انتهت معركة رئاسة حزب الكتائب قبل ان تبدأ. وما لم يطرأ تطور غير محسوب، فإن كريم بقرادوني هو الرئيس الخامس للحزب بعد بيار الجميل 1937 - 1984 وإيلي كرامة 1984 - 1986 وجورج سعادة 1986 - 1998 ومنير الحاج 1998 - 2002. وهو الرئيس الثاني غير الماروني بعد الكاثوليكي إيلي كرامة لحزب ماروني في غالبيته العظمى. وهو الرئيس الثاني بعد بيار الجميل الذي يترشح من دون منافسة مرشح آخر، ولا يأتي حكماً رئيساً توافقياً بين أجنحة الحزب المنشقة على بعضها البعض. وهو الرئيس الثاني للحزب الذي "تنظّم" له - اذا صحّ التعبير - السلطة اللبنانية انتخابات رئاسة الحزب. على أبواب انتخابات 1992 التي شهدت تنافساً محموماً بين جورج سعادة وسمير جعجع، جاء من يبلّغ من المسؤولين اللبنانيين الى سعادة الرسالة الآتية: "اذا لم تكن قادراً على ادارة هذه الانتخابات، نديرها نحن". يومذاك كان تدخل السلطة فاضحاً بممارسة ضغوط على الهيئة الناخبة تارة وبعرض اغراءات طوراً ترجمة لقرار واضح وصريح هو منع وصول جعجع الى رئاسة حزب الكتائب بالقوة، حتى وان اقتضى الأمر ممارسة السلطة الوسائل غير المشروعة في منع المنافسة المتكافئة، وهذا ما حصل بالفعل من خلال اجراءات أمنية متشددة وقطع الطريق الى البيت المركزي للحزب في الصيفي والسيطرة على الناخبين. مع ذلك كاد جعجع يفوز من الدورة الأولى للاقتراع عندما تقدم عليه سعادة بثلاثة أصوات فقط، سرعان ما ارتفعت الى سبعة في الدورة الثانية حسمت انتصار سعادة. في ذلك اليوم كان قرار السلطة اللبنانية منع انتخاب جعجع رئيساً أكثر منه فوز سعادة بالمنصب، وهو القرار نفسه تقريباً اليوم: منع وصول الرئيس أمين الجميل الى رئاسة حزب الكتائب. وهو ما يشير اليه مسؤول رسمي واسع الاطلاع ل"الوسط" بقوله: "أليس من حق الدولة المناورة السياسية؟ هذا ما فعلت. اختارت الأقل خطراً عليها". على ان الأمر ليس هذا فحسب، وليس حيال حزب الكتائب فقط. فمنذ 7 آب أغسطس الماضي مع بدء حملة الاعتقالات والتوقيفات التي جردتها السلطة اللبنانية واستكملت باجراءات أمنية أخرى أفضى بعضها الى اطلاق الموقوفين بكفالة مالية وابقاء بعضهم الآخر بعدما وجهت اليه تهمة التعامل مع اسرائيل، بدا ان السلطة تعد لخطوة تصفية مواقع المعارضة تماماً، وهو فحوى ضرورة توصلها الى النتائج الآتية: 1- شل تنظيمي "القوات اللبنانية" المحظورة و"التيار الوطني الحر" المؤيد للعماد ميشال عون، ومنعهما من حرية التحرك وممارسة نشاطات سياسية وشعبية بدعوى ان كليهما محظور من القيام بأي دور سياسي: الأولى بسبب سحب العلم والخبر منها فأصبحت حركة غير قانونية، والثاني بسبب عدم حيازته بعد ترخيصاً بممارسة النشاط السياسي. وكان يعوز هذين الهدفين بضعة اجراءات على الأرض: أوقفت قيادة "التيار العوني" ثم أطلقت بعد أسبوعين، وسجن المستشار السياسي لقائد "القوات اللبنانية" توفيق الهندي المقرب من السيدة ستريدا زوجة سمير جعجع والتي تتولى في غياب زوجها قيادة أنصار تنظيمه. بذلك أصبح هذان التنظيمان في مواجهة القضاء بعد جولة مواجهة مع الجيش والأجهزة الأمنية، وفقدا تبعاً لهذا أي مقدرة على التحرك مستقبلاً تحت وطأة هذه الملاحقة. وهما أساساً الطرفان المعارضان الوحيدان اللذان يحركان الشارع بفعل مهارتهما في تحريك الخلايا الطالبية وقيادة نشاطاتها وجرأتهما في مواجهة القوى الأمنية. 