لماذا كريم بقرادوني بالذات؟ والى ماذا يرمي فتح ملف "التعامل مع اسرائيل" في هذا التوقيت؟ وهل يقتصر او سيقتصر عليه وحده، مع ان ثمة اسماء اخرى يعرفها اللبنانيون وتحدث عن أدوارها في هذا التعامل عدد وافر من الكتب والشهود، خصوصاً أن بينها سياسيون شغلوا مناصب وزارية ولا يزالون في مواقع نيابية، وأسماء أخرى عُيّنت في وظائف الفئة الأولى في الإدارة اللبنانية، ومنها من ذهب الى تل أبيب إبّان "حرب الجبل" 1983 مع افتتاح العلاقة الدرزية - اللبنانية بالدرزية - الاسرائيلية وظهر في التلفزيون الاسرائيلي؟ بعض هذه الأسئلة نقلها نائب بارز الى رئيس الجمهورية العماد إميل لحود في قصر بعبدا يوم الجمعة 7 أيار مايو الجاري، مكاشفاً اياه انه يسمع في الشارع المسيحي اصداء انتقادات للدولة اللبنانية الماضية في اتباع سياسة "انتقائية". ورد لحود بأنه فوجئ بطلب النيابة العامة العسكرية ملاحقة بقرادوني بجرم التعامل مع اسرائيل الذي - أي الرئيس - لم يعلم به الا متأخراً. ثم يضيف لسائله ان شقيقه مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية نصري لحود لم يكن وراء هذا الادعاء الذي تقدم به القضاء العسكري في 30 نيسان ابريل الماضي، لوجوده آنذاك خارج البلاد. ووعد رئيس الجمهورية محدثه بمتابعة هذا الموضوع. وقبل يومين من ذلك، بحث رئيس المجلس نبيه بري طلب النيابة العامة العسكرية، المنوط بها التحقيق في جرائم التعامل مع العدو، مع رئيس الجمهورية مبدياً له تحفظه - مع تأكيده عدم تدخله في اعمال السلطة القضائية - عن فتح واحد من الملفات القديمة للحرب التي يُفترض أنها طُويت بعد تسوية اتفاق الطائف. واتفق بري مع لحود على مبادرته الي اتخاذ موقف علني في هذا الشأن من مبنى البرلمان، لذلك أبلغ بري النواب رفضه فتح ملفات الحرب، قائلاً إن "لا مصلحة في فتح ملفات مرّ عليها الزمن، ومن شأنها زعزعة الوحدة الوطنية". إلا أن بري كان قد سمع قبل ذلك اعتراضات نواب، أبرزهم نائب "حزب الله" محمد فنيش الذي انتقد العودة الى ملفات سابقة في وقت يسعى الحزب الى اقتراح قانون يعفو عن المتوقفين عن التعامل مع اسرائيل من المقيمين في "الحزام الأمني" الخاضع لسيطرة إسرائيل في جنوبلبنان. وقال فنيش، الذي تربط بقرادوني بحزبه علاقات وثيقة تعود الى تولّي بقرادوني قيادة الانفتاح والحوار بين "حزب الله" وحزب الكتائب وتحوّله تبعاً لذلك محاضراً شبه دائم في ندوات الحزب الأصولي، لبري أيضاً انه يرى من الضروري "تشجيع القوى والأحزاب والشخصيات التي فكت تحالفاً قديماً لها مع إسرائيل، والتحقت بمسار التسوية السلمية والخيارات الوطنية على المثابرة على هذا الخط". أما بقرادوني فزار البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير في بكركي، بعيداً عن الأضواء، ولمس منه موقفاً متضامناً معه. وقال البطريرك لبقرادوني إنه أبلغ الى رئيس الجمهورية معارضته العودة الى فتح ملف التعامل مع اسرائيل، معتبراً أنه "خط أحمر لا يجوز التعاطي معه على هذا النحو". وشدد على ضرورة "وضع حد لمسألة ان كل مسيحي هو اسرائيلي، او متعاون مع اسرائيل، لأن مثل هذا التصرف من شأنه الإضرار بالدولة وبالوفاق الوطني والمسيحيين، كما بالعرب". وتوجه البطريرك بالقول لبقرادوني: "أنا أعرفك معادياً لإسرائيل مثلي، وأنا معاد لها. ولا يجوز اللعب بهذا الموضوع، والعودة إليه من وقت الى آخر". ولم يفت صفير إشادته بما تناهى الى مسمعه قبل ساعات عن موقف رئيس المجلس، ليقول أن بري "بموقفه هذا تخطّى نفسه كرجل دولة في مستوى الوطن". النقابة ترفض الإذن؟ وفي وقت بدا أن بري ختم فعلياً السجال حيال هذه الملاحقة. بل دفع بها الى خاتمتها قبل أن تبدأ، بتلميحه الى رفضه فتح "الملفات القديمة"، في الوقت نفسه أضحت المبادرة عملياً في عهدة نقابة المحامين التي ينتسب إليها نائب رئيس الحزب. وكانت النقابة تبلّغت طلب النيابة العامة العسكرية الإذن بملاحقة بقرادوني، إلا أن النقابة قررت الإستمهال في مناقشة هذا الطلب، على ان تتخذ قرارها في شأنه في جلسة مجلس النقابة في 28 الشهر المقبل. والواضح ان مصدر التريث يعود الى وجهتي نظر تستقطبان تساؤلات مجلس النقابة: الأول، لماذا تحركت هذه الدعوى بعد مرور عشر سنوات على حصول الزيارتين المفترضتين لإسرائيل عامي 1987 و1988؟ والثاني، لماذا لم تتحرك النيابة العامة التمييزية في أعوام 1994 و1995 و1996 و1997 و1998 حيال هذا الموضوع، ما دامت المعلومات المتوافرة لديها عن حصول الزيارتين لإسرائيل في حوزتها منذ العام 1994؟ ولم يؤخذ الظن ببقرادوني في حينه لتحريك دعوى الحق العام، والطلب الى النيابة العامة العسكرية - صاحبة الإختصاص والصلاحية في التحقيق والملاحقة - وضع يدها على هذا الموضوع في حينه؟ إفادة الشاهد ويعود أساس المسألة إلى 18 نيسان ابريل 1994 عندما أدلى روبير أبي صعب الشاهد في جريمة اغتيال الرئيس السابق لحزب الوطنيين الأحرار داني شمعون بإفادة أمام المحقق العدلي منير حنين، قال فيها إنه "زار إسرائيل مرتين مع سمير جعجع وكريم بقرادوني في العامين 1987 و1988...". وفي اليوم التالي كرر روبير أبي صعب هذه الإفادة أمام المحقق العسكري. ثم أعاد ذكرها في إفادته بصفته شاهد الحق العام في جريمة اغتيال الرئيس الراحل رشيد كرامي العام الماضي، إذ تحدث عن انتقال جعجع وبقرادوني من مرفأ جونيه في طرّاد الى حيفا مرتين في عامي 1987 و1988 فكان أن تحرّك القضاء العسكري في ضوء إحالة وردته في هذا الشأن من النيابة العامة التمييزية. غير أن بقرادوني سرعان ما نفى رواية أبي صعب في شهادته امام المجلس العدلي في 6 تشرين الثاني نوفمبر 1998. لكن المدعي العام التمييزي عدنان عضوم احتفظ بحقه في الادعاء على بقرادوني بجرم التعامل مع اسرائيل، بالاستناد الى إثبات إضافي لشهادة أبي صعب، مصدره شاهد آخر هو سالم يوسف الذي قاد الطرّاد المتوجه الي اسرائيل. إذ أكد يوسف هذه الرواية العام 1994 أيضاً، خصوصاً ذكره قيادته ذلك الطرّاد. إلا أن بضعة خيوط مترابطة، تجعل المضي في ملاحقة بقرادوني دونه عقبات. هذه الخيوط تتداولها نقابة المحامين، وربما أضحت في نهاية هذا الشهر في صلب موقفها من طلب الإذن بالملاحقة: - أول هذه الخيوط تزامن مرافعة بقرادوني في دفاعه عن سمير جعجع في جريمة اغتيال كرامي، مع انتخابات رئاسة حزب الكتائب 21 آذار/ مارس التي ترشح لها بقرادوني في مواجهة منافسيه منير الحاج ورشاد سلامة. ثم - على ما تردّد - "ارغامه" على الإنسحاب قبل 24 ساعة من موعد إجرائها لمصلحة أنطوان شادر، إذ توقفت المحاكمات في تلك القضية في 18 آذار قبل أيام من انتخابات الحزب، وأمهل الوكلاء شهراً لمرافعاتهم. في ذلك الوقت بالذات استدعي بقرادوني في 11 آذار الى الإستجواب كشاهد في قضية