تثير الأحداث الساخنة جداً في مقدونيا اهتماماً اقليمياً ودولياً واسعاً، يتسم بالغضب والادانة، بسبب الوضع الحساس لهذه الدولة التي لا يزيد عمرها على عشر سنوات، وتتميز بموقعها الفريد وبموزاييكها العرقي وتكثر حولها أطماع جيرانها الأكثر قوة والأرسخ وجوداً. جاءت الحركة المسلحة الألبانية، التي تطلق على نفسها اسم "جيش التحرير الوطني" لتبدد الاستقرار النسبي الذي كانت تفخر به مقدونيا، الى درجة ان اقتراحات قدمت الى هيئة جائزة نوبل لمنح الرئيس المقدوني السابق كيرو غليغوروف جائزة السلام، لأنه تعامل مع وحدات الجيش اليوغوسلافي السابق التي كانت مرابطة في مقدونيا ويهيمن عليها الصرب بحكمة وروية، عندما خيّرها بنقل ما تشاء من المعدات العسكرية الموجودة في الأراضي المقدونية الى صربيا، في مقابل مغادرتها مقدونيا بهدوء ومن دون مشاكل، مجنباً بلاده ما حل بالجمهوريات الثلاث الأخرى التي انفصلت عن يوغوسلافيا السابقة سلوفينياوكرواتيا والبوسنة التي شهدت أحداثاً مأسوية بدرجات متفاوتة. وعلى رغم تبدد "أزمة" استقلال مقدونيا من دون مضاعفات، فإن البلاد ظلت قلقة، اذ استمرت حكوماتها حذرة في التعامل مع مطالب الأقليات العرقية، خصوصاً الألبانية، خشية ان تؤثر على التوازن العرقي في البلاد الذي يعني للسلافيين المقدونيين الدور القيادي، اضافة الى مشاكلها مع جاراتها الأربع: بلغاريا شرق وهي لا تزال ترفض الاعتراف بوجود شعب متميز عرقاً ولغة يمكن أن ينتسب الى مقدونيا، وتعتبر المقدونيين فصيلاً من القومية البلغارية. ويوغوسلافيا شمال التي تماطلت في تثبيت حدودها مع مقدونيا، ولم تحسم هذه القضية حتى قبل بضعة أسابيع عندما وقع الرئيسان المقدوني بوريس ترايكوفسكي واليوغوسلافي فويسلاف كوشتونيتسا، في سكوبيا، اتفاقاً على ترسيم الحدود بين بلديهما، لكن هذه الفرحة ماتت سريعاً، اذ اجهضتها اعتراضات ألبان كوسوفو الذين أدانوا الحكومة المقدونية "لأنها تعاملت مع الصرب الغرباء، متجاهلة ان كوسوفو دولة مستقلة، لا يحق لأحد من غير زعمائها الألبان، تعيين حدودها وتقرير مصيرها". وألبانيا غرب التي خيمت حالات المد والجزر على تعاملها مع مقدونيا، تماشياً مع تطور العلاقات، ايجاباً وسلباً، بين الحكومة المقدونية والأقلية الالبانية، انطلاقاً من التعاطف الذي يربط الدولة الأم البانيا مع ابنائها "الذين حتمت الأقدار ان يعيشوا خارج حدودها مع سلطات غريبة عليهم". واليونان جنوب التي لم تعترف حتى اليوم بجواز سفر أو وثيقة تحمل اسم مقدونيا، بما في ذلك ختم المرور الحدودي للجواز الأجنبي الذي يحمل هذا الاسم، وارغمت اليونان الحكومة المقدونية على تبديل شعارها وعلمها ورموزها الوطنية ذات الارتباط بإرث الاسكندر الأكبر المتنازع على انتمائه، إذ تعتبر كل منهما انه من "دمها" ولا يزال اسم هذه الدولة في المجالات العالمية "جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة" التي قُبلت بموجبه عضواً في الأممالمتحدة والمنظمات الدولية، كحل مؤقت، ريثما يتم اعتماد اسم دائم يحظى بقبول اليونان التي ينطلق اعتراضها من وجود منطقة في شمالها المحاذي لمقدونيا تحمل الاسم نفسه، ولم يتم حتى الآن العثور على الاسم "المنشود" على رغم الوساطة الدائمة بين الدولتين التي تضطلع بها الولاياتالمتحدة. وتطلق اليونان على جارتها الشمالية اسم "سكوبيا" وهو الاسم الذي تحمله العاصمة المقدونية. خريطة مقدونيا تعتبر مقدونيا أصغر