ماذا تريد بكركي وبطريرك الموارنة؟ طُرح هذا السؤال بعد البيان الأخير، الدوري، لمجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك نصر الله بطرس صفير وأثار فيه وجود الجيش السوري في لبنان مطالباً باعادة انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً من الأراضي اللبنانية. وعلى جاري العادة كانت ثمة ردود فعل ضده، تأييداً لموقف دمشق، وأخرى معه. وفي كل حال لم تُجب ردود الفعل هذه أو تلك عن ذلك السؤال: ماذا يريد البطريرك؟ لم يكن الموقف الأخير لبطريرك الموارنة من الجيش السوري ووجوده في لبنان هو الأول الذي يطرقه صفير أو مجلس الأساقفة. إلا انها المرة الأولى التي يتجاوز فيها سيد بكركي الكلام عن فقدان القرار المستقل والسيادة والإرادة الوطنية المعطلة الى المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان وان في مرحلة متأخرة، وهي المرة الأولى التي يتهم فيها دمشق بالسيطرة على المؤسسات الرسمية اللبنانية، وهي المرة الأولى التي يشير فيها صراحة الى العمالة السورية والانتاج الزراعي السوري وتأثيرهما على الاقتصاد اللبناني، وهي المرة الأولى أيضاً التي يتحدث فيها علناً وعلى نحو مباشر عن وجود معتقلين لبنانيين في السجون السورية لا تطالب بهم الحكومة اللبنانية. والواقع انها المرة الأولى التي تخوض فيها بكركي في تفاصيل دقيقة في العلاقات اللبنانية - السورية لم يسبق لأي جهة لبنانية، في أي موقع كانت، ولا الحكومة اللبنانية، ان تناولتها، خصوصاً لجهة الانسحاب الشامل وعدم التكافؤ في التعاون الاقتصادي والمعتقلين. مع ذلك، لم يُسّمِ رئيس الجمهورية اميل لحود البطريرك في ردّه في اليوم التالي على المنادين باعادة انتشار الجيش السوري في لبنان وقوله انه وجود "شرعي وموقت"، ولا أضفي على هذا الرد طابع التشدد الذي ضمّنه، في الرد نفسه، تحذيره أنصار "القوات اللبنانية" المحظورة وتيار العماد ميشال عون من التلاعب بالأمن الداخلي. الا ان لحود كان مصراً في المقابل على الرد هو بنفسه على بيان الأساقفة الموارنة بغية موازنة السقف السياسي الجديد الذي رفعه البطريرك في هذا الموضوع بسقف سياسي مماثل يضع جواب رئيس الجمهورية وجهاً لوجه أمام بيان رأس الكنيسة المارونية، من غير أن تنقطع الجسور بين هاتين المرجعيتين. على أن ما أدلى به الأساقفة الموارنة أخيراً يتخطى مجرد اتخاذ موقف الى تأكيد بكركي اضطلاعها بدور وطني درجت عليه تاريخياً، بدا منذ عهد الرئيس الياس الهراوي انه يرمي الى قيادة معارضة مسيحية في غياب زعماء موارنة ومسيحيين تاريخيين كانوا بدورهم في محطات مصيرية يلوذون بالصرح البطريركي. وهو ما أظهرته بكركي في معارضتها انتخابات 1992 وتشجيعها على مقاطعتها وانتقادها معظم حكومات عهد الهراوي لافتقادها الى التوازن السياسي الوطني ومطالبتها باطلاق قائد "القوات اللبنانية" المحظورة سمير جعجع من سجنه واعادة العماد ميشال عون، من غير اغفالها استياءها من الطريقة التي أجريت بها انتخابات 1992 و1996 و2000 أخيراً، لتسهب في الأشهر المنصرمة في الكلام عن هجرة اللبنانيين، المتزايدة منذ عهد لحود. المعني بإتفاق الطائف والواضح ان البطريرك يعتبر نفسه معنياً بتطبيق اتفاق