لم يعتد اللبنانيون نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، حامل الملف اللبناني لأكثر من عقدين، الا محاوراً سورياً متصلباً لا يتزعزع عن تشدده، محاطاً بحلفاء لبنانيين وبخصوم لبنانيين يختلفون على تقويم دوره. الا انه اطل في الذكرى الرابعة عشرة لاغتيال الرئيس رشيد كرامي - وان لم يكملها بسبب عارض صحي اصابه على المنصة - وجهاً مختلفاً هادئ الملامح أقرب الى اسقف منه الى الرجل الذي "حكم لبنان وأعاد بناء طبقته السياسية ما بين 1975 و1996، وأنهى أدوار سياسيين لبنانيين بارزين كثيرين واخترع زعامات لهذا البلد، وكان المسؤول الأول عن ارساء العلاقات اللبنانية - السورية على ما هي عليه اليوم، خصوصاً في ما يتصل بالدورين السياسي والعسكري لسورية في لبنان. في مهرجان طرابلس، بدأ خدام يدعو اللبنانيين الى وحدتهم الوطنية والى حماية مؤسساتهم الدستورية والتعاون وعدم تغليب فريق على آخر والى نبذ الخلافات. الا ان المهم في ما قاله نائب الرئيس السوري هو الموقف الذي أطلقه بعد ابلاله من الوعكة الصحية المفاجئة، من بيت الرئيس عمر كرامي، من ان لا احد في لبنان يعمل على تحويل هذا البلد شوكة في خاصرة سورية. وهو موقف نادراً ما سمعه اللبنانيون من مسؤول سوري على مر السنوات الطويلة من وجود الجيش السوري في لبنان الذي تقلّب في تحالفاته بين الأفرقاء اللبنانيين، حليفاً لهذا وخصماً لذاك، والعكس صحيح. ولذا كان ثمة معادلة سورية صريحة في التعاطي مع الملف اللبناني، خلافاً لكل ما يقال اعلامياً، هي ان لدمشق حلفاء في لبنان ولها خصوم. حتى في ذروة المرحلة الذهبية للدور السوري في لبنان، بعد اقرار "اتفاق الطائف" واعادة بناء الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية، لم تنجح سورية في الحصول على اجماع لبناني على هذا الدور. وتبعاً لذلك كان مثار اكثر من التباس راوح عبره الموقف السوري الرسمي من المشكلة اللبنانية كما من الافرقاء المحليين بين تصلبه حيال الخصوم وبين دعمه غير المحدود حيال حلفائه. الا ان موقف خدام اخيراً ساوى بين هؤلاء الافرقاء بعد بضعة ردود فعل سورية رسمية او من خلال بعض الحلفاء اللبنانيين على عدد من مواقف مراجع وقيادات لبنانية ابرزها بطريرك الموارنة نصر الله بطرس صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط اللذان طالبا باعادة النظر في العلاقات اللبنانية - السورية وتصويبها وبإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان. والواقع ان بعض ردود الفعل هذه ضد صفير وجنبلاط اتسم بتشنج خطير حمل دمشق مباشرة كما حلفاءها على اتهامها بالعمل من أجل خدمة مصالح اسرائيل وتقويض الوحدة الوطنية والتعرض لتلازم المسارين اللبناني والسوري في التسوية السلمية وطعن سورية في الظهر. وقيل كلام كثير في ذلك نقلاً عن "مصادر سورية اعلامية" تكتمت عن هويتها، الا انها بدت حادة في توجيه الحملات ضد الزعيمين الماروني والدرزي. تالياً، أتى الموقف الأخير لخدام، مشاركاً في ذكرى كرامي ثم وسيطاً بين الرؤساء الثلاثة باسم الرئيس بشار الأسد، ليطرح السؤال الآتي: هل ان سورية تعيد تقويم طريقة تعاملها مع الملف اللبناني بشكل يؤدي الى انفتاح جديد لها على كل الأفرقاء، واستطراداً تبرئة معارضيها من التهم التي سيقت ضدهم في الاشهر الاخيرة، خصوصاً بعد اطلاق صفير في ايلول سبتمبر الماضي ومن بعده جنبلاط في تشرين الثاني نوفمبر حملة المطالبة بإعادة تمركز القوات السورية في لبنان. علماً ان دمشق كانت ساهمت في الاشهر الثلاثة الاخيرة في توجيه حملة مضادة انخرط فيها رجال دين مسلمون وتنظيمات اصولية ومتطرفة بغية احداث توازن مع مطالبة البطريرك تلك اصر فيها هؤلاء على بقاء الجيش السوري في لبنان، وكاد السجال الطائفي والمذهبي يدفع بالاستقرار الداخلي الى حافة الهاوية. ما يبدو واضحاً من نتائج زيارة نائب الرئيس السوري المعطيات الآتية: * بعث الاعتقاد باستعادة خدام دوره في الملف اللبناني وإشرافه عليه، علماً ان هذا الملف في عهدة الرئيس بشار الأسد منذ 1997 اي قبل تسلمه السلطة خلفاً لوالده الرئيس حافظ الأسد، ثم أضحى بعد انتخابه في عهدة رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية في لبنان اللواء الركن غازي كنعان. تالياً لا مؤشرات واقعية تتحدث الآن عن اعادة انتقال الملف اللبناني من يد الى يد. * حرص خدام على اطلاق خطاب ايجابي حيال اللبنانيين يعكس فيه توجه القيادة السورية الى تعامل جديد مع الوضع اللبناني. وهو توجه