إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    5 مشاهير عالميين أصيبوا بالسكري    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستعادة المستحيلة لدور حزب السلطة . محاولات تجديد "الكتائب اللبنانية" تفشل وتزيد الانقسامات والخلافات الداخلية 1 من 3
نشر في الحياة يوم 27 - 02 - 2002

يعتبر حزب الكتائب من أقدم الحركات السياسية اللبنانية، إذ لعب دوراً في فترة الانتداب الفرنسي واستمر حاضراً في اللعبة الداخلية منذ الاستقلال الى لحظة انفجار الحرب الأهلية في العام 1975.
بعد انطفاء نار القتال وانعقاد تسوية الطائف دخل الحزب الخارج من حرب مدمرة أزمة بنيوية داخلية انعكست على توجهاته السياسية التقليدية التي ساهمت سابقاً في رسوخ دوره على المستويين: الدولة والشارع المسيحي الماروني تحديداً.
الآن دخل الحزب في منعطف جديد، ويبدو ان أزمته مستمرة في داخله وفي دائرة محيط انصاره وبيئته الجغرافية - الطائفية. فالحزب يريد التجديد وتعوزه الإرادة التي تكسر مع الماضي وتفتح آفاق المستقبل.
وبين الماضي والمستقبل دخلت قيادات الحزب في صراعات فئوية لها صلة بحاضره المأزوم وفشله في تحديد هوية جديدة تجدد دوره الذي فقد زخمه في جيل الشباب.
الصحافي اللبناني طانيوس دعيبس لاحق أزمة حزب الكتائب محاولاً البحث عن أجوبتها من مصادر الحزب وقادته، فكان هذا التحقيق الذي تنشره "الحياة" على ثلاث حلقات.
لا شك في ان انتخاب المحامي كريم بقرادوني رئيساً لحزب الكتائب شكل حدثاً سياسياً. ليس لأن بقرادوني غير ماروني. ولا لأن صورته المعتادة هي ان يكون الثاني دائماً، فإذا به يخرج من هذه الصورة الى صورة الرئيس. ولا لأنه خاض معركة انتخابية انتصر فيها، بهذا التكتيك أو ذاك، على العائلة، في زمن تتكرس فيه الوراثة العائلية كنظام. ولا لأن حزب الكتائب واسع الفاعلية ليشكل انتخاب رئيس له حدثاً في الحياة السياسية. ولا لأن شخصية كريم بقرادوني، البراغماتي، الحواري، القادر دائماً على ابتداع موقع له على أنقاض المواقع المنهزمة حوله، هي شخصية حدثية. كل هذه العناصر مهمة بقدر أو بآخر، إنما الحدث هو خارجها. إنه يكمن في ما نتج عن الانتخاب الكتائبي من استعادة لشعارات وصيغ لغوية وخطاب سياسي، وفي ما احاط به من وقائع تربط الانتخاب بعلاقات المتنافسين فيه مع عدد من الحاكمين في البلاد من اهل السلطة أو اهل السطوة. فضلاً عما أضيف الى الانتخاب من حدثية بفعل نشاط "القواتيين" في سعيهم الى استعادة ترخيصهم السياسي. الأمر الذي دفع ويدفع الى الاعتقاد بترابط الحدثين اللذين لم يتزامنا مصادفة، حتى ولو لم يتواطآ بالتنسيق المباشر. وبهذا المعنى، فإن الحدث الكتائبي هو خارج العملية الانتخابية بحد ذاتها، وخارج الحياة الداخلية لحزب الكتائب التي تخص اصحابها وحدهم، ولو ان تفاصيلها تعكس بنسبة معينة صورة للواقع السياسي اللبناني. الحدث إذن هو في ما أنتجته الحياة السياسية اللبنانية، مجسداً هنا بحزب سياسي هو حزب الكتائب، من حال يسعى قادة الحزب لجعلها حالاً لتجديده، فإذا بها تراجع الى الشرنقة الأولى يعودون إليها مختارين وشديدي الحماسة. والسؤال الذي يظهر تلقائياً في هذه الحال يدور حول العوامل التي تتيح، بل وتدفع حزب الكتائب، وبعد اثني عشر عاماً من الخروج من الحرب بواسطة تسوية الطائف، الى استعادة شعارات حاول تجاوزها في مؤتمره التاسع عشر، متسلحاً بتجارب الحرب ونتائجها، إذ سعى في ذلك الحين الى إعادة صوغ مشروعه السياسي بأفق مختلف اكثر انفتاحاً وأكثر واقعية، ولم يكن انقضى على نهاية الحرب سوى ثلاث سنوات تقريباً؟
