مذ وقعت أحداث 11 أيلول سبتمبر في نيويورك وواشنطن حدد لبنان، بالتفاهم مع سورية، خيارات مواجهة المرحلة التي ستلي الهجمات الارهابية. ومن غير ابراز تناقضات في الموقف الرسمي اللبناني بدا واضحاً وجود ما يشبه تقاسم الأدوار بين رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس الوزراء رفيق الحريري. على ان قاعدتي خيارات الدولة اللبنانية تركزتا على الآتي: 1- مراقبة الوضع الأمني بكل دقة ومنع اي محاولة استغلال مشاعر مذهبية أثارتها تلك الهجمات خصوصاً تصريحات زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن التي تلقى آذاناً صاغية في بعض الأوساط الأصولية المتشددة في بيروت وطرابلس والضنية وصيدا وعكار. ولذا كانت مهمة الأجهزة الأمنية استدعاء مسؤولي التنظيمات التي تعكس وجهة نظر تلك الأوساط وتحذيرها من اي مسعى لتحريك الشارع او اثارة نعرات مذهبية او التسبب بقلاقل تتعرض للأمن، كالدعوة الى التظاهرات والاعتصامات غير المرخصة. وأبلغت اليهم وجود قرار لبناني رسمي يدعمه السوريون سيواجه بالقوة اي تحرك من هذا النوع. والواضح ان هذا التحذير ترك أثره لدى تلك التنظيمات فقصرت نشاطاتها على ابداء مواقف تدين الحملة العسكرية على أفغانستان من غير اتسامها بأي منحى تحريضي. في غضون ذلك كانت الأجهزة الأمنية تراقب تلك التنظيمات في اشارة صريحة الى فحوى القرار اللبناني - السوري، وهو عدم السماح في هذه المرحلة من التطورات الدولية المتلاحقة والخطيرة بتوجيه الانتباه الى نشاطات أصولية متطرفة في لبنان لا تتلاقى في أي حال مع توجهات السلطة اللبنانية وخياراتها. 2- تسليم لبنان بالانضمام الى الحملة الأميركية لمكافحة الارهاب بتأكيده تنديده بهجمات 11 أيلول وبإظهار رغبته في التعاون مع الأميركيين، لكن من خلال مرجعية الأممالمتحدة لهذه الحملة. وهو الموقف السوري ايضاً. على ان المسؤولين اللبنانيين كانوا معنيين، في المقابل، بالاصرار على موقف واضح ليس في وسعهم تجاوزه وهو ضرورة التمييز بين الارهاب والمقاومة، في اشارة واضحة الى الاميركيين بأن الدولة اللبنانية ترفض توجيه اي تهمة بالارهاب الى "حزب الله" كونه مقاومة مسلحة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لما تبقى من الأراضي اللبنانية الواقعة تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي. وتالياً فإن تمسك لبنان برفض اي ادانة للحزب هو في الواقع تمسك باستمرار مقاومة الجيش الاسرائيلي في الجنوب. ولذا كان من الضروري بلورة موقف رسمي لبناني واضح ومتماسك هو ما تبلغه في الأسابيع الأخيرة السفير الأميركي في بيروت فنسنت باتل وسفراء أجانب آخرون في مناسبات مختلفة من أكثر من مسؤول لبناني، ومفاده ان انضمام لبنان الى حملة مكافحة الارهاب كامل وتعاونه واضح، الا ان هذا البلد يرفض اي ربط بين هذه الحملة والنزاع العربي - الاسرائيلي، ومحاولة دمج بين الأمرين بغية التوصل الى خلاصة يتحفظ عنها لبنان بشدة، وهي اتهام "حزب الله" بالارهاب بسبب هجماته على اسرائيل. وذهب الموقف اللبناني الى التأكيد اكثر ان مقاومة اسرائيل هي خيار الدولة اللبنانية التي ترفض التجاوب مع اي خطة من شأنها ادانة حزب لبناني هو في مواجهة مسلحة مع اسرائيل. وكان هذا الموقف في صلب ما تبلغه باتل قبل اسبوعين بعد اعلامه السلطات اللبنانية باللائحة الأميركية التي أدرجت 22 تنظيماً من بينها "حزب الله" ووصفتها بأنها تنظيمات ارهابية. طبقاً لهاتين القاعدتين كان لبنان في صلب الحملة الأميركية ضد الارهاب بسبب تمييزه بين الارهاب والمقاومة، لكنه كان من أكثر البلدان عرضة لهجمات ارهابية في سنوات الحرب اللبنانية في ظل انهيار السلطة المركزية آنذاك. والواقع ان المسؤولين اللبنانيين لم يتأخروا في تقديم المعلومات الأمنية اللازمة لفريق العمل الأميركي، خصوصاً للملحق الأمني في السفارة الأميركية في بيروت، عن تنظيمين يعتبرهما لبنان ارهابيين ويتواجدان على أرضه لكن في منطقة خارج سيطرته عليها هي المخيمات الفلسطينية في عين الحلوة في الجنوب والبارد والبداوي في الشمال، هما تنظيم "القاعدة" وتنظيم "عصبة الأنصار" الاسلامية، وكلاهما أصوليان متطرفان صدرت في حق عدد من اعضائها مذكرات توقيف قضائية غيابية بسبب ارتكابهم جرائم فلجأوا