تناولت الحلقة الثانية قصة نشوء تيارات الكتائب ورأي قادة الحزب في تفسير تلك الظاهرة وتأثيرها في منع اعادة توحيده. وهنا حلقة ثالثة وأخيرة تتحدث عن القطيعة بين الحزب والعائلة. يعرض كريم بقرادوني لمرحلة الصراع مع منير الحاج على انها مرحلة تعطيل الواحد للآخر، وعدم قدرة اي طرف على الانتصار. ومن هنا نشأت فكرة المصالحة التي بدأت الاتصالات والاجتماعات بشأنها قبل عودة امين الجميل الى لبنان. واستمرت بعدها. اصطدمت محاولة المصالحة بالانتخابات النيابية فتوقفت. ثم استؤنفت ولما اصطدمت بالانتخابات الحزبية انهارت. وفي التفاصيل لا يختلف كريم بقرادوني كثيراً مع جوزف ابو خليل في سرد الوقائع، لكنه يرسم صورة مغايرة نسبياً للخلاف الذي ادى الى القطيعة يعود من خلالها الى الربط مع معادلته الرئيسة: العائلة - الحزب، وإلى كشف البعد السياسي الذي أسقط المصالحة المستحيلة. يقول بقرادوني: "وصلنا الى موضوع الانتخابات الكتائبية. فبرز معسكران، مجموعة الرئيس امين الجميل، ومجموعتنا مع منير الحاج. كان رأينا ان امين الجميل في صراع مكشوف مع اميل لحود ومع سورية، وأن لا مصلحة لنا في خيارنا، الذي هو في النهاية اميل لحود وسورية، ان نكون في صراع مع اصحابه. فإما تغيير الخيار وإما الاتفاق على رئيس للحزب غير امين الجميل. طبعاً، حاول امين في هذه الفترة ان يفتح خطوطاً على سورية وعلى اميل لحود. فاجتمع مع سليمان فرنجية ومع نجيب ميقاتي ومع ناصر قنديل ومع جان عبيد، يعني انه استعمل كل ادوات الاتصال هذه. وأنا بقيت مصراً على موقفي. ذلك انه في تلك اللحظة عاد وتملكني الخوف الأول. فمنير الحاج الذي يمثل خط الحزب سقط في الانتخابات، وبيار الجميل، وهو ليس كتائبياً، ويمثل خط العائلة نجح في الانتخابات. وخشيت من ان ما فعلناه في الانتفاضة العام 1985 يعود للانتكاس بعد 15 سنة، فتنتصر العائلة على الحزب مجدداً. وهكذا، وعلى رغم حدة الخلافات مع الحاج، اخذت اتصالاتنا تتكثف تحت شعار اولوية الخط السياسي على الخلافات الشخصية. وأنت تعرفني، فأنا لا احكم عواطفي في السياسة بل عقلي. واعتبرت اننا على مفترق خطير يهدد بعودة سيطرة العائلة على الحزب. وعلى كل حال كانت هذه ترجمتي الشخصية للوضع". بقرادوني، الذي ناصب الحاج العداء وقاطعه وعطل دوره رئيساً للحزب، ووصل بينهما الأمر الى حد اتهام الحاج لبقرادوني بأنه وراء محاولة تفجير المركز الرئيسي للحزب، عاد والتقى به وتحالف معه. لماذا؟ "المصالحة تمت بذهني مع منير الحاج عندما نجح بيار في الانتخابات، واعتبرت ان العائلة ستعود الى الإمساك بالحزب"، وما هي قصة "العشاء السري" التي تحدث عنها بيار الجميل؟ "اعتبروا ان لقائي مع منير حصل في منزل نادر سكر في البقاع. ونادر لا يملك أصلاً منزلاً في البقاع. المصالحة بيني وبين منير تمت في اجتماع حصل في اذاعة "صوت لبنان"، وكان اول اجتماع علني، سبقته لقاءات غير معلنة لم يعرف بها امين الجميل. وحصل عشاء عند نادر فعلاً ولكن بعد المصالحة في "صوت لبنان" وفي منزله في أدما. وبعد ذلك قرر المكتب السياسي الانتخابات. لذلك ركبت في ذهنهم فكرة المؤامرة والعشاء السري، وطبعاً لا بد ان تدخل في الأمر الأجهزة ونادر... ونادر جسمو لبّيس". دعني أقرأ الصورة على الشكل الآتي: في العام 1999 كان كريم بقرادوني ضد منير الحاج، فاختار الحكم ونادر سكر منير الحاج. وفي العام 2001، كان كريم بقرادوني ضد امين الجميل. فاختار الحكم ونادر سكر كريم بقرادوني. لو ان خصمك كان غير الرئيس الجميل هل كان تم اختيارك؟ - تعني لو لم يكن امين هو الخصم لما كنت انا رئيساً. هذا منطق معقول. لن أفتش على ثغراته، لكنه في الخط البياني الذي رسمته مقبول. لكن ذلك ترافق مع خطاب سياسي جديد لكريم بقرادوني فيه تراجع عما نعرفه. فهل يمكن ان تشرح لي، ماذا تعني برئاسة الجمهورية والجيش والقضاء؟ وماذا حل بثلاثية الله والوطن والعائلة؟ - يبتسم وهو يجيب: "طبعاً لسنا ضد الله ولا ضد الوطن ولا ضد العائلة". ويضيف: "أنا امسك بشعار رفعه بيار الجميل، ولا تنسى انني اريد التوجه ايضاً الى الكتائبيين. فرئاسة الجمهورية تعني الدولة، والجيش يعني السيادة والاستقلال، والقضاء يعني الحقوق والحريات. ليس من الضروري ان يكون بيار الجميل حمّل هذه الكلمات المعاني ذاتها. لكن انا استعمل الكلمات نفسها وأحمّلها معاني تختصر مشروعاً يقوم على ضرورة ان يعود المسيحيون الى المشاركة في مشروع الدولة. ولا شك انني بهذا المشروع اسبح عكس التيار، وهذه ليست المرة الأولى". لماذا؟ هل المسيحيون ضد رئاسة الجمهورية والجيش والقضاء؟ - لا. ولكن عندهم تحفظ كبير على فكرة المشاركة في ظل الأوضاع القائمة. عندهم تحفظ على سياسة اميل لحود وعلى سورية وعلى كل قوة مسيحية تتحالف مع اميل لحود وتتقرب من سورية. لا توجد شروط للبعد او للتقرب من هذين الموقعين؟ بمعنى أن الأمر ليس عاطفياً بل سياسي. وبالتالي فإن الاعتراض عند القوى الرافضة هو على السياسة المعتمدة من قبل الحكم وسورية. - صحيح. وهذا يؤكد ان المشروع الذي حملته، وأسجل نتوءات فيه، يقوم على إحداث صدمة فكرية كي نجعل المسيحيين يعيدون النظر. بماذا؟ - بموضوع المشاركة في الدولة. لماذا تعتبر ان المسيحيين ليسوا مع مشروع الدولة؟ - لأن قواهم الرئيسة، الممثلة التقليدية لهم، هي خارج المشروع. وأقصد الكتائب والقوات والعونيين والأحرار والكتلة الوطنية. هؤلاء خارج الحكم، وفي رأيي خارج الحياة السياسية. لماذا لا تعتبر انهم خارج السلطة ولكنهم داخل الحياة السياسية بوجهة مختلفة يعبر عنها في شكل أو في آخر البطريرك صفير ولقاء "قرنة شهوان"، والتحركات في الشارع... الخ؟ - في رأيي ان كل ذلك يزيد من غربة المسيحيين، الذين يشعرون انهم غير ممثلين لأن أحزابهم الخمسة غير ممثلة. انت تدعوهم الى المشاركة على اساس المشروع القائم الذي يعترضون عليه. - سأكون اكثر وضوحاً من ذلك. اولاً، أنا اعتبر ان الحل الوحيد لضمان الحد الأدنى من الاستقرار، والحد الأدنى من وحدة لبنان، والحد الأدنى من الصيغة التي نتمسك بها، هو بالتفاهم مع سورية. ثانياً، ان طرح الوجود السوري في هذه المرحلة يتعارض مع التوجه السياسي الإقليمي في المنطقة، لأنه يوجد تفويض دولي لسورية في لبنان، ويوجد تمسك سوري بالبقاء في لبنان حتى حل المشكلة مع إسرائيل في الجولان. اي ان هناك ترابطاً بين المصلحتين. وبالتالي فأي محاولة لبنانية، مهما كانت القوة التي وراءها، ستصطدم بهذا التقاطع الإقليمي - السوري. وإذا اصطدم المسيحيون من خلال مطالبتهم بالانسحاب السوري، او بإعادة الانتشار لأن الأمرين في السياسة واحد، بهذا التقاطع، سيدفعون ثمناً مجانياً، لصدامهم مع قضية مطروحة في غير اوانها، وضد مصالح اكبر منهم بكثير. إن الجيش