ليس العالم العربي وحده المتشائم الفزع من انتخاب آرييل شارون رئيساً للحكومة الاسرائيلية. فقد أعربت جهات عدة في مختلف أرجاء العالم عن خشيتها من أن يقود شارون المعروف بمزاجه الحربي وميله للعنف المنطقة الى نزاع مسلح دموي وهي تتأهب لدخول الألفية الجديدة. صحيح أن سجل شارون ينضح بالأدلة التي تبرر تلك المخاوف من عهده، غير أن من المهم أيضاً أن يوضع في الإعتبار أن المجتمع الإسرائيلي شهد تغييرات تجعل من الصعب على شارون أو أي زعيم آخر حشد الاسرائيليين وتعبئتهم لخوض معارك يرى كثيرون منهم - إن لم تكن غالبيتهم - عدم جدوى خوضها. وعلى رغم أن اسرائيل تملك ترسانة نووية تفوق الترسانة النووية الصينية، وهي التي هيأت لها تفادي الهجمات التي توعد الرئيس العراقي صدام حسين بشنها على إسرائيل أثناء حرب الخليج الثانية، على رغم ذلك كله، وحتى قبل إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الحالية في أيلول سبتمبر الماضي، فإن الإسرائيليين لم يشعروا الآن أكثر من أي وقت مضى بهشاشة وضعهم وضعفهم أمام أي هجمات محتملة. ففي آخر حربين حدوديتين خاضتهما اسرائيل - ضد لبنانوالعراق - نزح عشرات الآلاف من الإسرائيليين من مناطقهم لإتقاء شر الحرب. خصوصاً أن الإسرائيليين هناك يعرفون - وهو ما لا يخوض فيه الإعلام الإسرائيلي صراحة - أن صواريخ الكاتيوشا التي تطلقها قوات "حزب الله" اللبناني على شمال إسرائيل أفرغت مدينة كريات شمونه من سكانها لفترات طويلة أحياناً. ومع أن صواريخ "سكود" التي أطلقها العراق على إسرائيل إبان حرب الخليج لم تسفر إلا عن مقتل مواطن اسرائيلي وحيد، توفي بنوبة قلبية، إلا أن الخوف منها حدا بنحو مليون يهودي الى النزوح من منطقة تل أبيب وضواحيها الى القدسالمحتلة، بل الى مستوطنات في الضفة الغربية يحيط بها الفلسطينيون. ولا تزال الآثار النفسية للفزع الذي اجتاح الاسرائيليين إبان حرب تحرير الكويت مادة خصبة لعدد من الروايات التي تعرض في أماكن بيع الكتب في اسرائيل. والواقع أن هذا الخوف من الصواريخ التي قد تكون محملة برؤوس كيماوية أكبر من أن يكون مجرد مشكلة تتعلق بالدفاع المدني، بل يمثل تهديداً خطيراً للأمن الوطني الاسرائيلي، ويمثل في الوقت نفسه أحد العناصر المهمة في تحديد ملامح المجتمع الاسرائيلي حالياً، وهو أمر لا بد أن يضعه في حسبانه أي زعيم إسرائيلي قد تسول له نفسه اعلان الحرب على أعداء يملكون القدرة على إطلاق صواريخ يمكن أن تصل الى قلب إسرائيل. وحتى من دون الخوف من اندلاع حرب إقليمية، فإن القادة الاسرائيليين الحاليين يشعرون بأنهم مكبلون بقيود الشعور الشعبي العارم ضد ما يسمى "خيار الحرب"، وهي إشارة الى"الحروب التي يمكن لاسرائيل أن تدخلها باختيارها، وليست مفروضة عليها فرضاً. لم تفكر إسرائيل في الإنسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة إلا بعد إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية الثمانينات. فقد كانت تلك المرة الأولى التي شعروا فيها - خصوصاً من كُتب عليهم أداء الخدمة العسكرية الإلزامية في قطاع عزة آنذاك - بفداحة ثمن الحكم المباشر للفلسطينيين. وحذر رئيس الوزراء السابق ايهود باراك مراراً - في سياق شرحه لاستراتيجته في التفاوض مع خصوم الدولة العبرية - من أن رفض الفلسطينيين مساعيه الدؤوبة لإحلال السلام قد يعني إستعداد الإسرائيليين لبذل ما قد يفوق طاقتهم للاستمرار في النزاع مع العرب. غير أن شارون وحلفاءه يبدون أقل استعداداً من خصومهم السياسيين لقبول الحقيقة المتمثلة في أن الاسرائيليين لم يعودوا ينقادون كالقطيع لحماية "الخطوط الحمر" التي وضعها قادتهم في السابق. ويقول ايهود أولمرت عمدة القدسالمحتلة وهو أحد حلفاء شارون: "في اسرائيل خلال الخمسينات يمكن تلخيص هواجسنا العميقة في ست كلمات:"الأفضل أن يموت الإنسان من أجل بلاده"، وهو ما علمناه لأطفالنا. ولكننك إذا قلت شيئاً من هذا القبيل اليوم في مدرسة علمانية فقد يتقدم أحدهم بشكوى في التو ليتهمك بالدعوة الى الحرب والعنف". إن شارون وحلفاءه الأشد يمينية منه يتطلعون الى بطولات تلك الأيام الغابرة، والى الحرية التي تسمح لهم بلا خوف من المعارضة الشعبية بإطلاق آلة المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ضد خصوم إسرائيل. وليس من المحتمل أن تكون لدى شارون - وهو في الثانية والسبعين من عمره - أفكار جديدة بعد توليه رئاسة الحكومة، غير أنه يريد إعادة فرض قوة الردع التي يعتقد بأن إسرائيل فقدتها في عصر الصواريخ، وأهدرها باراك في مسعاه الى التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. ويرى أن بالإمكان السيطرة على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال القيام بعمليات كوماندوز على غرار التي نفذت في الخمسينات، بل في السبعينات حين نجح شارون نفسه في استخدامها لازالة الجماعات الفلسطينينة من غزة. والواقع أن شارون - أسوة بمن سبقه من الزعماء الاسرائيليين - سيجد نفسه غير قادر على أن يتحدى بسهولة الإجماع الشعبي في إسرائيل. فقد اضطر الى النأي بنفسه عن حليفه في الدعوة الى إعادة فرض قوة الردع الاسرائيلية الذي نادى بقصف طهران والسد العالي في مصر. وعلى رغم أن شارون كان أحد القادة الاسرائيليين القلائل الذين تحدثوا علناً عن تخطيط إسرائيل للهيمنة على المنطقة من المغرب الى باكستان، إلا أنه يبدو أنه استوعب نبض الشارع الاسرائيلي عشية الانتخابات الاخيرة. إذ إن الإسرائيليين يفضلون شارون "جديداً" وقوياً، لكنها قوة الجد الصارم، وليس المحارب الجسور الذي يملك الخرائط الإلهية التي توضح حدود أرض إسرائيل. وإذا كان شارون ليس واثقاً من أن إسرائيل ستنتصر في معركتها من أجل الإحتفاظ بسيطرتها على المسجد الأقصى الشريف والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، فإن إسرائيليين كثراً يأملون بألا يقودهم الى حرب ضد سورية أو لبنان أو مصر أو إيران