2- خلق تنظيم بديل من "القوات اللبنانية" التي تقودها ستريدا جعجع عبر احياء دور "قواتيين" سابقين كجورج كساب وفؤاد مالك وألفرد ماضي وعادل صقر باسم "القوات اللبنانية" نفسها بحيث تطلق يد هؤلاء في اعادة بناء هذا التنظيم لكن من خلال موقع موال بعد استعادة الترخيص بالعمل وممارسة النشاط السياسي المحظور منذ 23 آذار مارس 1994. وتجري منذ أشهر اتصالات بين هؤلاء ومسؤولين لبنانيين وآخرين سوريين بغية المساهمة في اطلاق هذا التنظيم بدأت ملامحه منذ نحو ثلاثة أشهر عندما استقبل رئيس الجمهورية إميل لحود كساب وماضي وصقر وآخرين بصفتهم قياديين في "القوات اللبنانية" في أول مبادرة رسمية أظهرت وجود مرونة لدى المسؤولين اللبنانيين حيال دعم هذا التيار الجديد، الذي لم يقدم حتى الآن على الأقل دليلاً اضافياً على قدرته على استقطاب مؤيدي جعجع، متنازعاً القاعدة "القواتية" بينه وبين ستريدا جعجع والهندي. بذلك أتت الضربة الوقائية بتوقيف الهندي بعد توجيه تهمة التعامل مع اسرائيل واعترافاته في شأنها ثم تراجعه عن هذه الاعترافات، لتحقق هدفاً مزدوجاً: أولهما تفكيك التيار "القواتي" الملتف حول زوجة جعجع والهندي وشل قدراته على التحرك والمبادرة، وثانيهما شق الطريق أمام "التيار القواتي" الموالي لمباشرة مهمة استقطاب القاعدة عبر اظهار تعاون السلطة معه بدءاً من اعادة العمل بترخيص ممارسة "القوات اللبنانية" نشاطاتها وعبر تجديد المساعي الآيلة الى اطلاق سمير جعجع. وهو ما تذكره ل"الوسط" أوساط التيار الجديد التي تتحدث عن صفحة جديدة في العلاقات بين "القوات" والسلطة اللبنانية من شأنها اعادة هذا التنظيم الى داخل المعادلة الوطنية، مع اشارتها الى ايجابيات أبداها رئيس الجمهورية تكراراً حيال موضوع اطلاق جعجع، من غير ان تنكر وجود اتصالات بالسوريين. 3- انهاء الصراع على السلطة في حزب الكتائب بين الرئيس أمين الجميل ومعارضيه يحول دون وصوله الى رئاسة الحزب في انتخابات السنة المقبلة عبر تسوية تجمع معارضي الجميل في حل واحد، وهم أساساً فريقان: واحد يدعم الرئيس الحالي منير الحاج وهو أقلية ضعيفة وعديمة التأثير لا دور لها سوى كونها تستمد حضورها من الشرعية القانونية للحاج بصفته رئيساً للحزب، على انه فاقد الفاعلية في القاعدة وفي قيادة الحزب. والآخر هو نصف أعضاء المكتب الملتفين حول نائب الرئيس كريم بقرادوني. بذلك نجحت السلطة في بناء تكتل واحد يواجه الجميل على رغم عدم كونه طرفاً في الصراع داخل الحزب الناشئ منذ أيام وجوده في باريس. دور الجميّل والواقع ان المشكلة ليست بين الرئيس السابق ومعارضيه داخل الحزب، وانما بينه وبين السلطة اللبنانية منذ عودته من منفاه في العاصمة الفرنسية. فمنذ رجع الجميل الى بيروت بشكل مباغت وغير مسبوق باتصالات مع السلطات اللبنانية قابلته الاخيرة بتحفظ لافت بعد أكثر من محاولة سابقة حالت فيها دون هذه العودة. مع ذلك استقبله رئيس الجمهورية مرتين. الا ان الدور الذي اضطلع به في الانتخابات النيابية صيف 2001 وتجيير أصوات مؤيديه في المتن للنائب نسيب لحود، في حلف غير معلن، ترك رد فعل سلبياً لدى السلطات التي اعتبرت تصرفه هذا حيال نسيب لحود منافس لائحة السلطة موقفاً غير ودي. لم تغفر له عودته ولا تأييده نسيب لحود الذي نشأ بتبادل أصوات أدى الى فوز بيار نجل الرئيس السابق في انتخابات المتن. الا ان لقاءين جمعا الجميل الأب والابن برئيس الجمهورية ثم انقطع الاتصال بينهما على رغم طلب الجميل منذ أكثر من شهرين موعداً لمقابلة لحود، فلم يُعط له حتى الآن. في هذه الغضون لم يكن من الصعب تلمس ملامح تنامي الموقف العدائي من السلطة تجاه الرئيس