توفيت والدة زوجتي في آب أغسطس الماضي عن عمر يناهز 96 عاماً. وعلى رغم أنها أسلمت الروح في مستشفى يبعد عن منزلنا نحو ثلاثة كيلومترات، فإن الكلاب الثلاثة التي نعتني بها في دارنا أدركت أجواء الحزن التي خيمت على الدار يومذاك. ولم تتناول وجباتها طوال اليوم. ومنذ الهجمات الانتحارية التي تعرضت لها واشنطنونيويورك في 11 أيلول سبتمبر الماضي، أخذت كلابنا تتناول قدراً أقل من طعامها في كل وجبة، وتبدو شديدة الحرص على أن تكون قريبة منا، ما أمكنها ذلك. أسررت لجارينا في السكن اللذين لكل منهما كلاب يرعاها، بما لاحظته على كلابي الثلاثة، فأكدا لي أن كلابهما تتصرف بالطريقة نفسها منذ أحداث 11 أيلول! سكان واشنطن ليسوا وحدهم في الشعور بأن المدينة تخضع لحصار، حتى حيواناتهم الأليفة غدت تدرك الحصار والقلق والخوف الذي يحيط بها. ولا بد أن كلاب واشنطن - مثل حمير أفغانستان وأغنامها - تعرف على الدوام ما يملأ الأفق من خوف ومخاطر. هاجس الرسائل في مكتب البريد القريب من منزلي، يرتدي مدير المكتب ومساعده ومساعدته قفازات بلاستيكية صفراء للتعامل مع الرسائل والطرود البريدية. لكن المكتب خاو ممن يرتادونه عادة. الجميع يعلمون أن الرسائل والطرود لم تعد تأتي الى المكتب مباشرة، بسبب إغلاق مكتب الفرز والتوزيع الرئيسي في واشنطن، ومركز البريد الجوي القريب من بلتيمور. كنت أتلقى - عادةً - ما يراوح بين 150 و200 رسالة وطرداً كل أسبوع. غير أنني لم أتلق، منذ توسع نطاق خطر الرسائل المفخخة بمسحوق جرثومة "الأنثراكس"، سوى عدد من كل من "الوسط" و"ذي إيكونوميست"، و"تايم"، و"أسبوع الطيران"، و"نيوزويك"، إضافة الى خمس رسائل مما تزج به الشركات والمصانع الى المستهلكين ليهرعوا الى شراء منتوجاتها. لم أتلق خطاباتي المعتادة. لا فاتورة ... ولا صكوك مالية! البيت الأبيض لم يتلق - حتى اواخر الشهر الماضي - بريده المعتاد منذ أكثر من أسبوع. فمنذ أن أكد الأطباء إصابة امرأة تعمل في قسم، في مكتب البريد، يعنى بفرز الرسائل الموجهة الى البيت الأبيض، بداء "الجمرة الخبيثة"، تقرر تحويل بريد البيت الأبيض الى منشأة في ولاية أوهايو توجه فيها مواد إشعاعية على الرسائل والطرود البريدية لقتل جرثومة "الأنثراكس". الطريقة نفسها التي تستخدم في قتل الخلايا السرطانية التي تصيب العظام! وحيثما التفت المرء رأى العلم الأميركي. في كل مكان ... السيارات والشقق السكنية والمنزل. معظم هذه الأعلام صنع في الصين. وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" في صفحتها الإقتصادية الى أن الصين تلقت لتوها طلباً بتصنيع 900 ألف علم إضافي. انه مسعى ينم عن التحدي بوجه الكراهية التي تُقابل بها أميركا على نطاق واسع. غير أن التشاؤم والتوتر اللذين ذهبا بشهية كلابنا الثلاثة ملموسان بشكل واضح في شوارع واشنطن. كم كان الرئيس حسني مبارك حكيماً حين أبلغ صحيفة "واشنطن بوست" منذ أيام ب "ان الحرب على الارهاب أشد إثارة لعدم الاستقرار من الحرب الحقيقية، لأنه لا يوجد هنا خط أمامي". لكننا، على كل، نشعر بأننا أضحينا خط المواجهة الأمامي. ومثلما لقي الطيارون الحربيون الذين نجوا من المشاركة في "معركة بريطانيا" مصرعهم وهم يشاهدون المسرحيات الهزلية في المسارح التي تعرضت للغارات الجوية، فإننا نعيش مزيجاً مثيراً من الحاضر المفزع المفعم بالمخاطر، والماضي الذي كان سائداً قبل 11 أيلول. ضغطت على زر تشغيل مذياع السيارة. أعلن المذيع نبأ العثور على رسائل تحتوي مسحوق "الأنثراكس" في مقر وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية سي.