السوري دخل لبنان في ظل توازن اقليمي، ولن يخرج منه إلا في ظل توازن اقليمي، والدور السوري في لبنان يخدم اكثر من مصلحة اقليمية ودولية. إلا ان ذلك لا يعني عدم طرح موضوع اختلال التوازن السوري - اللبناني. فهناك تدخل سوري في الشأن الداخلي لا علاقة له بالتوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. وهذا الأمر يجب معالجته وإنهاؤه. نحن خاسرون في الاصطدام مع المجال الاستراتيجي، اما في الشأن الداخلي فتوجد ضرورة للتصحيح وهذا امر مسموح ومفهوم. ان المطالبة بخروج الجيش السوري امر غير وراد تحقيقه الآن، اما المطالبة بتصحيح الاختلال في إدارة الشأن الداخلي فهو امر مفهوم جداً. كيف يمكنك الفصل، موضوعياً، بين الحضور العسكري على الأرض وما يمكن ان ينتجه من واقع يسمح بالتدخل في الشؤون الداخلية؟ - أنا لا أستطيع الفصل إلا نظرياً. والقادر عملياً هو قرار سوري يقوم على ان مصلحة سورية ولبنان ان يعرفا ميدانياً اين تقف الاستراتيجية وأين يبدأ التدخل في الشأن المحلي، المسؤولية السورية تستطيع الفصل. نحن نستطيع المطالبة بالمبدأ. ماذا يبقى من شعارك ضمن هذه الصورة؟ - كله يبقى. فمن خلال تنظيم العلاقة اللبنانية - السورية من هذا المنظار، يتسع بسط السيادة كلما استلم الجيش والقوات الأمنية المسؤولية عن الجيش السوري. كذلك كلما استعادت رئاسة الجمهورية دوراً فاعلاً يقوى الوضع الداخلي. انت تطرح موقع الرئاسة الأولى من خارج اتفاق الطائف الذي تقول بتبنيه. - لا. أنا لا أدعو الى اعادة صلاحيات الرئاسة، بل اقول بدعم المشروع الذي يحمله اميل لحود. هل هو غير مشروع السلطة السياسية برمتها؟ - هو الأكثر تعبيراً عنه والأكثر اهمية. فإن كان نبيه بري مع هذا المشروع امر طبيعي. اما ان يكون معه رئيس الجمهورية الماروني فهو تطور آخر في العلاقة. كان الرئيس الهراوي حاملاً للمشروع نفسه وكنتم ضده. - لا أعرف إذا كان حاملاً له بالمستوى ذاته. فمثلاً، كل حماية حزب الله، والتمييز بين المقاومة والإرهاب، لم يحملها احد في شكل علني وواضح ومباشر ودائم اكثر مما حملها اميل لحود في الحوار مع الأميركيين. هل تعتبر هذا الموقف صحيحاً؟ - هو صحيح في اطار استراتيجية اميل لحود. وما هي هذه الاستراتيجية؟ - انها تقوم على ان المساس بالمقاومة اليوم هو مساس بالاستقرار اللبناني. اية مقاومة؟ - حزب الله. حسناً، لكن ما هو مفهوم المقاومة اليوم؟ لقد تحرر الجنوب. فما هو مفهوم المقاومة؟ - حزب الله. مقاومة ماذا؟ ومن؟ - حتى خروج الإسرائيلي من مزارع شبعا. لنتجاوز شبعا. هل يتطلب التمسك بالمقاومة مظاهرات كالتي حصلت في يوم القدس؟ - لم يفهم احد ان السلاح الذي حمل في المظاهرات موجه ضد الداخل. ورأيي انه رد على الضغط الأميركي الداعي الى تفكيك حزب الله. هذا هو التفسير السياسي. لكن المسيحيين الذين تقول انك تريد استعادتهم الى الدولة ارتعبوا منها. - صحيح جزئياً. فاستعراض القوة يعكس اختلالاً في توازن القوى. لكن لنعترف ان حزب الله يدرك ضرورة توجيه البندقية كلياً نحو إسرائيل، وعدم استخدامها في الصراع الداخلي. هو يفيد منها بتوظيفها في الصراع الداخلي وهذه لعبة مسموحة. حتى الآن، لا يخيفني حزب الله. والتطورات الحالية تضع حزب الله في حال الدفاع عن النفس، وهو يفتش عن حلفاء. وعلينا، كمسيحيين، كأحزاب مسيحية اعطاء غطاء لحزب الله يحتاجه. فإذا