مغلق منذ شهور للإصلاحات، مسرح"الهناجر"مغلق منذ عامين لعدم استيفاء شروط الأمن الصناعي، ومسرح"البالون"مغلق منذ شهر للسبب نفسه. جاءت دورة المهرجان هذا العام وعروض مسارح البيت الفني للمسرح"مسرح الدولة"بلا إنتاج تقريباً، فهي"مستعارة"من فرق مسرحية مستقلة، وشارك مسرح"الهناجر"بأربعة عروض، ثلاثة منها لفرق مستقلة، وشارك مسرح"الطليعة"بأربعة عروض، ثلاثة منها لفرق مستقلة أيضاً، بينما لم يشارك"المسرح القومي"و"المسرح الحديث"بأية عروض. "المسرح المستقل"هو لافتة المهرجان هذا العام، فهو محور الندوة الرئيسة على مدار ثلاثة أيام، وموضوع المائدة المستديرة، وشاركت فيها معظم الفرق المسرحية المصرية المستقلة. المفارقة الموجعة أن المهرجان الذي شاركت فيه 55 فرقة تمثل 26 دولة أوروبية و16 دولة عربية وشاركت ايضاً 21 مسرحية مصرية على هامشه، لم تتوافر فيه فرقة مسرحية واحدة مستقلة!! وكأن لائحة المهرجان التجريبي لا تتيح مشاركة الفرق المستقلة إلا من خلال لافتة مسارح الدولة. في الندوات التي رافقت المهرجان أعلن المسرحيون المستقلون أن مشكلتهم ببساطة هي"الدولة"فطوال 20 عاماً من عمر هذه الفرق وعلاقتها بالدولة تتأرجح بين الشد والجذب، والرعاية والاحتواء، وليس هناك إطار قانوني يمكن هذه الفرق من العمل بحرية، لا توجد لديها مسارح أو أماكن للعرض المسرحي، ولا يوجد اعتراف حقيقي بها. أزمة ثقة ممتدة بين شباب المسرح المستقل والدولة، فطوال 20 عاماً تكررت وعود وزارة الثقافة بالرعاية والدعم من دون أن يحدث شيء، وسبق أن رفض"صندوق التنمية الثقافية"التابع لوزارة الثقافة مشروع هيكلة الفرق المستقلة ووضع كيان لها عام 1990. الدولة تمد يد العون من جانب وتناقض"فعلتها"من جانب آخر. وهكذا فإن إصرار المهرجان التجريبي على مشاركة الفرق المستقلة تحت غطاء حكومي لفرق مسارح الدولة هو أمر بالغ العبث! وعلى أية حال فإن المستقلين المشاركين في المائدة المستديرة انتهوا إلى ضرورة صوغ مشروع شراكة مع الدولة من دون أن يكون مشروع"وصاية"أو يندرج تحت سياسة"الاحتواء". فأول أشكال الدعم الذي يطالبون به كحق وليس كمنحة، هو حماية الاستقلال والحرية. هدايا للفرق العربية ما خلا عرض الدنمارك الراقص"الاستيلاء على الأرض بمؤخرة الرأس"الفائز بجائزة أفضل عرض، أهدت لجنة التحكيم الدولية كل جوائز المهرجان للعروض العربية ولسان حالها يقول ما سبق أن قاله المخرج البولندي الأشهر شاينا:"ذلك مهرجانهم وتلك جوائزهم"! من ناحية أخرى جاءت العروض الأجنبية المشاركة في دورة المهرجان هذا العام متواضعة والكثير منها هو"كناسة الدكان الأوروبي"ما عدا العرض الإيطالي الباهر"قصة انتيغون"الذي افتتح المهرجان ونال الإعجاب وأثار الدهشة ايضاً لحرمانه من الجوائز!! عن رواية بهاء طاهر"خالتي صفية والدير"قدم"مركز الإبداع"في الاسكندرية مسرحة للرواية حصد بها جائزة الأداء الجماعي للفرقة، وقدمت سورية أيضا مسرحة لحكاية الطفولة"ليلى والذئب"لفرقة"الدائرة"من اخراج باسم عيسى وحصلت راما عيسى على جائزة أفضل ممثلة. العرض هذا يعيد تفكيك الحكاية ويحتفظ بالإطار العام بينما يبني داخله مجموعة من العلاقات الإنسانية، فيتحول الذئب عاشقاً وتتحول ليلى باحثة عن الحرية. وحاول مخرج هذا العمل المزج بين مسرحة الحكاية وتقنية السرد المسرحي في مشهد يتسم بالبساطة والحرية. أما عرض"قهوة سادة"لفرقة"مركز الإبداع"في القاهرة فقد حصل مخرجه خالد جلال"مدير المركز"على جائزة افضل مخرج. وعلى رغم إشكالية العرض وتباين الآراء حوله فإن البعض رآه مجرد اسكتشات ضاحكة، وتيمة بسيطة حول الحنين إلى الماضي صالحة لصياغة مشهد مسرحي لا لصوغ عرض متكامل. لكن العرض مع ذلك ينطوي على قيمة تجريبية من حيث