فشلت تلك المحاولة سريعاً في ذلك الوقت، اواخر العام 1993. وكان حاضراً فيها معظم المختلفين والمنقسمين الآن. كان يومها حزب الكتائب، برئاسة جورج سعادة، جزءاً من اتفاق الطائف، لكن خارج سلطته، بعد عام 1992، وقرار المقاطعة القسري الذي اتخذه الحزب، وكان للمرة الأولى في حياته يجرب مواقع المعارضة. آنذاك حاول الحزب، بواسطة قلة من قيادته، رسم صورة جديدة للكتائب تستند الى جردة حساب مع الماضي، في سعي واضح الى تجاوزه، ولو بحذر شديد، وبرغبة عارمة في إطلاق المشاركة على حساب فكرة المقاطعة التي دفع الحزب ثمنها غالياً، من دون ان تنفعه في زيادة رصيده لدى جمهوره التقليدي. "لا بد للكتائب ان تتغير وتغير"، قال جورج سعادة في تقريره امام المؤتمر: "لا بد بعد التدمير الذي حدث للبلد، من القيام بعملية نقد ذاتي ومراجعة شاملة لشتى المراحل التي مر فيها لبنان منذ تأسيسه، بل إعادة النظر في كل شيء، حتى في ما يوصف بالمحظورات".
جملة مواقف اعلنت في ذلك المؤتمر. منها ما له علاقة بالهوية والانتماء وارتباط لبنان بمحيطه العربي، وبالدولة الأقرب إليه سورية وبالقضايا العربية، وخصوصاً الصراع العربي - الإسرائيلي. ومنها ما له علاقة بالسياسة الداخلية بعناوينها المختلفة. وكانت في اكثريتها مواقف شكلت نقلة نوعية في الخطاب السياسي الكتائبي. فلا فصل بين ازمة لبنان وأزمة الشرق الأوسط، والصراع بين العرب وإسرائيل لن ينتهي حتى ولو حصلت التسوية السلمية للنزاع، "وللبنان منه موقع لا يتغير ولا يجوز ان يتغير. ومن الطبيعي هنا ان نكون وسورية في صف واحد وعلى جبهة واحدة قبل التسوية وبعدها. هذا قدر البلدين التوأمين في الحرب كما في السلم ولا فصل بين امنهما كما لا فصل بين سلامهما. ومسألة الاستقلال لا تطرح على هذا الصعيد". إن لبنان "الوطن النموذجي" لا يمكن ان يكون مثالاً إلا اذا كان عربياً. وهذا المثال "مستحيل من دون حضور المسيحيين السياسي والحضاري"، ودورهم فيه يجب ان يكون "دوراً عربياً ريادياً لا دور أقلية مهضومة الحقوق". و"مجال لبنان الحيوي هو المجال العربي الواسع لا ذاك الذي يقع بين العرب وإسرائيل".
اما بالنسبة للداخل اللبناني "فالعيش المشترك" يجب ان يصبح "حياة مشتركة". لكن دونه "هذه الجزر الطائفية التي هي من صنع الحرب ومما كان قبلها". هو "لا يزال عيشاً مشتركاً بين الكيانات الطائفية لا بين الناس عموماً. وهي حال لا تعالج بالقول بإلغاء الطائفية السياسية". وتجاوز هذه الحال يبدأ "بتطبيق التمثيل الطائفي تطبيقاً كاملاً"، ليمهد ذلك الى وضع خطة من احد ركائزها "إطلاق حرية الشخص في ان يكون منتمياً الى طائفة او لا، واستحداث قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية". ذلك انه "غير جائز ولا معقول ولا مقبول ان يكون النظام اللبناني ابدياً سرمدياً لا يتغير. فلا بد من العمل على تخطي هذه البنية وهذا النظام". أما "الثقافة الاقتصادية الموروثة عن لبنان قبل الحرب فيجب ان تتغير". إذ "ليس صحيحاً ان مثلما كان لبنان بلد الخدمات هكذا يبقى. فإذا كان قطاع الخدمات قد حقق للبنان ازدهاراً معيناً في وقت من الأوقات إلا انه لم يجعل منه وطناً...".