الطائف على نحو ما كان معنياً بهذا الاتفاق في طور اعداده. إذ في أكثر من مناسبة قال الرئيس حسين الحسيني ان كل الصيغ التي اقترحت للإصلاحات السياسية والدستورية ومهدت لتسوية الطائف اطلع عليها صفير منذ عام 1987 وناقشها آنذاك مع الرئيس السابق للبرلمان مباشرة أو عبر رسل، في بكركي كما في الفاتيكان، وكذلك الأمر بالنسبة الى مسودة اتفاق الطائف قبل مناقشتها ثم في مراحل هذه المناقشة في مدينة الطائف العام 1989. وهو أمر جعل البطريرك معنياً بنتائج هذه التسوية بمقدار الدور الذي اضطلع به في أثنائها. فضلاً عن الغطاء المسيحي الذي وفره لتمرير وثيقة الطائف في مرحلة الاقتتال المسيحي - المسيحي بين عون وجعجع ومن بعد ذلك اقرار الاصلاحات السياسية في متن الدستور اللبناني. وهذه أسباب لم تنأى عن تحميل البطريرك مسؤولية اتفاق الطائف عندما وُضع وحينما نُفّذ خلافاً لروحيته. بل لعلّ اقتران هذه التسوية بطلب غطاء بكركي بغية انهاء الحرب اللبنانية وارساء وفاق وطني جديد بين اللبنانيين، يعود الى المقايضة التي رعتها اللجنة الثلاثية العربية العليا ووافقت عليها آنذاك سورية، وقضت بتنازل المسيحيين، والموارنة خصوصاً، عن جزء أساسي من صلاحيات رئيس الجمهورية في مقابل برمجة انسحاب الجيش السوري من لبنان تبعاً لخطة مرحلية تبدأ أولاً باعادة انتشاره داخل الأراضي اللبنانية. إلا أن تنفيذ هذه المقايضة اقتصر على جزء دون الآخر: انتزعت صلاحيات أساسية من رئيس الجمهورية الماروني ووُزعت على مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية مع تعديل الدستور عام 1990 من دون اعادة الجيش السوري انتشاره، في مرحلة أولى بانقضاء سنتين على إقرار الإصلاحات الدستورية عام 1992. ورُبط آنذاك، من باب اقفال أي سجال محتمل في طلب اعادة الانتشار، بخروج الجيش الإسرائيلي من هضبة الجولان السورية المحتلة، وامتنع عهد الهراوي عن الخوض في هذا الموضوع، وقرنه من بعده الرئيس الحالي بمعادلة ضرورة استمرار وجود الجيش السوري في لبنان بغية تأمين المصلحة الوطنية اللبنانية، إلا أنه وجود "شرعي وموقت"، والكلمة عن هذا الموضوع في عهد لحود، هي لرئيس الجمهورية بالذات. وعلى رغم التناقض الصريح في الموقف من وجود الجيش السوري في لبنان بين بطريرك الموارنة ورئيس الجمهورية، إلا أن العلاقة بينهما لم يشبها بعد أي فتور، خلافاً لواقع العلاقة التي سادت بين صفير والهراوي، من وفرة أسباب الخلاف مع الرئيس السابق، بدءاً بسوء تطبيق الطائف مروراً بانتخات 1992 ومن خلالها قانون الانتخاب وصولاً الى تمديد الهراوي ولايته وانتهاء بمشروعه للزواج المدني دونما اغفال انتخابات 1996 قانوناً واجراءات وبالتأكيد تجنيس مئات الألوف من غير اللبنانيين وقسم كبير من هؤلاء لا يقيم في لبنان ويُؤتى به في بوسطات من سورية عند كل استحقاق انتخابات نيابية عامة. لا فتور في ظل هذا الواقع لم تنشأ بين صفير ولحود أسباب للخلاف، ولم ينقطع الاتصال بين هذين المرجعين: عندما يزور الرئيس بكركي في بعض الأعياد، ومن خلال رسله الى البطريرك ضباط قريبون من لحود وأحياناً نجله اميل اميل لحود المرشح بعد انتخابه نائباً للاضطلاع بدور خاص في العلاقة بينهما. وفي كل