أردت انشاء وحدة وطنية، عليك ان تعيره شمسيتك عندما يحتاجها وليس عندما يكون في إمكانه الاستغناء عنها. انت تتحدث عن حزب، والموضوع يطاول مشروعاً يرفضه المسيحيون، الذين لا يرفضون الحزب بل المشروع. - يعود هنا كريم بقرادوني الى التقاط فكرته الأولى ليعلق على ملاحظتي الأخيرة بتأكيد "اهمية" ما يطرحه بشأن "العودة الى الدولة والمشاركة فيها". ذلك ان هذا الطرح، في رأيه "يخلق نقاشاً حقيقياً حتى في الدوائر التي لم تتطرق اليه سابقاً مثل لقاء قرنة شهوان حيث يناقشون جدوى المقاطعة وضرورة التخلي عنها، وهناك تيارات داخلهم. تماماً مثلما هو الوضع داخل القوات، بغض النظر عن الأسماء، فؤاد مالك وغيره، وداخل الكتائب حيث حسمنا قرارنا تقريباً، ونعاود ما غامرنا به عام 1989". تبعاً لكريم بقرادوني "لا يريد المسيحيون المشاركة في الدولة القائمة. يريدون تغيير النظام للمشاركة فيه. ونحن نقول ان هذا خطأ". ولا يوافق على ان الاحتجاج ليس على النظام، بل على تطبيقه. في رأيه ان المسيحيين لا يحتجون على التطبيق فقط بل هم "غير موافقين على مقومات النظام التي هي العلاقة مع سورية والتركيبة الموجودة في السلطة. المسيحيون غير موافقين على حصتهم داخل النظام، ولا على الدور السوري داخل النظام، ويشترطون تغيير هذا الواقع ليشاركوا. ونحن نرى العكس: ندخل الى المعادلة ونسعى الى تصحيحها من الداخل، وفق الظروف والإمكانات". يتخوف بقرادوني من عاملي الديموغرافيا والاقتصاد: "فلا احد يفكر فيهما، وهما لا يتحملان الانتظار عشر سنوات لتغيير المعادلات". يؤكد ادراكه لصعوبة ما يطرحه وما ينتظره "فالقطار المسيحي يلزمه الكثير من الدفع ليتحرك والقاطرة الكتائبية قد لا تكفي وحدها". إنما الخطر في رأيه سيهدد الجميع: "أنا أعرف اين أبدأ وأين أذهب، وقد نكون الخرطوشة الأخيرة". هل هو ادعاء ام تشاؤم؟ لا هذا ولا ذاك "فهناك مشاريع اخرى تتحرك. ومنها ما هو قائم على سؤال: اين المشكلة اذا لم يبق لبنان قائماً على التوازن الحالي؟" يفهم: التوازن الطائفي. والحل؟ "الإرشاد الرسولي، هو النموذج الذي أتبناه. إذا لم ينجح، مشاريع اخرى ستنجح. العدد سيصبح هو الأساس. والصراع الديني الحالي لا يساعد الصيغة التي نطرحها. هناك اخطار على الهوية اللبنانية. وإذا تخلى المسيحيون تصبح العاصفة قادرة على اقتلاعنا". على ماذا يقوم حديث بقرادوني؟ - اولاً، على التواصل في مشروعه وفي أفكاره. فمنذ السبعينات حتى اليوم، هو الثابت الوحيد والآخرون يتغيرون فيبتعدون عنه او يقتربون. لكي تستقيم هذه المعادلة في منطقه، يحصرها بالانفتاح على سورية وبالصراع ضد العائلة. ثانياً، التركيز على فكرة الانخراط في مشروع الدولة، واستقامة المنطق هنا تتطلب الاكتفاء بالدعوة الى المشاركة في المشروع، بضبابية يحكمها الارتباك الموضوعي الذي ينتج عن البحث بشروط المشاركة وبمقومات المشروع. ثالثاً، عدم ترك اي مجال للتخمين بشأن المشروع الذي يحمله ويسعى الى تحقيقه. وهو الانخراط بالسلطة على اساس مشروعها ووفق شروطها، فالدخول الى الحياة السياسية، له، بالنسبة إليه، باب واحد هو الإقرار بالأمر الواقع والتكيف معه، على ان ينظر في إمكان تعديله او تغييره لاحقاً إذا سمحت الظروف. رابعاً، اعتماده التوجه الى المسيحيين في مخاطبته السياسية، لإدراكه ان معركته الرئيسة هي داخلهم ومعهم. ولا يتوانى، من