كان لمسه من خدام في الأسبوعين الأخيرين، وقبل زيارته لبنان، عدد من زواره الدوريين الذين سمعوا منه ان القيادة السورية تنحو نحو أفكار جديدة في العلاقات اللبنانية - السورية ستترجم لاحقاً مع ابداء استعدادها لجولة جديدة ايضاً من الحوار بينها وبين قيادات لبنانية. وأتى كلام نائب الرئيس السوري في طرابلس ليترجم دقة ما قاله خدام في دمشق عبر ما كاشف به اللبنانيين في عاصمة الشمال. الا ان الأهم في ما انطوى عليه كلام خدام كذلك تجاوزه تصريحات وزير الدفاع السوري العماد أول مصطفى طلاس الذي اتهم بطريرك الموارنة بالاتصال باسرائيل بالواسطة استناداً الى معلومات خاطئة أحرجت القيادة السورية التي اضطرت الى التنصل من هذه المواقف عبر حلفائها اللبنانيين. وتالياً أتى الموقف الاخير لخدام ليعكس جدية التوجهات السورية الجديدة التي تحتاج في رأي بعض من تسنى لهم الاجتماع بنائب الرئيس السوري قبل زيارته لبنان الى ملاقاته من الفريق اللبناني المعني خصوصاً بالمبادرة السورية. وفي اعتقاد هؤلاء ان حواراً جديداً محتملاً بين السوريين والمسيحيين اللبنانيين هو أشبه برقصة تانغو تتطلب شريكين. وهو المناخ الذي يسود أوساط المسؤولين السوريين الكبار الذي يأملون في التقاط هذه الاشارات على نحو ايجابي. وعلى رغم التكتم الذي احاط بحصيلة الاجتماع الطويل بين خدام والرئيس اميل لحود ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري واللواء كنعان، فإن محيطين بالمجتمعين لمسوا تجاوب الرؤساء مع تحرك خدام بغية تهدئة العلاقات في ما بينهم في انتظار اجتماع لحود وبري والحريري بالرئيس السوري في ذكرى غياب والده الرئيس الراحل. على ان هذه التهدئة لم تزل الشرخ الذي أصاب للمرة الأولى علاقة رئيس الجمهورية برئيس البرلمان بمثل هذا التشنج الذي قارب القطيعة بينهما، ولا قللت من جهة اخرى من تنامي المشكلة القائمة بين لحود والحريري. اذ بدا واضحاً في ما حصل اخيراً بينهم انهم دخلوا في أزمة ثقة شخصية متبادلة ستجعل تعايشهم اكثر صعوبة من السابق، غير انها لن تقودهم الى قطيعة يرفضها السوريون. ومع ذلك، وعلى رغم وفرة اسباب الخلاف بين الرؤساء الثلاثة المتصلة بدور الاجهزة الامنية والتعيينات والمعالجات الاقتصادية والمالية وبعض مشاريع القوانين العالقة، فإن ثمة من أشاع مناخاً ببناء تحالفات جديدة في البلاد تضع كلاً من الرؤساء وجهاً لوجه مع الآخر. قيل ذلك عن نشوء حلف غير معلن بين بري والحريري وجنبلاط في مواجهة حلف رئيس الجمهورية و "حزب الله"، ساهم في تعزيز الخلاف حوله ما نقل عن امتعاض رئيس المجلس من بعض التصريحات التي أدلى بها رئيس الجمهورية في باريس، وقوله خصوصاً على درج قصر الأليزيه ان "حزب الله" هو الذي حرر جنوبلبنان بمؤازرة الجيش اللبناني، في اشارة صريحة الى تجاهل دور قوى المقاومة الاخرى التي شاركت في التحرير وبينها حركة "أمل" التي يتزعمها بري وأحزاب عقائدية أخرى. وأتى موقف لحود اثر سجال دار مع بري على نحو غير مباشر نتيجة لما كان رئيس المجلس قاله في الاحتفال الذي اقيم في ذكرى تحرير الجنوب وتشعبت منه كل الخلافات التالية لتصل الى مشروع قانون الموازنة العامة. أما ما بعد الفرصة الجديدة لمصالحة الرؤساء بعد خلاف يتخذ للمرة الاولى في عهد لحود هذا البعد من التشنج والتصلب، فهو توجيه الانتباه الى العلاقات الشخصية في ما بينهم في المرحلة المقبلة. اذ يبدو مكمن المفاجأة في الخلاف الناشئ بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس للمرة الأولى على رغم ما قيل ابان عهد حكومة الرئيس سليم الحص في السنتين الأوليين من العهد ان بري وقف حجر عثرة في وجه الاصلاح الاداري. الا ان مراحل التباين في وجهات النظر في الفترة السابقة أضحت الآن حقيقة. وهي ليست حال علاقة لحود بالحريري التي لا تزال تتسم منذ اليوم الأول للعهد بأكثر من التباس وغموض لم تذللهما عودة الحريري الى رئاسة الحكومة في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بل ضاعفت تجربته في الحكم مع رئيس الجمهورية من واقع التناقض الحاد في طريقة عمل كل منهما وأسلوب تعامله مع السلطة والادارة والاستحقاقات. على ان ما يختصر هذه المشكلة هو أزمة العلاقة الشخصية بين لحود والحريري التي سرعان ما امتدت عدواها الى أزمة ثقة متبادلة بين أركان السلطة في هذا البلد، من غير ان يختلفوا بالضرورة على ملفات خطيرة شأن ملف العلاقات اللبنانية - السورية ووجود الجيش السوري في لبنان، وشأن ملف المواجهة مع اسرائيل.