الأحوال، على كثرة الانتقادات التي وجهها البطريرك الى السلطة اللبنانية على مواقفها من بعض الاستحقاقات، الا أن أياً منها لم يُشر مرة الى رئيس الجمهورية، ولا غمز من قناة وجود خلاف معه، مع أن البطريرك لا يُسلّم في كل حال بدعم غير مشروط لرئيس الجمهورية، ولا سلك اسلاف صفير خطوة كهذه على مرّ القرن السابق، مذ ترأس البطريرك الياس الحويك ثلاثة وفود لبنانية الى فرساي العام 1919 لمطالبة مؤتمر الصلح هناك ب"دولة لبنان الكبير". من بعده البطريرك انطوان عريضة، ساند الرئيس بشارة الخوري ثم اختلف معه الى الحد الذي حمل بشارة الخوري على إيفاد أحد أبرز القريبين منه الأمير رئيف أبي اللمع والد السفير فاروق أبي اللمع الى الفاتيكان شاكياً عريضة وتقدّمه في السن، فكان قرار الكرسي الرسولي آنذاك أواخر الأربعينات تعيين لجنة رسولية ثلاثية تحل مكان البطريرك في إدارة شؤون الكنيسة موقتاً، ومع ذلك ساند عريضة "الانقلاب الأبيض" الذي قاده معارضو بشارة الخوري لارغامه على الاستقالة من الرئاسة، فاستقال عام 1952. من بعده البطريرك بولس بطرس المعوشي الذي أيّد الرئيس كميل شمعون ثم انقلب عليه عام 1957 مؤيداً معارضيه المسيحيين والمسلمين، ولا يزال ثمة من يذكر الى الآن أن مشايخ مسلمين أمّوا الصلاة في بكركي. كان المعوشي ضد انضمام لبنان الى أحلاف أجنبية وضد التجديد لكميل شمعون، لكنه كان أيضاً ضد تدخل الرئيس جمال عبدالناصر و"الجمهورية العربية المتحدة" في الشؤون الداخلية للبنان عام 1958. وأيّد المعوشي أيضاً الرئيس فؤاد شهاب ثم اختلف معه على موضوع تجديد الرئيس ولايته عام 1964، ثم اتخذ موقفاً عدائياً صريحاً في عهد شارل حلو ضد "المكتب الثاني" المخابرات اللبنانية لتدخله في السياسة والانتخابات النيابية، ورعى "الحلف الثلاثي" بين الأقطاب الموارنة الثلاثة كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميل سعياً الى اسقاط الشهابية، فانهارت في انتخابات الرئاسة العام 1970. أبعد من التفاصيل ولعل هذه الوقائع خير معبّر عن دور بطريرك الموارنة الذي يتجاوز الكنيسة المارونية ليصبح جزءاً من الموقف السياسي العام في البلاد وأن يحرص البطريرك الحالي، كما أسلافه من قبله، على تأكيد الدور الوطني لبكركي الذي يتخطى تفاصيل اللعبة السياسية المحلية. وهو دور، في كل حال، يحاول - كما كان تاريخياً - أن يوازي رئاسة الجمهورية من غير أن يكون شريكاً معها، يلتقيان ويختلفان. فالأسباب التي جعلت من البطريرك الحويك أب "دولة لبنان الكبير"، هي نفسها الأسباب تقريباً التي تجعل من البطريرك صفير معنياً باتفاق الطائف، مشروع المصالحة الوطنية الذي لم يكتمل، ومعنياً بالاعتراض على سوء تطبيقه أو إغفال تطبيق بنود أساسية فيه. وما قاله عن عدم اعادة انتشار الجيش السوري في لبنان منذ عام 1992 يصب في هذا الاتجاه. كذلك الأمر بالنسبة الى الخلل في العلاقات اللبنانية - السورية الذي تحدث عنه أيضاً حليف أساسي وضروري لسورية هو رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، وأحد الأصدقاء الشخصيين للرئيس السوري بشار الأسد الوزير والنائب نجيب ميقاتي، ولم يُخوَّنا. والواقع هذا ما تريده بكركي وبطريرك الموارنة