اجل ذلك، عن الإعلان انه "الخرطوشة الأخيرة" في صراعهم من اجل البقاء وعدم التعرض للاقتلاع. هكذا، فإن تبني شعار دعم رئاسة الجمهورية والجيش يضرب العصفورين بالحجر الواحد: الانخراط في مشروع السلطة، ودغدغة غريزة "العقل المسيحي" كما يحب كريم بقرادوني ان يسميه التقليدي تجاه هذين الموقعين. علماً أن مضمون النظرة الماضية للرئاسة والجيش هو، وباعتراف بقرادوني، غير ذلك الذي يعطيه لهما اليوم. كما انه بدا مختلفاً عن الصوغ الذي خرج به بيان المكتب السياسي للحزب الذي صدر عن خلوته الأخيرة. ففي البيان تأكيد دعم رئاسة الجمهورية "المناط بها السهر على استقلال لبنان وسيادته"، ودعم الجيش "الذي يشكل الضمانة لسلامة الأراضي اللبنانية وأمن اللبنانيين"، اما في حديث بقرادوني، فرئاسة الجمهورية تعني الدولة، والجيش يعني السيادة والاستقلال. ولا شك في ان صوغ البيان، الدقيق، الذي يظهر الفرق في التوصيف، اخذ نقاشاً ووقتاً في التمحيص لدى الذين او الذي صاغوا أو صاغ البيان. مع الملاحظة بأن ما ورد في البيان يعكس معظم الأفكار التي وردت في حديث بقرادوني. المفارقة - هل هي مفارقة؟ - انه ورد ايضاً، بما هو تعبير رئيس عن الموقف، في المؤتمر الصحافي الذي عقده نهاية تشرين الأول اكتوبر الماضي الرائد فؤاد مالك، سعياً الى استعادة ترخيص حزب "القوات اللبنانية". قال مالك: "القوات كانت الركن السياسي الرئيس في الوفاق الوطني. وهي تقف هنا اليوم لتقول انها احد الأطراف الرئيسة في المعادلة الداخلية وفي الإجماع الوفاقي". وقال مالك: "القوات تقف موقف المؤيد والداعم للسياسة التي ينتهجها رئيس الجمهورية في بناء الدولة وفي الموقف من الصراع العربي - الإسرائيلي كما في مجال العلاقات اللبنانية - السورية". وقال مالك: تؤكد القوات ضرورة العمل الهادف الى دعم مؤسسة الجيش اللبناني الضامنة للسيادة والاستقلال والقرار الحر". وقال مالك: "المشكلة ليست في الانسحاب او الوجود السوري الذي قال الرئيس اميل لحود انه شرعي وموقت، ولكن في العلاقات التي تحتاج الى تصحيح كما اشار الى ذلك الرئيسان اميل لحود وبشار الأسد". وقال مالك: "ان مصلحتنا ومصلحة الدكتور جعجع ومصلحة المسيحيين في لبنان تفرض ان نتجه في هذا الاتجاه العقلاني". ان هذا التطابق في الموقف، الذي يظهر في صياغتي الأستاذ بقرادوني والرائد مالك، قد يكون من باب توارد الخواطر، او من باب القناعة المتشابهة التي تكونت عند كل منهما. لكن من اللافت ان تحصل هذه القناعة في التوقيت السياسي ذاته، وأن تكون الى هذا الحد الكبير متطابقة في المضمون وفي الشكل. طبعاً، لم يكن الرائد مالك حاضراً في احتفال حزب الكتائب في مجمع ميشال المر. كان حاضراً آنذاك الراحل ايلي حبيقة الذي قضى ضحية جريمة اغتيال. لكن ليست الأسماء مهمة، كما قال بقرادوني، فالمهم هو وجود "تيارين" داخل القوات. ان هذا "الاشتغال" على التباين في صفوف تنظيمين هما الكتائب والقوات، الذي سيطاول ربما غيرهما مما قد تظهره التطورات لاحقاً، هو من دون شك شغل على ايجاد بدائل على الأرض للقوى المسيحية المعارضة، بعد فشل المحاولات السابقة في هذا الاتجاه، وتقديم المساعدة المممكنة لها لتثبيت اقدامها بسبب حاجتها الماسة لهذا الدعم بفعل عزلة طروحاتها داخل الشارع المسيحي. في هذا السياق، ليس من المفارقة مثلاً ما قاله لي كتائبيون معارضون