الى هذه المخيمات التي يتعذر على السلطة اللبنانية دخولها لدوافع تتصل بالنزاع العربي - الاسرائيلي. على ان ما بدا مثيراً للاهتمام لدى المسؤولين اللبنانيين، بعد تجاوز مرحلة تزويد الأميركيين المعلومات الأمنية الضرورية عن الارهاب، تبلغهم من السفير في بيروت ومن قنوات ديبلوماسية عدة ان الادارة الأميركية ليست في وارد توجيه اي اتهام الى "حزب الله"، وهي على رغم احتفاظها بذاكرة مؤلمة لعلاقتها مع "حزب الله" منذ عام 1983 أثر تفجير مقر السفارة في عين المريسة وتدمير مقر "المارينز" قرب مطار بيروت ومقتل نحو 243 جندياً أميركياً، الا انها لا تجد الوقت ملائماً للخوض في هذا الموضوع، لكن من غير ان تنسى هذا الملف المؤلم. علماً ان "حزب الله" - وهذا ما ذكره المسؤولون اللبنانيون للسفير باتل في أوقات متباعدة - لم يكن قد تأسس عام 1983، كما ان تلك الهجمات الارهابية أعلنت "منظمة الجهاد الاسلامي" مسؤوليتها عنها فور حصول تلك الاعتداءات وبالتأكيد فإن وجود أعضاء في "منظمة الجهاد الاسلامي" آنذاك أصبحوا في ما بعد أعضاء في "حزب الله" لا يعني ان تنفيذ تلك الهجمات كان قرار "حزب اللله" التي لم تنشأ قيادته الفعلية الا بدءاً من عام 1992، مع انتخاب عباس الموسوي أميناً عاماً له، وحدد الحزب منذ ذلك الحين مهمته بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب اللبناني. والواقع ان المسؤولين اللبنانييين بدأوا يلمسون في المدة الأخيرة من خلال اللوائح الأميركية وتناولها أما أسماء لبنانيين مشتبه في تورطهم في هجمات ارهابية أو تنظيمات لبنانية ك"حزب الله" مسعى أميركياً الى تسييس حملة مكافحة الارهاب وصرفها عن مهمتها الرئيسية التي هي ملاحقة تنظيم "القاعدة" وزعيمه ابن لادن المسؤول عن الهجمات الارهابية على نيويورك وواشنطن وتوجيه ضربة عسكرية الى أفغانستان التي تؤويه، الى محاولة ربط هذه الحملة بالنزاع العربي - الاسرائيلي، وهما مشكلتان مستقلتان لا ترابط بينهما. وتالياً اعتقاد المسؤولين اللبنانيين بأن ثمة محاولة لاحراج لبنان عبر ادانة حزب لبناني يحظى بدعم كامل من الدولة اللبنانية. الأمر الذي حمل هؤلاء المسؤولين على تجاهل اللائحة الأميركية الأخيرة من جهة، وتأكيد رفضهم ربط النزاع مع اسرائيل بحملة مكافحة الارهاب، واستطراداً رفضهم أي محاولة مطابقة بين "حزب الله" وتنظيم "القاعدة"، مع ان الأميركيين في اللائحة الأخيرة بدوا أكثر اهتماماً بتوجيه الانتباه الى "حزب الله" على انه تنظيم يموّل هجمات ارهابية. وهذا ما عناه طلب اللائحة والسفير الأميركي من السلطات اللبنانية تجميد أرصدة الحزب في لبنان، فرفضت على نحو قاطع. في خضم هذا الواقع سلك رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء خطين متوازيين في التعامل مع نتائج ما بعد 11 أيلول، على انهما خطان ينطلقان من قواعد واحدة هي التي أعلناها تكراراً لجهة ادانة الارهاب وتأكيد ارادة التعاون مع حملة مكافحته. ففيما يحرص لحود دائماً على ابراز ثوابت الموقف اللبناني بدعم المقاومة واعتبارها احدى الوسائل المشروعة التي قررتها الحكومة اللبنانية لتحرير أراضيها المحتلة وتفويضه الى فريق قريب منه ادارة ملف الارهاب بجوانبه الأمنية والسياسية، كانت العلامات الفارقة في تحركات الحريري اتخاذه مواقف بدت متقدمة للغاية في دعم الحملة الأميركية عندما رفض تصريحات بن لادن واعتبرها تنال من الإسلام ولا تعبر عن الموقف السياسي للدول العربية والإسلامية، كما انها تنحو بالصراع مع الارهاب في اتجاه تحريضي ومذهبي يرفضه العرب والمسلمون. وهي مواقف لم يقل بها رئيس الجمهورية على انها أكسبت الحريري دعماً كاملاً سواء بترجمتها الفعلية عبر استقرار الشارع الذي لم يجارِ الدعوات التحريضية لبن لادن او من خلال التعاون المشروط مع الأميركيين، وهو في الواقع دعم مطلق ما لم يمس المقاومة او يتعرض لها. وكان واضحاً ان ما ينادي به الحريري في تحركاته الخارجية هو جزء من موقف عربي عام يرفض الارهاب ويتنصل من الأصولية المتطرفة الا انه يتمسك في المقابل بدفاعه عن القضية الفلسطينية وبالدعوة الى تسوية شاملة وعادلة. وهي في المقابل الطريقة الوحيدة لاستيعاب الشارع الاسلامي اللبناني وتوجيهه في منحى دعم خيارات الدولة اللبنانية