آي.اىه الذي لا يبعد عن واشنطن أكثر من 30 كيلومتراً. في نهاية نشرة الأخبار بُث إعلان تجاري يحض المستمعين على التعجيل بشراء سيارة من إنتاج شركة "تويوتا". إنه الإعلان نفسه الذي ظللنا نسمعه من المذياع مرة كل ساعة طوال اليوم. لا بد أن الشركة التي تقف وراءه دفعت قيمة بثه قبل أسابيع عدة. ولكن لماذا يمكن لأي فرد في واشنطن أن يفكر بشراء سيارة جديدة؟ صحيح أن سوق الأوراق المالية إنتعشت شيئاً ما، ومن الواضح أن ثمة أسهماً تستقطب المستثمرين، كأسهم الشركات المتخصصة في الصناعات العسكرية، وأسهم شركات التكنولوجيا المتقدمة، والأبحاث الطبية. غير أن كل شركات الطيران في الولاياتالمتحدة تلحق بها خسائر فادحة، لأن السكان ما عادوا يقبلون على السفر. ليس لأنهم باتوا يخشون عمليات الاختطاف، ولكن لأن العائلات - مثلما حدث حين تعرضت لندن لغارات المقاتلات الألمانية في عام 1940-1941 - تريد أن يبقى جميع أفرادها في مكان واحد ليموتوا معاً، إذا اقتضى الأمر. تراجع طلبات الطلاق جميع سكان واشنطن سمعوا قصة مندوب المبيعات الذي قررت إدارة الشركة التي يعمل فيها أن توفده الى فلوريدا لبضعة أيام، فرفض متذرعاً بأنه يريد أن يبقى أطول وقت ممكن بالقرب من زوجته وأطفاله، فقررت الشركة فصله من عمله نهائياً. طبيعي، ما دام الرجل أميركياً ومن سكان واشنطن، أن يكون رد فعله الأولي على قرار فصله من العمل تكليف محاميه مقاضاة الشركة، معتبراً أنه فصل بطريقة تعسفية من وظيفته. وقال إنه واثق من أنه سيكسب دعواه ضد مخدوميه. هل هو وحده في تلك الرغبة الجامحة في البقاء مع أسرته؟ وكالة أنباء محلية ذكرت أن 40 في المئة من طلبات الطلاق في منطقة هيوستن تم سحبها من المحاكم! يبدو أن الخلافات الشخصية تبدو تافهة حين يكون المرء مواجهاً بخطر الموت بداء الجمرة الخبيثة، أو الجدري الكاذب، أو الطاعون. هيوستن ليست قريبة منا. وفي أمثالنا وحكاياتنا المحلية في واشنطن نقول دوماً: هيوستن؟ من أي شيء بحق السماء يشعرون بالقلق في هيوستن؟ ليس الفزع من جرثومة "الأنثراكس" والهجمات الانتحارية وحده ما يعزز عقلية الحصار هنا. كيف يبدو الأمر لو كنت مسلماً أو عربياً في أميركا؟ أو على الأقل تبدو ملامحك قريبة الى العرب أو المسلمين؟ ذكر مسؤولو مكتب التحقيقات الفيديرالي اف.بي.آي. أن أكثر من 400 "جريمة كراهية" وقعت منذ 11 أيلول بحق مسلمين أو عرب. بالمناسبة، نحو 80 في المئة من عرب أميركا مسيحيون. ولم يخضعوا لتلك الجرائم وحدهم، حتى السيخ وهنود أميركا اللاتينية وأقباط مصر تعرضوا للكراهية العنصرية ظناً من مهاجميهم بأنهم عرب أو مسلمون. وأسفرت تلك الجرائم عن مقتل خمسة أشخاص. لكن مكتب التحقيقات الفيديرالي يقول الآن إن جرائم الكراهية أخذت تنحسر. وذكر مسؤولو المكتب في ولاية كاليفورنيا، الأكثر تنوعاً