اما الموقف المعارض فيعود الى أن "التوازن مفقود والمشاركة معطلة والسلطة محتكرة، فضلاً عن الخروج الفاضح على وثيقة الوفاق الوطني". و"البديل غائب والكتائب تعمل على ايجاده وهو في هذا التحالف الذي بدأت تظهر معالمه ومحوره او موضوعه وثيقة الوفاق الوطني في الدرجة الأولى".
تلك الأفكار والصيغ وردت في التقرير الذي قدمه جورج سعادة، رئيس الحزب آنذاك، امام المؤتمر، وقد صاغه بشكل شبه حرفي جوزيف ابو خليل.
اما التقرير الآخر، الحزبي التنظيمي، فقدمه كريم بقرادوني، الأمين العام للحزب آنذاك، تحت عنوان "من اجل كتائبية متجددة". وفيه ان "لبنان بعد الحرب لم يعد كما كان قبلها. كذلك حزب الكتائب لم يعد كما كان".
يعرض بقرادوني لأخطاء ارتكبها الحزب على مدى 75 عاماً: الموقف من عروبة لبنان، الموقف من إسرائيل، الموقف من الإصلاح السياسي، اخطاء الحرب، وتجربته في رئاسة الجمهورية. ويصف الكتائب بأن حالها من حال المسيحيين، فكيفما يكونون تكون، وكيفما تكون يكونون. وهي "تملك حقين: حق التعبير عن المخاوف والمصالح المسيحية فتبدو الأكثر تطلباً، وحق ضبط هذه المخاوف والمصالح فتبدو الأكثر اعتدالاً". وهذه الصيغة عزيزة على قلب كريم بقرادوني، فهو عاد وكررها اخيراً في احد احاديثه، بعد انتخابه رئيساً: "مع الحزب التقدمي الاشتراكي نتحدث كحزب ديموقراطي اجتماعي، اما في الحرب فنحن كتائب". في تقريره امام المؤتمر قال: "في الأزمة تتحول الكتائب الى قوة عسكرية، وفي السلم تتحول تنظيماً سياسياً".
ومع ذلك، يأتي في تقريره الى هذا الاستنتاج: "في ظني ان زمن مشاريع الأحزاب الأممية والقومية ولى كما ولى زمن مشاريع الأحزاب الطائفية والمذهبية... إن مقياس نجاحنا في المستقبل مرهون بمدى قدرتنا على تحويل الكتائب من حزب ذي طابع طائفي الى حزب وطني، ومن حزب وطني الى تحالف وطني كبير... وإني لعلى يقين ان الحكم القادم سيكون حكم هذا التحالف".
بعد ان كان حدد وصف حزب الكتائب المتجدد: "نحن حزب المسيحيين الوطنيين، ولا ندعي اننا حزب مسيحي او اننا نمثل كل المسيحيين". ويشير الى أن "الكتائبيين بأكثريتهم الكبيرة يتذكرون انهم كتائبيون فقط، والقليل منهم يدرك انهم ديموقراطيون اجتماعيون". وقد آن الأوان "لإحياء الروح الاجتماعية... فنعود كما كنا حزب الفقراء، حزب التظاهرات والإضرابات، حزب المعارضة". وبوجدانية بلاغية ينهي كريم بقرادوني بالقول: "لن نقبل ان يبقى الكتائبي الرجل المريض عند المسيحيين... يجب ان يشكل هذا المؤتمر يقظة كتائبية ولحظة سياسية مهمة".