التعامل مع اسرائيل لدى المحقق العسكري ميسّر شكر. - مثل هذا الترابط يُبيّن أهمية استدعائه قبل موعد الانتخابات الحزبية - وكان لا يزال مرشحاً قوياً لرئاسة الحزب - وبين موعد تقدّمه بمرافعته عن جعجع، بحيث مكّن هذا الإستدعاء من إثارة مسألة انقضى عليها أكثر من 11 عاماً. كان يعني ذلك بالنسبة الى بقرادوني حضّه على التراجع عن خوض معركة يعتقد أنه يملك فيها فرصاً كبيرة للفوز برئاسة حزب الكتائب، ودفعه إلى التقليل من اندفاعه في مرافعة دفاعه عن جعجع. وفي 28 نيسان صدر قرار القضاء العسكري بملاحقته في جرم التعامل مع اسرائيل، بعد أقل من 10 أيام على مرافعته في 19 نيسان. وحوّل من ثم طلب الإذن بملاحقته الى نقابة محامي بيروت. أي موقف سيكون لنقابة المحامين؟ يبدو أن النقابة تميل إلى الإمتناع عن الإذن بملاحقة بقرادوني لسببين اثنين على الأقل: 1 - إن زيارة بقرادوني لإسرائيل مرتين في العام 1987 و1988 - إذا حصلتا - لا علاقة لهما بممارسته مهنته. وتالياً فهو لم يذهب الى هناك بدافع مهني. مما يؤول في آخر الأمر الى الأخذ بالرأي القائل بالإذن بملاحقته. على ان تهمة جرم التعامل مع إسرائيل، وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على حصوله - في حال تأكد - ومن غير اقترانه آنذاك بالإدعاء عليه وملاحقة المتهم به وفقاً للأصول، يجعل هذه التهمة ساقطة بمرور الزمن. 2 - يسود الإعتقاد في أوساط مجلس نقابة المحامين، تبعاً للدوافع السابقة تلك، ان بقرادوني لم يُلاحق إلا لأسباب سياسية، بدعوى ان هذه الملاحقة لم تبدأ الا بعد أكثر من أربع سنوات على إدلاء أبي صعب بإفادته، لم تتحرك خلالها السلطات القضائية المختصة لوضع يدها على هذا الموضوع، وبالتزامن مع مرافعة بقرادوني في دفاعه عن قائد "القوات اللبنانية" المحظورة. ومفاد ذلك أن الملاحقة لم تكن لتحصل لولا ممارسة بقرادوني مهنته لا بدافع مغاير، بدليل عدم مضي النيابة العامة التمييزية في طلب ملاحقته مذ أدلى أبي صعب بإفادته، ثم اتخاذ قرار الملاحقة غداة مرافعته عن جعجع، ما يعني أن الملاحقة هذه سببها "الروب الأسود" في جلسة 19 نيسان، ليفضي ذلك الى القول برفض نقابة المحامين الإذن بملاحقة نائب رئيس حزب الكتائب. لكن كل هذه المعطيات لا تمنع في طرح السؤال: لماذا كريم بقرادوني بالذات مجدداً؟ في الواقع تحوط بالرجل المنتسب الى طائفة الأرمن الأرثوذكس، والذي سمّاه في مرحلة الإنتخابات الرئاسية صيف 1988 الصحافي الراحل ميشال أبو جودة "الماروني غير الشرعي"، بضعة علامات استفهام مثيرة، فبسببه أوجد المجلس العدلي سابقة لا مثيل لها في تاريخ المحاكمات: أن يكون وكيل الدفاع في الوقت نفسه شاهداً في الجريمة التي يتوكل عن المتهم بارتكابها. وهو ما حصل في المحاكمة الحالية إغتيال كرامي، على رغم اعتراض المدعي العام التمييزي عدنان عضوم على تمتعه بالصفتين في محاكمة واحدة. وهو الرجل الذي رغب الى الرئيس الراحل بشير الجميل في أن يعيّنه وزيراً للإعلام في أولى حكومات عهده بعيد أدائه القسم الدستوري، بينما فضّل الجميل أن يعهد إليه بوزارة الخارجية لأسباب تتصل بتكليفه لاحقاً اجراء حوار بينه وسورية. إذ ظلّ الجميل يعتقد بأنه سيصل في مرحلة ما الى تفاهم ممكن مع دمشق، في وسع بقرادوني شق الطريق إليه. رجل لا يفقد بريقه وهو الكتائبي الذي ذهب الى دمشق للمرة الأولى في العام 