هو نتاج ورشة فنية استمرت عامين لتدريب الممثل وتكوينه. عرض ارتجالي يتميز بخيال كوميدي جامح وسخرية لاذعة لا تجسد حنيناً إلى الماضي بمقدار ما تستدعي الواقع النقيض بكل ما فيه من أزمات وإحباطات. سخرية كاشفة وواعية تحفز المشاهد على المراجعة والتغيير. كوميديا عراقية سوداء مناهضة الحرب الأميركية على العراق كانت محور أربعة عروض مسرحية أولها"تحت الصفر"للفرقة القومية العراقية من إخراج عماد محمد، وثانيها"الهروب إلى أين"وهو عرض سويدي من إخراج العراقي طلعت شاكر، وثالثها"جنية أبو غريب"لفرقة"السوق"الإسبانية، ورابعها"ما الذي أعرفه عن الحرب"لفرقة أميركية من اخراج أندريا مادوكسي. وما عدا العرض العراقي الذي حصد جائزتي التمثيل مناصفة بين عبد الستار البصري ويحيى ابراهيم، وفاز بجائزة السينوغرافيا، كانت العروض الأخرى باردة خصوصاً العرض الأميركي المشغول بمعاناة الجنود الأميركيين في العراق من دون قدرة على إقناع المتفرج العربي بأزمته حتى على المستوى الفني. "تحت الصفر"كوميديا سوداء من تأليف ثابت الليثي تتناول الواقع العراقي في ظل الاحتلال وتأثيره في ملامح الشخصية العراقية. داخل ملعب كرة قدم مهجور"حيث العالم كرة تتقاذفها أو تركلها أميركا كما تشاء"يلتقي رجلان: شيخ ملّ الأسئلة وسدت أمامه الطرق والأبنية، وشاب لا يزال يبحث عن طريق، الكل هارب من بلاد تقطع بها الرؤوس على الطرق، هارب من حظر التجوال والانتهاكات اليومية. لقاؤهما مفزع ومشوه كالدمى الساقطة من أعلى المسرح، لقاء تسوده الهلوسات والجنون والعراك، كما كل شيء في الخارج، فما أحدثه الاحتلال في النفوس أكثر رعباً من قصف الطائرات والدبابات. جائزة التمثيل جديرة بعبد الستار البصري، فهو تميز بلياقته الجسدية على رغم شيخوخته، وتميز كذلك بقوة الأداء والحضور وتلوين طبقات الصوت والصمت والإمساك بالإيقاع والغناء. ثلاثة عروض شكلت حضوراً خاصاً وفجرت الكثير من الأسئلة حول التجريب ووظيفته ودوره وتأثيره في الواقع المسرحي العربي تحديداً: عرض وليد عوني"الفراشة العذراء"لفرقة الرقص الحديث التابعة لدار الأوبرا المصرية، تجربة مغايرة تماماً وشكل جديد للعرض المسرحي. إنه يقدم فيلماً سينمائيا صامتاً على خشبة المسرح، شاشة سينما تفصل المنصة عن الجمهور، يُكتب عليها اسم الفيلم وأبطاله وتاريخ انتاجه 1926 ومدة عرضه، مصحوبة بافتتاحية موسيقية لبليغ حمدي. ويتابع جمهور المسرح على الشاشة أحداث الفيلم الصامت بينما يكتب حوار الشخصيات على أسفل الشاشة. الفيلم ميلودراما كحكايات العشرينات والحركة بطيئة والملابس وطريقة الأداء كلها تنتمي إلى زمن الفيلم الصامت. الجديد هو أن ما يحدث عرض مسرحي، فالشخصيات التي نراها على الشاشة هي شخصيات حية لممثلين وراقصين خلف الشاشة. يتسم العرض بمهارة تقنية عالية في استخدام الضوء وميكانيكية تغيير المناظر في الخلفية. لكنها جماليات مهدورة، واستعراض مهارات لتجريب مغلق وإمكانات تعمل داخل عالمها لا تُعنى بواقع ولا تسائل مجتمعاً. العرض الثاني هو"ذاكرة النسيان"لفرقة مسرح"الحكوائي"الفلسطينية وقد أحدث حالة مسرحية لدى جمهور المهرجان. فالعرض يمسرح نص محمود درويش"ذاكرة للنسيان"، وجاء أداء بطله فرانسوا أبو سالم ليمتعنا بعرض خارج السياق وخارج التجريب والمهرجان. أما العرض الثالث فهو"قصة انتيجون"لفرقة"مستيرال للرقص الحديث"ايطاليا وهو عرض افتتاح المهرجان وكان الأكثر ابهاراً وجمالاً عبر المزج بين الكلاسيكي والحديث، بين التعبير الحركي الراقص والأداء التمثيلي، بين الضوء والفراغ. وقام العرض على ثلاثة نصوص مختلفة لأنتيجون تجسد ثلاثة عصور وثلاثة كتاب سوفوكليس وبريخت وألبرت امبرانو ومن خلالها طرح العرض رؤيته في تحديد الهوية.