كان ذلك في العام 1993. وأتى المؤتمر آنذاك بعد صراعات عدة، وسلسلة تدابير، أدت الى وضع حد للازدواجية التي كانت تربط الكتائب كحزب و"القوات اللبنانية" كتنظيم سياسي - عسكري انبثق اصلاً من حزب الكتائب. ولم يكن ذلك مجرد اجراء تنظيمي منفصل عن الخلاف السياسي داخل حزب الكتائب، وبينه وبين قيادة القوات. وعبر عن ذلك كريم بقرادوني بالقول في تقريره المشار إليه ان "التيار الأقلي"، الذي التحق بالقوات، "يراهن على ان الحروب لم تنته... ويدعو الى الترقب والانتظار والتجميد"، وأن التيار الأكثري "يرى ان عصر الحروب اللبنانية قد ولى وأن السلام اللبناني يقوم على المصالحة والتعايش والانفتاح على العرب والاعتدال في كل شيء".
في ذلك المؤتمر كان مشاركاً تيار الرئيس امين الجميل، وتكفي الإشارة الى الدور الرئيس الذي لعبه جوزف ابو خليل. لكن التناقض مع الرئيس الجميل شخصياً كان حاضراً أو أقله كان التمايز عنه ضرورياً. وظهر ذلك في اشارة بقرادوني الى واحدة من الأخطاء الكتائبية الخمسة التي عددها حين اعتبر ان "تجربة الرئيس الكتائبي في الحكم لم تكن ناجحة لأسباب منها موضوعية وخارجة عن ارادته، ومنها ذاتية كان بمقدوره ان يتجنبها او ان يخفف من انعكاساتها السلبية. ولم يميز الرأي العام بين حزب الكتائب والرئيس الكتائبي على رغم ان الكتائب لم تشارك كحزب لا في إدارة الشؤون الداخلية ولا في إدارة الشؤون الخارجية".
هكذا، بدأ الحزب، اطلاق مشروعه التجديدي عام 1993، بإعلان تمايزه عن "خطرين" سياسيين عليه، سمير جعجع وتنظيمه وأمين الجميّل الشخص - الرئىس السابق، تحت سقف مشروع سياسي يسمح له، بعد الحرب ونتائجها، بالعودة الى الحياة السياسية، وبتوافق الحد الأدنى الذي يجمع القدر الأكبر الممكن من الكتائبيين. هذا فضلاً عن التمايز الواضح عن العماد عون.
كانت "لحظة سياسية مهمة"، كما رغب بها بقرادوني. إلا انها بقيت لحظة، ولم تتحول الى مدى زمني سياسي متجسد في الواقع. فلا حياة سياسية يعود اليها حزب سياسي، بفعل تعطيل موازين القوى الداخلية بشكل شبه كامل، من خلال العلاقات المشوّهة السائدة في التعامل السياسي السوري - اللبناني، او اللبناني - السوري لا فرق. الأمر الذي يجعل التفاعل بين "التجديد" الكتائبي والواقع السياسي اللبناني شبه مستحيل. ولا ينفع في ذلك الحضور السياسي السوري المميز في الخطاب السياسي الكتائبي الجديد. كما ان التمايز عن رموز مسيحية، اثنان منها في موقع التأليه، لا يشكل بضاعة سهلة الترويج في الاوساط التي يتوجه اليها حزب الكتائب ويرغب بعودتها الى تبنيه. بالإضافة الى وهم القدرة على التحول الى حزب "مسيحي وطني"، في نظام طائفي لا يعترف للطوائف إلا بمذهبيتها، ولا للأحزاب إلا بطائفيتها. هذا إذا جرى التسليم جدلاً مع كريم بقرادوني بوجود "مسيحيين وطنيين" حزبهم الكتائب، ومسيحيين آخرين غير وطنيين؟ للأحزاب المسيحية الأخرى.