دولة في منطقة البلقان مساحة 25713 كلم مربع وسكاناً حوالي مليوني نسمة في حين أنه لا يأتي بعدها في سلم التطور الاقتصادي بالنسبة الى أوروبا سوى البانيا، ويصل عدد العاطلين عن العمل فيها الى ربع عدد السكان. وتمثل مقدونيا، على رغم ضآلة عدد سكانها، صورة مصغرة لكل منطقة البلقان لكثرة أعراقها، اذ تضم، بحسب الاحصاء الرسمي للعام 1994، اضافة الى القومية "المقدونية" الغالبة 66 في المئة و"الالبانية" الثانية 23 في المئة اقليات أخرى رئيسية منها: الصرب، الأتراك، البلغار، الروم الغجر، البوشناق، الكروات، أهل الجبل الأسود، المصريون مجموعة سكانية تحمل صفاتها الخاصة ويعتقد بأنها أتت من مصر قبل مئات السنين، الفلاس أقرب الى الايطاليين الطوربوش جماعات من العرق المقدوني السلافي اعتنقت الاسلام خلال الحكم العثماني. ولا تخفي أوساط العرق المقدوني قلقها من أن التوازن السكاني بالنسبة اليها يتعرض لتحديات عدة، في مقدمها ان الزيادة السكانية وسطها تتراجع باستمرار في حين انها بقيت على مستواها التقليدي المرتفع عند الأقليات، خصوصاً الألبان الذين لم يكتفوا بتكاثرهم المتزايد، بل وفروا للآلاف من البان كوسوفو فرصة الحصول على جنسية دولة مقدونيا، على أساس جنسيتهم اليوغوسلافية الموحدة السابقة. ويخشى السكان المتحدرون من العرق المقدوني ان يصبحوا خلال العشرين سنة المقبلة أقلية دون 50 في المئة بين تجمع اقليات بلادها. إزاء هذه الحال أضحت الأقليات تمثل القوة التي في مقدورها ترجيح كفة الفئة التي تتولى الحكم من العرق المقدوني، إذ ان تصويت الالبان قبل عام بنسبة قاربت 90 في المئة الى جانب الرئيس الحالي بوريس ترايكوفسكي مرشح الحزب القومي الحاكم المدعوم من الغرب هو الذي وفر له الفوز على منافسة تيتو بيتكوفسكي الاشتراكي اليساري الذي تؤيده غالبية أفراد العرق المقدوني، في حين أن الحكومة الحالية تستمد بقاءها من تأييد النواب ال11 الذين يمثلون "الحزب الديموقراطي الألباني" ذا النزعة القومية المتشددة المشارك في الحكومة الائتلافية، الأمر الذي جعل المقدونيين يشعرون بالغبن، معتبرين ان الالبان "يختارون لهم حسب مصلحتهم رئيساً وحكومة، في مقابل مكاسب غير دستورية يحصلون عليها". وأسفر ذلك عن اتساع هوة الحقد بين الطرفين وزيادة مخاطر اندلاع الحرب الأهلية. وربما كانت الأقليات في مقدونيا تتمتع بقدر كبير من الحقوق الانسانية المحترمة اوروبياً، يفوق في أي دولة بلقانية أخرى، اذ ان لكل الأقليات أحزابها السياسية التي تحمل اسم عرقها وتحظى بالاعتراف بها رسمياً، ومن أمثلة ذلك ان 26 مقعداً في البرلمان المقدوني الذي يضم 120 مقعداً في حوزة الألبان بموجب ما أفرزته نتائج الانتخابات، وبينها "الحزب الديموقراطي الالباني" المتعاون مع قيادات "جيش تحرير كوسوفو"، وهو الأكثر تشدداً بين الأحزاب الالبانية ويحظى بمساندة الولاياتالمتحدة إثر مشاركته في الحكومة الحالية وتصويته الى جانبها لمنع سقوطها أمام المعارضة اليسارية ويرأسه اربن جعفيري، ويمثله في الحكومة خمسة وزراء، بينهم النائب الأول لرئيس الوزراء. اضافة الى ان وكلاء الوزارات التي ليست بحوزة الالبان ومنها الداخلية والدفاع والخارجية، وهؤلاء اختارهم "الحزب الديموقراطي الألباني". كما أن وزير الخارجية سرجان كريم يتحدر من أصل تركي. وفي مجال التعليم، للالبان جامعة في مدينتهم الرئيسية تيتوفو غرب مقدونيا وقد منحتها السلطات المقدونية