للقيادة الجديدة، وبينهم رئيس بلدية، من ان توجيهات وصلت الى رؤساء البلديات من جانب السلطة الإدارية، تدعوهم الى تقديم التسهيلات لحزب الكتائب الرسمي في رفع الزينة وتعليق اليافطات في الشوارع والأحياء. وفي رأي هذه المجموعة ان القيادة الجديدة معزولة داخل الحزب، وان الدعم يأتيها من خارجه، مشيرين خصوصاً الى الجمهور الذي شارك في احتفال تأسيس الحزب. احد الأشخاص في المجموعة، وهو طبيب وعضو مجلس بلدي ومقاتل سابق في صفوف الحزب، اعتبر ان بقرادوني "يلعب لعبة ايلي حبيقة في الاتفاق الثلاثي". لكنه يضيف مع ذلك ان الرئيس الجميل ليس الشخص المطلوب لأنه "لا يتمتع بالرصيد الضروري لاستعادة الثقة والقيادة". لذلك فحزب الكتائب "لا يتحمل امين ولا يحتاج الى كريم". يمكن تلخيص آراء المجموعة الكتائبية في شكل موضوعي ومن دون تجن كالآتي: - الكتائب وجدت لحماية المسيحيين والدفاع عن الكيان. - مشكلتنا سورية والمسلمون المتعصبون ونحن في حاجة الى من يدافع عنا لنحافظ على وجودنا ولنستطيع محاورة الآخر المسلم. - الدولة غير موجودة لتحافظ علينا. والرئاسة والجيش والقضاء لا توحي لنا، بما هي عليه، بالاطمئنان. فكيف نكون معها؟ - ضرورة التوازن تجعل منا مسيحيين اولاً. "فقبل ان انشئ حزباً لكل لبنان، ليكن لي حزب انا المسيحي. انظر الى حزب الله وأمل والحزب الاشتراكي، كل يمثل جماعته، فأين الحزب الذي يمثلني؟". - كانت الدولة تحسب ألف حساب لحزب الكتائب. اليوم اصبحت تستخدمه. - نحن ضد سورية في لبنان، لكننا لن نتعامل مع إسرائيل ضد سورية حتى ولو أغرتنا مجدداً. مع هذه الصورة التي تعكس، بهذه النسبة او تلك، واقع قناعات الجمهور المسيحي، تريد ان تتعامل القيادة الكتائبية الجديدة. اما السؤال عن اسباب سيادة هذا النوع من القناعات على رغم مضي اثنتي عشرة سنة على تسوية الطائف، فيجاب عنه، وفق منطق بقرادوني - مالك، برده الى سوء تطبيق الطائف من جهة، وإلى عدم وعي المسيحيين للمخاطر المحيطة بهم من جهة ثانية، وقد استقى كريم بقرادوني وصفاً رآه ملائماً من قراءاته المستعادة للكاتب الفرنسي فيكتور هيغو الذي اعلن مرة انه يحب الشعب ويكره الحشود. فالحشود، وهي هنا الجمهور المسيحي عند بقرادوني، تتحرك بعقل غير واع لمصالحها. وقد حدد في حديثه تلك المصالح وكيفية المحافظة عليها. انما المشكلة عنده هي ان منافسيه لهم الأرض، اي الحشود، ولذلك يسمون انفسهم "كتائب القاعدة". سيكون صعباً بالتأكيد على القيادة الكتائبية الجديدة اقناع هذه القاعدة بالطرح الذي تقدمه لها. وستكون المهمة اكثر صعوبة على قيادة القوات الجديدة، المسموح لها بالحركة الآن، والموعودة بالترخيص لاحقاً، لكن من المتوقع ان تحظى القيادتان بالتسهيلات الضرورية في محاولتهما استعادة دور القوى الرديفة للسلطة في الشارع المسيحي. فقد كان حزب الكتائب طوال 24 عاماً حزب سلطة. ولم يستطع البقاء في المعارضة تسع سنوات، ويسعى الآن لاستعادة دوره السابق. إلا ان الأرض تغيرت، والموازين تغيرت، والسلطة تغيرت، ولبنان تغير، تماماً كما استنتج الكتائبيون في مؤتمرهم التاسع عشر. ويبدو الأمر اشبه بمن يتقدم بطلب عمل لوظيفة غير موجودة. في احدى مقابلاته التلفزيونية قال بقرادوني ان ثلاثة لا يتغيرون: الله والميت والغبي، مشيراً بذلك الى اهمية التغيير... لكنه لم يقل في اي اتجاه؟ * صحافي لبناني.