فشلت تلك المحاولة الكتائبية إذاً. وربما في العودة اليها ما يساعد على تفسير المشروع الكتائبي الجديد - القديم، الذي عاد الى الظهور من خلال الحدث الأخير المتمثل بانتخاب كريم بقرادوني رئيساً للحزب، بعد ثماني سنوات على تلك المحاولة التي خلت وثائقها من أية اشارة الى موقع "رئاسة الجمهورية"، كما خلت من اية اشارة الى موقع "الجيش"، فيما الاشارة الى موقع "القضاء" كانت محصورة بالمطالبة باستقلاليته.
فلماذا لم تنجح تلك المحاولة؟ بل بالعكس من ذلك، شهدت السنوات الثماني الماضية المزيد من الترهل ومن الانقسامات والخلافات الداخلية، والمزيد من التراجع السياسي ومن شبه انعدام في الدور والفعالية في الحياة السياسية، وفشل ذريع في الانتخابات النيابية عام 1996، خصوصاً سقوط رئىس الحزب، جورج سعادة، في الشمال، بالرغم من وجوده على اللائحة الرئيسية "المدعومة". وفي المقابل كان ينتعش دور البطريركية المارونية من جهة ودور التيارات المغضوب عليها سلطوياً، بما فيها تيار الرئىس الجميّل، في منفاه الطوعي الباريسي وبعد ان عاد الى بيروت. حتى ان حزب الكتلة الوطنية استطاع اعادة جزء من حضوره، خاصة بعد، وربما بفعل، عودة عميده التاريخي جثماناً الى لبنان. بالإضافة الى نشوء "لقاء قرنة شهوان" كموقع تجميع لقوى مسيحية لم تستوعب، بل لم توافق على ضم القيادة الكتائبية الجديدة إليها. وصولاً الى انتخابات العام 2000 التي شهدت عودة ثلاثة كتائبيين الى المجلس، جميعهم من خارج الإرادة الرسمية للحزب، بمعنى عدم خضوع ترشيحهم للقرار الحزبي القيادي الرسمي، وقد شهدت هذه الانتخابات سقوط رئيس الحزب منير الحاج امام منافسه بيار امين الجميّل، على رغم وجود الحاج على لائحة ميشال المر وإميل إميل لحود...
أين تكمن اسباب هذا الفشل لحزب تحمل تبعات الطائف تجاه من قاتل باسمهم فعجز عن إلحاقهم به، من دون ان يجد له مكاناً بين اهل الطائف على رغم المحاولة التي قام بها لتجديد ذاته؟ وهل ما يقوم به اليوم كفيل بإخراجه من أزمته وإعادته الى لعب الدور الذي يراهن عليه اركان التسوية الجديدة في قيادته؟ وهل ان الشعارات التي اطلقتها هذه القيادة تعكس قناعات مستجدة في الحزب؟ ام انها تعكس اطاراً مسقطاً عليه من خارجه ليعيد تركيب نفسه على اساسه؟ وهل هذا ما عناه رئىسه الجديد كريم بقرادوني حين قال انها عملية "إعادة تأسيس" في احد احاديثه المتلفزة مؤخراً؟
يعطي جوزف ابو خليل الذي التقيته في منزل الرئىس امين الجميّل، حيث "يداوم"، ثلاثة اسباب لفشل المحاولة التي شكلها المؤتمر التاسع عشر للحزب. الاول ان المؤتمر كان نتاج عدد قليل من الاشخاص "أنا وكريم بقرادوني حضّرنا المؤتمر، ومنير الحاج شارك في صياغة القرارات". ويضيف ابو خليل توضيحاً شديد التعبير عن حزب الكتائب وأي حزب مماثل ذي طابع طائفي او شخصي فيقول: "حزب الكتائب غير معتاد على تحضير اوراق سياسية تناقش في القواعد". ويكشف للتدليل على فكرته: "الآن نحضّر مشروعا آخر مع الرئىس الجميّل، ولنصل اليه نجري نقاشات واسعة وقاسية وحادة".