أخيراً صفة تؤدي الى الاعتراف الكامل بها، على رغم انها انشئت أصلاً من دون الرخصة القانونية، كما ان للالبان مدارس خاصة بلغتهم. وتعتبر التقديرات ان الحال الاقتصادية للالبان هي الأفضل بين جميع الأعراق قياساً بالمعايير المقدونية، واستفادوا كثيراً خلال السنتين الأخيرتين من الوضع الراهن في كوسوفو ليسيطروا على التجارة والخدمات الخارجية الأخرى التي يحتاجها الاقليم. المقدونيون الحاليون من الشعوب السلافية البلغار، الصرب، أهل الجبل الأسود، الكروات، البوشناق، السلوفينيون التي نزحت من أواسط آسيا واستوطنت مناطق البلقان في القرن التاسع الميلادي، وشكلوا امارات شبه مستقلة حتى أضحت مقدونيا في عام 1392 ضمن أراضي السلطنة العثمانية، واستمرت كذلك الى أن انتهى الحكم التركي في المنطقة إثر حرب البلقان الأولى 1912، وقسمت الأراضي التي كانت تحمل اسم مقدونيا بين الدول المنتصرة في تلك الحرب صربيا وبلغاريا واليونان. وتتكون مقدونيا الحالية، من القسم الذي كان ضمن حصة صربيا، وأضحى جزءاً من يوغوسلافيا بعد قيامها في 1918 وحتى انهيارها في 1992، أما القسمان الآخران فلا يزالان مندمجين في أراضي بلغاريا واليونان، ولا يوجد أي مجال لاستقلالهما وانضمامهما الى مقدونيا، لأن الانفصال لم يعد مقبولاً في العرف الدولي باعتباره تغييراً للحدود الدولية. وتخلت مقدونيا، من جانبها، عن كل نية متوارثة بتوحيد أراضي العرق المقدوني، واكتفت بما حصلت عليه من يوغوسلافيا، وهمها الآن ينحصر في الحفاظ على هذا الملك من الضياع، الذي اذا انهار وانتهى، فمن المحال، بالاعراف الراهنة، قيام دولة مقدونية مستقبلاً. الحركة المسلحة ومنذ استقلال مقدونيا، اعتبر المجتمع الدولي اراضي هذه الدولة "خطاً أحمر" ليس مسموحاً بتجاوزه، بسبب القناعة بأن قيام أي حركة عرقية مسلحة هناك ستؤدي الى تدخلات خارجية من الدول المجاورة وغيرها، وليس مستبعداً انهيار وحدة مقدونيا وتحكم مجموعات مسلحة عرقية في مناطقها، من الصعب احتواؤها بسبب الفوضى التي ستصبح سيدة الموقف. وإذا حصل ذلك فيمكن بسهولة ان يمتد هذا الوضع الى دول بلقانية أخرى لا تخلو أي منها من اقليتين عرقيتين كبيرتين على الأقل، وتضم متطرفين بإمكانهم ان يثيروا تحركات مسلحة وأعمالاً ارهابية انفصالية، لا تقل خطورة وعنفاً عما تقوم به الجماعات الالبانية المسلحة في جنوب صربيا وشمال مقدونيا. ويشير المراقبون في البلقان الى أن أحد دواعي القلق على مقدونيا يأتي من محدودية قدرة جيشها، عدداً وتسليحاً وخبرة قتالية، لأنه بدأ من نقطة الصفر، بعد انهيار يوغوسلافيا السابقة إذ أن الجيش اليوغوسلافي لم يترك في الأراضي المقدونية عند انسحابه ما ينفع من المعدات والتجهيزات العسكرية. وكانت الدول الغربية قد وعدت مقدونيا بدعم غير محدود وفاء لما قدمته حكومتها من تسهيلات لعمليات حلف شمال الأطلسي اثناء غاراته الجوية على يوغوسلافيا قبل عامين. وأكدت الولاياتالمتحدة بوجه خاص انها ستستخدم نفوذها على الألبان كي يلتزموا التعاون مع السلطات المقدونية في حل القضايا المعلقة بين الطرفين، مع تجنب إثارة المشاكل. لكن الخطأ الذي ارتكبه متطرفون ألبان في المنطقة، هذه الأيام، سرعان ما جاء الرد عليه تنديداً محلياً واقليمياً ودولياً، ووصل داخل الائتلاف الحكومي المقدوني الذي يشارك فيه "الحزب الديموقراطي الالباني" فأحدث فيه شرخاً عميقاً، وفي حال غضب ثلاثة فقط من نواب هذا الحزب من