عرقياً في الولاياتالمتحدة، في 25 تشرين الأول أكتوبر الماضي إنهم لم يتلقوا بلاغات عن وقوع جرائم من ذلك القبيل منذ أكثر من أسبوع. وأعلنت السلطات أن رجلاً من بلدة ميسا، في ولاية أريزونا، قتل سيخياً يمتلك محطة محروقات، وأصاب مسيحياً لبنانياً بجروح، سيمثل أمام المحكمة. وقال المدعي العام إنه سيطلب من المحكمة أن تحكم عليه بالإعدام. تقول الإدارة الأميركية إنه ليس هناك سوى ثلاث دول تنتج مسحوق "الأنثراكس" المعد للاستخدام العسكري، وهي أميركا وروسيا والعراق. غير أن نتائج التحليلات المعملية تشير حتى الآن الى أن "الأنثراكس" المرسل عبر نظام البريد أميركي الأصل. أي أن وزارة الدفاع الأميركية أنتجته في مختبراتها في سياق خططها الرامية الى التصدي لأي حرب بيولوجية. وقد أدى ذلك كله الى تقارب بين واشنطن وموسكو وبيكين. وأكد الرئيس جورج دبليو بوش لنظيره الروسي فلاديمير بوتين أنه سيعلق الى أجل غير مسمى خطته الرامية الى إلغاء المعاهدة التي أبرمها البلدان العام 1972 للحد من إنتاج الصواريخ الباليستية، لتنصب بدلاً من ذلك درع ضد الصواريخ المزودة رؤوساً نووية. ولكن إذا كانت الولاياتالمتحدة قد وجهت أصابع الإتهام الى أسامة بن لادن وشبكة "القاعدة" التي يتزعمها في ما يتعلق بالهجمات الإنتحارية التي دمرت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وقسماً من مبنى وزارة الدفاع البنتاغون في واشنطن، فهي لم توجه اصبع الاتهام حتى الآن الى أي جهة في شأن إرسال مسحوق الأنثراكس، الذي يعتقد على نطاق واسع أنه محلي الأصل. لو قيل إن هذه "الأغلوطة - اللغز" تثير حيرة الأميركيين، فسيكون ذلك دون الحقيقة بكثير. كنت قد واجهت، قبل ايام، صعوبات في استخدام خط الهاتف الموصول بجهاز الفاكس. أبلغت شركة الهاتف، فانتدبت فنياً ليعالج المشكلة. انتقلت قرب الأثاث لأحدد للفني مكان سلك الهاتف. أزحت منضدة لاحظ الفني أنني أضع فوقها عدداً من أغلفة "الوسط". دنا مني، وقال بصوت منخفض: هل تعتقد بأن مكتب التحقيقات الفيديرالي يراقب جهاز الفاكس الخاص بك؟ أوضحت له طبيعة عملي، وضحكنا، وزال التوتر الذي ارتسم فجأة على وجه الرجل. حتى الصحافة المتخصصة في الكاريكاتير والنكات والقضايا غير الجادة لم تعد تجد مادة منوعة تجعل قراءها يقبلون على شرائها. لم يعد المزاح من سمات سكان العاصمة الأميركية. وربما كانت أكبر مزحة سمعوها أخيراً هي حكاية التلاميذ الذين قرروا أن يرسلوا خطاباً وضعوا داخله مسحوق أقراص الاسبيرين الى معلم يكرهونه! هذه الأشياء وغيرها تزيد الشعور الوطني تعقيداً وتكبيلاً. ولم يعد من السهل الجهر بكل ما يشعر به المرء أو ما يفكر به. يتفهم الليبيراليون الأميركيون الكراهية التي تثيرها "الغطرسة" الأميركية خارج الولاياتالمتحدة. لكنهم لا يجرؤون على قول ذلك، لأن من يستمعون إليهم سيتهمونهم، في الحال، بتأييد هجمات 11 أيلول أو رسائل "الأنثراكس". أما المهاجرون الذين لاذوا بأميركا من الأوضاع السيئة والحروب الدائرة في الهندالصينية أو اميركا الجنوبية، فإن كثيرين منهم يتساءلون في حيرة: أما كان الأفضل لنا مما نحن فيه الآن أن نبقى في أوطاننا ونرزح في فقرنا؟ والواقع أن البطالة آخذة في الزيادة. وعلى رغم انتعاش أسواق المال وأسعار الأسهم، تعاني شركات وقطاعات إقتصادية كثيرة. ليست شركات الطيران وحدها. على الأقل لم يعد ثمة عمل تقوم به الشركات المتخصصة في ترويج السلع عبر الرسائل البريدية. وكذلك الشركات التي تبيع السلع عبرالبريد. ولا تزال ثمة مخاوف من استمرار وجود جرثومة "الأنثراكس" في مباني الكونغرس. ويتردد أن أعضاء الكونغرس سيتداولون ويصوتون على قراراتهم من خلال موقع على شبكة الانترنت. هل ثمة جدية في ذلك؟ ومع ذلك تواصل الإذاعة بث الإعلانات التي تدعو المستمعين الى شراء البضائع. ولا يزال مذيعو الرياضة يذيعون نشراتهم المتخصصة غير عابئين بمعرفة مستمعيهم أن نصف مساحات الملاعب غدت خاوية، لإدراك العامة بأن تلك الساحات هدف سهل لأي هجوم إرهابي. وإذا كنت مستعداً لنسيان مخاوف "الأنثراكس" وغاز الأعصاب والطاعون، فهذا هو أنسب وقت لزيارة واشنطن. فقد زارها أخيراً الصحافي الاسرائيلي يوري أفنيري وزوجته، وأقاما في جناح في فندق يضم غرفة للنوم وصالوناً وحماماً ومطبخاً صغيراً في مقابل 89 دولاراً فحسب لليلة الواحدة! وبحكم أنني روائي، أستطيع أن ألمس أن هذه الفترة يمكن أن توفر مادة خصبة لجيل الروائيين الذين سيتلوننا. ولكن ماذا سيحدث إذا لم يحصل شيء؟ أعني إذا كتب لنا جميعاً البقاء، إذ إن السياسيين يذكّروننا في كل كلمة يلقونها، أو تصريح يدلوا به، بأن خمسة أشخاص فحسب راحوا ضحية لجرثومة "الأنثراكس" هذه السنة التي شهدت حتى الآن وفاة 40 ألف أميركي نتيجة الإصابة بنزلة البرد العادية! وحين أنعم الأمير هاري - نجل ولي عهد بريطانيا - بلقب فارس فخري على رودي جولياني عمدة نيويورك، تقديراً لجهوده في البحث عن جثث 297 بريطانياً لقوا مصرعهم تحت أنقاض برجي مركز التجارة العالمي، قال الأخير: "ظلت لندن تتعرض للقذائف الألمانية كل ليلة أكثر من عام. نحن لم نتعرض لأكثر من هجوم. لذلك لا بد أن نعود الى الجدية في أعمالنا". في عقر دارها مشكلة أميركا تكمن في أنها لم تتعود أن تتلقى الهجمات في عقر دارها. فحين أغرقت غواصة ألمانية السفينة الأميركية "لوزيتانيا"، العام 1917، إنضمت الولاياتالمتحدة الى الحرب العالمية الأولى لتساهم في إلحاق الهزيمة بالألمان. وحين هوجم ميناء بيرل هاربور، سنة 1941، دخلت الولاياتالمتحدة الحرب العالمية الثانية وساعدت بريطانيا والاتحاد السوفياتي ودولاً أخرى على كسب الحرب. وها هو الرئيس بوش يقول إن أميركا تخوض حرباً الآن، فيما يقول أسامة بن لادن إن الأميركيين لن ينعموا بالأمن ما دام الفلسطينيون محرومين منه. رأى أصغر أبنائي، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، أن الأنسب لصحتي وسني أن أتمتع بعطلة لا تقل عن أسبوع في جزر الانتيل الفرنسية، حيث الطقس صحو، والطعام لذيذ، ولن تواجهني مشكلة في التحدث مع الأهالي بالفرنسية. وأكد لي أنه سينتقل الى منزلنا بعد سفري ليعتني بكلابنا الثلاثة. قلت له: "يا بني... ظللت أعنى بتربية الكلاب منذ زمن طويل. وهي ستفهم أن ثمة خللاً، لا تستطيع تحديده، جعلنا نقدم على هجرها، لتستمر في إعراضها عن وجباتها". وبطريقة أو أخرى، يشعر الأميركيون بالارتباك نفسه الذي سيجتاح كلابنا!