السبب الثاني ان القيادة التي وجدت "لا تتمتع بالمصداقية ولم توح بالثقة. فهي لم تكن متجانسة ولا ناتجة عن عمل فكري موحد، وليست كلها موافقة على ما أقرّ". وهكذا، يقول ابو خليل: "دخلت الانتهازية والفساد الى السلطة الحزبية. لم تعد هناك قضية. لم يعد هناك مشروع سياسي. فالأمر لا ينجح إذا كان الحزب مجرد وسيلة للوصول. والكل كان يريد ان يصبح نائباً، وأصبح الهمّ الأساسي في السؤال عن مدى العلاقة مع اللواء غازي كنعان والسلطة. في حين ان ما فعلناه كان يحتاج الى جهود كبيرة مع القواعد لتسويقه، وجورج سعادة لم يعتنِ بهذا الشأن والذين حوله برروا لأنفسهم كل شيء للاحتفاظ بالسلطة. وأنا ادرك تلك الصعوبة لأنني عندما ذهبت الى القواعد بصفتي اميناً عاماً لأعرض نتائج ما أقرّيناه، كدت أتعرض للضرب لو لم أكن أتمتع بمصداقية لدى الكتائبيين، لشدة التناقض بين ما كنا نطرحه وبين القناعات لدى قواعدنا".
ما الذي رفضته القواعد؟
- من المدخل هناك عدم قبول. خاصة وأن قواعدنا كانت خارجة من حرب مهزومة فيها من العروبة. وكانت هناك نقمة على قيادة الكتائب لأنها تتبنى هذا الاتجاه.
السبب الثالث للفشل، بنظر جوزف ابو خليل، من خارج الحزب: "نحن مشينا بصدق في هذا المسار، لكن ممارسة السلطة لم تساعدنا على اقناع قواعدنا. كنا نحدثهم بشيء وهم يرون على الارض نقيضه. انا وضعت كتاباً عن العلاقات اللبنانية - السورية، ومقتنع بما كتبت. لكن حتى سورية تعاملت مع تسوية الطائف بشكل خاطئ وسخرتها وسخرت البلد لمصالحها. وأمام هذه الصعوبات، ماذا بقي امام القيادة لتفعل من اجل الاحتفاظ بسلطتها؟ ولماذا تركت انا موقعي كأمين عام؟ كنت اوقّع على ما يعاكس ضميري. كيف اوقّع على ترشيح شخص للانتخابات انا غير مقتنع به؟ هذا فضلاً عن هذا الشكل من التعامل مع المخابرات السورية، اي التعامل مع الامر الواقع، بمنطق كيفية الاستفادة منه. ان ذلك لا يعطي نتيجة بدليل سقوط جورج سعادة في الانتخابات وكان في اكبر لائحة".
كلام جوزف ابو خليل يوحي في المقابل ان صوغ خطاب وخط سياسيين بهذه النسبة من التغيير، والقدرة على عقد مؤتمر للحزب على هذا الأساس، واتخاذ تدابير داخلية تعزل وتطرد الأقلية الممانعة، ان كل ذلك تطلب وجود قوة فاعلة وقادرة تمثلت باجتماع ابو خليل وبقرادوني، ومعهما منير الحاج، وبرعاية واحتضان رئىس الحزب جورج سعادة. فلماذا لم تستطع هذه القوة ان تستمر بفعاليتها، علماً ان الصعوبات التي ذكرها ابو خليل لم "تكتشف" بعد المؤتمر بطبيعة الحال، ومن المفترض ان تكون محسوبة؟ ولماذا لم يستطع ابو خليل وبقرادوني "ضبط" قيادة الحزب والضغط عليها بهذا الاتجاه ما داما بهذه القوة؟
في الجواب عن هذه التساؤلات ينتقل ابو خليل من الموضوعي الى الذاتي والشخصي فيصف بقرادوني وصف العارف والمعايش. ثم ينتقل الى كشف وقائع، ربما للمرة الأولى يجري كشفها، بإمكانها توضيح التطورات التي حصلت في الحزب منذ شهرين، وعلاقتها الحدثية بما هو خارجه، اي بعلاقتها بخطط ومواقع اهل السلطة والسطوة في البلد، في جانب اساسي منها، عدا الجانب الآخر المرتبط بالصراع الحزبي الداخلي.
* صحافي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.