السابق بعدما بدا ان حضوره مجدداً على الساحة السياسية بعد منفى استمر 12 عاماً احيا المنافسة المارونية - المارونية التقليدية في المتن. الا ان الجميل نجح في تفكيك جوانب من الحصار من حوله، فتحالف مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عندما وقعا وثيقة تعاون بينهما سبقها انضمام النائب أنطوان غانم القريب من الجميل الى الكتلة النيابية لجنبلاط في البرلمان، ثم استعاد الجميل علاقاته مع بطريرك الموارنة وحزب الوطنيين الأحرار و"القوات اللبنانية" و"التيار العوني"، وكان أخيراً من مؤسسي "لقاء قرنة شهوان"، ليراكم هذا الواقع انخراطه بقوة في المعادلة الوطنية التي أتاحت له عند عودته الاستقبال الشعبي في بكفيا بحضور أكثر من 50 ألف مواطن. على انه بادر الى رعاية حوار مع حزب الكتائب رمى أولاً الى اعادة احياء الحزب بعدما شتتته خلافات رئيسه منير الحاج مع أعضاء المكتب السياسي وعجزه عن السيطرة على قيادة الحزب ورفضه كل مساعي الحوار وتشبثه بكرسي رئاسة الحزب. ورمى مسعى الجميل ثانياً الى تأمين المناخات السياسية اللازمة في الحزب لوصوله الى رئاسته سنة 2002. وهو طموح لم يكن يخفيه الجميل. العشاء السري لم ترضِ هذه التطورات السلطة اللبنانية، فكان ان وجهت ضربة قاسية اليه أفقدته على نحو شبه كامل فرحة الوصول الى هذا المنصب. فبقدرة قادر اجتمعت القيادة الكتائبية في منزل مسؤول أمني في البقاع، وصفه الجميل ب"العشاء السري". في هذا الاجتماع الذي عقد قبل ثلاثة أسابيع درس الحاضرون سبل منع الجميل من الوصول الى رئاسة الحزب. وفي حضور شخصية كتائبية واسعة الاطلاع في الادارة الانتخابية تم التوصل الى حل يقضي بإعادة النظر في الهيئة الناخبة عبر خفض المندوبين من 150 الى 100، بحيث ألغي عدد من المندوبين المؤيدين للجميل وعيّن بعض الأشخاص القريبين من المكتب السياسي. ثم كان القرار الأساسي بعد بناء آلية اقصاء نفوذ الجميل تماماً عن الحزب تحديد 4 تشرين الأول اكتوبر المقبل موعداً لانتخاب قيادة جديدة يسلم بها الحاج من غير تقصير ولايته كرئيس للحزب يصار فيها الى انتخاب كريم بقرادوني رئيساً بلا منافسة، تمهيداً للانتقال بالحزب من حقبة الى أخرى، هي تحوله حزباً موالياً للدولة بحكم العلاقة الوثيقة التي تربط بقرادوني برئيس الجمهورية، وانتقال النائب نادر سكر، القريب من السوريين، الى منصب نائب رئيس الحزب ليشكل مع بقرادوني الثنائي الذي سيصنع القرار الكتائبي. وسيكون بقرادوني معنياً بوضع نظرية علاقة الحزب بالدولة اللبنانية وبرئيس الجمهورية بالذات، حزباً داعماً له وللخيارات الوطنية والاقليمية، وبعلاقة الحزب بسورية. وسيكون على بقرادوني ذي الصداقات الوطيدة بأجيال عدة من القيادات السورية منذ مطلع السبعينات، بناء موقع جديد للحزب في الخارطة السياسية الداخلية سيساهم السوريون في اطلاق دورها. الا انه سيكون معنياً كذلك، وهذا فحوى صفقة الحل، بقطع صلة الرحم بين حزب الكتائب والجميل عبر اتخاذ اجراءات تنظيمية لاحقة، بعد انتخابه، تمكنه من السيطرة على ادارة الحزب ومؤسساته بالمجيء بمكتب سياسي موال واجراء تعيينات. الا انه سيكون أيضاً وأيضاً معنياً بمحاولة صعبة هي اعادة ربط القاعدة الكتائبية بقيادتها، علماً ان غالبيتها تدين بالولاء للجميل بعدما ساهمت رئاسة الدكتور جورج سعادة ومن بعده رئاسة الحاج في تفكيك ما تبقى منها من صلة بالقيادة الحزبية. وهو الاختبار الصعب أمام بقرادوني: ان يكون رئيساً لحزب الكتائب قيادة وقاعدة، لا رئيساً لحزب يقتصر على قيادة بلا قاعدة وفاقد الشعبية. أين يقف بقرادوني والحاج من ذلك؟ لا يتردد بقرادوني في الجزم بوصوله الى رئاسة الحزب، وكذا يؤكد انه سيسعى الى استعادة الدور التاريخي لحزب الكتائب في ان يكون حليفاً لرئيس الجمهورية على نحو ما كان في عهود الرؤساء اللبنانيين المتعاقبين منذ الرئيس بشارة الخوري وحتى الرئيس الياس سركيس. ويشدد بقرادوني على التسليم بصحة الخيارات التي اتخذها لحود في اشارة واضحة الى تبني الحزب لها في ظل رئاسته، الا انه لا يغفل اصراره على اجراء مصالحة بين الكتائبيين وعلى الحؤول دون خروج رافضي هذه الانتخابات من الحزب على غرار ما حصل عامي 1986 و1992. أما الرئيس الجميل فيقول ل"الوسط" ان ما حصل هو "اتفاق خيانة وليس اتفاق حل" لأنه تقرر في "عشاء سري" وتجاوز كل مساعي المصالحة والاتصالات التي كانت جارية حتى الساعات القليلة التي تزامنت مع الاعلان عن هذا الاتفاق. وعلى رغم اقراره بسيطرة بقرادوني ورفاقه على الحزب من خلال ما أعد، واعتقاده بانتهاء المعركة الانتخابية من غير ان تبدأ، الا انه يشير الى اصراره على مقاومة ما حصل من خلال "سلاح الكلمة والموقف من أجل الدفاع عن حزب الكتائب وتاريخه الطويل في حماية لبنان وخدمته". الا ان الجميل يخشى في المقابل من فقدان الحزب دوره التقليدي عبر تهميشه في الحياة الوطنية و"تصغير" حضوره وفاعليته. ويرى ايضاً ان ما حصل في الأسابيع الأخيرة رمى الى خلق أوضاع داخلية ملتبسة وخطيرة على البلاد عبر مواجهة القوى المحلية وضربها، سواء باستيعابها سياسياً كالرئيسين رفيق الحريري ونبيه بري وجنبلاط، إما بالاعتداء عليها ك"القوات اللبنانية" و"التيار العوني"، وإما بالتسلل الى مؤسساتها للسيطرة عليها وفرض أمر واقع مغاير لإرادتها الشعبية كما حصل في حزب الكتائب. يضيف الجميل أيضاً انه غير مرشح لانتخابات رئاسة الحزب ولا كان قبل ما حصل أخيراً مرشحاً لهذا المنصب، قاصراً مهمته في المدة التي أعقبت عودته الى بيروت على هدفين: الاول، السعي الى تحقيق تفاهم على معالجة المشكلات داخل حزب الكتائب بشهادة اجتماعاته الكثيرة مع الحاج وبقرادوني، وآخرها موافقته على ورقة عمل للمصالحة قدمها اليه بقرادوني عشية ذلك "العشاء السري" من أجل الوصول بالحزب الى استحقاقه الانتخابي متعاوناً ومتجاوزاً خلافاته. والهدف الثاني تأكيد انفتاحه على المسؤولين اللبنانيين ودعمه رئيس الجمهورية، وهذا ما عبّر عنه تكراراً من غير ان يحول ذلك دون تسجيل مآخذه عندما يجد خللاً في ممارسة الحكم. ويجزم بأن الاتصالات مقطوعة تماماً مع قيادة الحزب وبقرادوني منذ الاعلان عن ذلك الحل، الا انه لا يحجب امكان مواجهة ما يحصل حتى من خارج الحزب. وهو ما يشير اليه عن منفاه طيلة 12 عاماً من التعرض له والتلويح بملفات قضائية لا وجود لها، ثم كان ان عاد الى بيروت وأكد حضوره السياسي والشعبي. وهي في الواقع الخلاصة التي يستنتجها الجميل بتأكيد ان ما حصل في حزب الكتائب هو معركة السلطة اللبنانية ضده لا معركتها من أجل بقرادوني، صديقه القديم في جامعة القديس يوسف وفي المحاماة وفي مصلحة الطلاب، ورفيق مسيرته في بناء العلاقات الكتائبية - السورية منذ مطلع السبعينات الى ان افترقا تماماً عام 1982. بل لعل أهمية الانقلاب الجاري في حزب الكتائب هو تأكيد حقيقة خطيرة هي نجاح الدولة اللبنانية، حيث لم تنجح من قبل في العهود السابقة، في بناء أحزاب الدولة لا أحزاب الناس. وهي في ذلك باتت تشبه التجربة السورية أو تتشبه بها.