1972 برفقة الأمين القطري لحزب البعث العربي الإشتراكي في لبنان عاصم قانصوه بهدف التعرّف الى المسؤولين السوريين، وكان عضواً في المكتب السياسي للحزب. عرّفه ذلك على وزير الخارجية آنذاك عبدالحليم خدام. ثم مهّد بقرادوني لأول زيارة يقوم بها رئيس حزب الكتائب بيار الجميل لدمشق السنة التالية 1973. ومنذ ذلك الحين، خصوصاً مع بدء أحداث الحرب اللبنانية أصبح بقرادوني "السوري" في حزب الكتائب بفعل تعدّد زياراته لدمشق. بيد أن علاقاته المتشعّبة هذه بالمسؤولين السوريين لم تسقط خياراته السياسية: خاض معركة بشير الجميل للوصول الى رئاسة الجمهورية، وخاض انقلاب "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع والياس حبيقة على حزب الكتائب والرئيس أمين الجميل، ثم خاض انقلاب جعجع على حبيقة. الإنقلابات الثلاثة هذه بدت ملامح عدائها لسورية واضحة. ثم انفصل عن رفيقه جعجع ليستقل ويلتحق مجدداً بحزب الكتائب بعد تركه منصبه نائباً لقائد "القوات اللبنانية"، وينخرط في معركة الحؤول دون وصول جعجع الى رئاسة الكتائب بدعمه رئيس الحزب آنذاك جورج سعادة. ويذكر الكتائبيون عن معركة الانتخابات سنتذاك 1992، أن الأصوات الخمسة التي أتى بها بقرادوني الى تلك الإنتخابات قررت نجاح جورج سعادة. مع ذلك أغضب بقرادوني السوريين في محطات عدة: تشجيعه على الإطاحة ب"الإتفاق الثلاثي" الذي رعته دمشق مباشرة، وتوطيده علاقات مع العراق في حقبة الحكومة العسكرية التي ترأسها العماد ميشال عون على نحو ساهم لاحقاً في إغراق المناطق المسيحية آنذاك 1988-1990 بالسلاح العراقي لقاء تصعيد المواجهة ضد دمشق. ولم يكن بقرادوني في حينه في صف جعجع تماماً، اذ ترك "القوات اللبنانية" للاعتكاف أكثر من سنة قبل ان يعود سياسياً الى حزب الكتائب. ولعلّ حجم ما آلت اليه صداقاته مع المسؤولين العراقيين عبّر عنه في كتابه "لعنة وطن". منذ منتصف التسعينات بات حليفاً شخصياً ل"حزب الله"، يشارك في ندواته ومؤتمراته ويحاضر عن المقاومة ضد اسرائيل، متخلياً عن خصومة سنوات الحرب. ويحفظ له "حزب الله" أنه "المسيحي الوحيد" في مؤتمر هيئة مناهضة التطبيع مع اسرائيل الذي وافق على تلاوة بيانها الختامي. يحاضر في دمشق في السنة مرتين على الأقل إحداهما، ودورياً بلا انقطاع، في ذكرى "الحركة التصحيحية" في تشرين الثاني نوفمبر. كريم بقرادوني 55 عاماً رجل التقلبات والإنقلابات الشخصية والسياسية، إلا أنه في كل المواقع وحيث يكون لا يفقد بريقه. والواضح أن الإدعاء عليه بجرم التعامل مع اسرائيل، في ظل الاستقطاب الذي لقيه ضد هذا الإجراء، ترك في نفسه سروراً كبيراً، مغزاه أنه لا يزال يحتفظ بدوره السياسي. على أنه مطمئن من غير أن يجهر بهذا الأمر، الى طي هذا الملف المقلق، وهو في أي حال لا يكتم أن ما يواجهه مبعثه مرافعته عن جعجع: مرافعة سياسية أراد بها نقض مذهب هذه المحاكمة، أي المحاكمة السياسية لقائد "القوات اللبنانية" المحظورة الذي خاطب بقرادوني يوم طلب إليه التوكّل عنه في جريمة اغتيال كرامي: "أنا تصالحت مع نفسي وتصالحت معك هنا في الحبس. وأريد أن أطلب منك أن تقبل هذه المصالحة من جانبك. فإذا قبلت التوكّل عني قلت أنك تصالحت معي". كانت اللحظة تلك المرة الأولى التي يجتمع فيها بقرادوني بجعجع، عام 1997، منذ ان افترقا تماماً قبل خمس سنوات في انتخابات رئاسة حزب الكتائب