التصريحات العنيفة المتواصلة وأوصاف الارهابيين الالبان التي اعتاد مسؤولون في وزارة الدفاع المقدونية الادلاء بها وتتناقلها عنهم وسائل الاعلام في سكوبيا، فإن الحكومة المقدونية ستسقط، ويصبح اجراء انتخابات برلمانية مبكرة أمرا لا مفر منه، في وقت تشير كل التوقعات الى أن الخاسر الأكبر سيكون "الحزب المقدوني القومي" الحاكم، في مقابل عودة الاشتراكيين واليساريين المتشددين نسبياً مع الالبان، الذين يمثلون امتداداً للشيوعيين القدامى الى السلطة، ويجاهرون بتحفظاتهم تجاه "التعاون الوثيق الحالي مع الولاياتالمتحدة، ومنح تسهيلات سخية لحلف شمال الأطلسي، بما في ذلك مرابطة أكثر من ألف جندي أطلسي في الأراضي المقدونية كوحدات اسناد للقوات الدولية في كوسوفو". دعم مقدونيا واعلنت دول البلقان الأخرى وقوفها الى جانب مقدونيا، حتى لو تطلب الأمر دعماً وتدخلاً عسكرياً للقضاء على الحركة المسلحة الالبانية شمال البلاد، التي يؤكد قادتها في "جيش التحرير الوطني" التصميم على المضي قدماً في تحقيق أهدافها التي تتعلق ب"الحقوق المشروعة للشعب الألباني في مقدونيا" والتي لم تستثن حتى "اقدامها على جعل المدن المقدونية تهتز مما يمكن أن يصيبها". وحتى البانيا، أكدت على لسان كبار المسؤولين في حكومتها، انها "تتخذ موقفاً موحداً مع مقدونيا ضد المتمردين، وترفض استدراجها الى الدخول في مواجهة عسكرية مع جاراتها، ما يهدد السلام في المنطقة". يذكر أن البانيا، التي يحكمها حالياً "الحزب الاشتراكي الالباني" الذي يتزعمه فاتوس نانو ويشارك في قيادته زعماء من "حزب العمل الشيوعي" السابق، ويهيمن عليه الجنوبيون غير المهتمين عادة بالقضايا القومية التي تتعلق بألبان الدول المجاورة البعيدة عن منطقتهم، فانها - أي البانيا - حذرة من التنوع الطائفي والعرقي لسكانها، اذ تحكمها منذ العام 1990 "ترويكا" من رئيس الجمهورية مسلم يمثل 60 في المئة من السكان ورئيس الحكومة مسيحي ارثوذكسي، يمثل 25 في المئة من السكان ورئيس البرلمان مسيحي كاثوليكي يمثل 15 في المئة من السكان اضافة الى المتاعب التي يمكن أن تثيرها اقلية يونانية في جنوب شرقي البلاد المحاذي لليونان، وهي لا تخفي مشاعرها "الاخوية" تجاه اليونانيين. وفي المقابل، فإن سكان شمال البانيا، يطالبون بدعم "أشقائهم" الذين يجاورونهم في كوسوفو والجبل الأسود ومقدونيا، والذين تربطهم، معاً، علاقات اجتماعية وثيقة وقربى وعشائرية، ومنهم الرئيس الالباني السابق صالح بيريشا، الذي يتزعم حالياً "الحزب الديموقراطي الألباني" وينتمي الى عشيرة "بيريشا" التي يعيش قسم كبير منها في كوسوفو، وفي هذا الخضم فإن البانيا تتهيأ للانتخابات البرلمانية الصيف المقبل، وستكون أحداث البلقان الراهنة احدى قضاياها الرئيسية. وتعتبر المشكلة الحالية في البلقان أخطر تهديد لأمن المنطقة، الأمر الذي أعاد خلط الأوراق القديمة وتنظيم التحالفات حتى بين أعداء الأمس الحلف الأطلسي والجيش اليوغوسلافي وغيرهما، في مواجهة التنظيمات المسلحة التي شكلها الألبان وتوصف بأنها ليست ارتجالية، وانما تلتزم "أهدافاً مصيرية"، مما يجعل إخماد حريقها صعباً جداً. وتتزايد المخاوف من أن تؤدي عمليات هذه التنظيمات الى حرب بلقانية رابعة، في غضون عقد، قد تكون أكثر ضراوة من الحروب الثلاثة السابقة التي شهدتها كل من كرواتيا والبوسنة وكوسوفو، اذا اخفق المجتمع الدولي في وضع حد ل "تمادي" الالبان، قبل فوات الأوان