«طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    فعل لا رد فعل    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" في غابة أسرار المجال الخارجي ل "الجبهة الشعبية" . رعونة عيدي أمين حولت عنتيبي كارثة وحداد تفقد المطار قبيل وصول الإسرائيليين - وديع حداد ويوري أندروبوف في موسكو : نقاش حول السلام والإرهاب وأسلحة خاصة 5
نشر في الحياة يوم 01 - 10 - 2001

كانت الاستخبارات السوفياتية حاضرة في الشرق الأوسط في السبعينات. وتكاثرت على طاولات المسؤولين فيها التقارير عن الدكتور وديع حداد، خصوصاً بعدما تحول "المجال الخارجي" نقطة جذب لمجموعات ثورية متعددة الجنسيات. لم يقبل حداد يوماً بوضع "المجال الخارجي" في تصرف هذه الدولة أو تلك. وربما من هنا نبعت أهميته وخطورته معاً. كانت موسكو بدأت رحلة الانفراج مع واشنطن وكان ملف "الإرهاب" مثاراً ومطروحاً. في هذه الأجواء أجرى السوفيات اتصالاً انتهى بلقاء في موسكو بين وديع حداد ورئيس ال"كي جي بي" يوري أندروبوف في أيلول سبتمبر 1974. للمرة الأولى يؤكد الذين كانوا الأقرب إلى حداد حصول اللقاء وما دار فيه، وأن اندروبوف وافق على طلب وديع الحصول على "أسلحة خاصة وذخائر خاصة" تسلمها "المجال الخارجي" لاحقاً في البحر قبالة عدن.
لم تغير الزيارة قناعات حداد أو نهجه. وفي أواخر العام 1975 سيسدد حداد ضربة مدوية عبر احتجاز وزراء نفط "أوبك" في فيينا. في 1976 كان حداد غادر بيروت. لم يكن مؤيداً لتحول المنظمات الفلسطينية مجموعة جيوش علنية منتشرة في لبنان ومحصورة فيه. وها هي المقاومة تغرق في الحروب اللبنانية وتدخل في مواجهة مع سورية.
في تلك السنة كان حداد مجتمعاً مع الرئيس الصومالي محمد سياد بري في مقديشو. وكانت العلاقة "شهر عسل" سمح للقائد الفلسطيني أن يكاشف بري برغبته في خطف طائرة لإرغام إسرائيل على الافراج عن عدد من الأسرى. الواقع أن حداد كان يبحث عن مطار يستقبل الطائرة المخطوفة. اقترح الرئيس الصومالي على حداد الاتصال بالرئيس الأوغندي عيدي أمين الذي تردت علاقاته مع إسرائيل وأوروبا. وهكذا كان. وللمرة الأولى سيتضح في هذه الحلقة لماذا اختيرت عنتيبي. وافق عيدي أمين. وفي 26/6/1976 خطف "المجال الخارجي"، بمشاركة عضوين المانيين في "الخلايا الثورية"، طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية بعد توقفها في أثينا في طريقها من تل أبيب إلى باريس وعلى متنها 77 إسرائيلياً.
رافق حداد مجريات العملية من مكان قريب من المطار ومن مقر إقامة عيدي أمين وكان على اتصال دائم معه. رعونة الرئيس الاوغندي أدت إلى اطالة أمد المفاوضات، وكذلك مغادرته إلى قمة منظمة الوحدة الافريقية. لم يأخذ عيدي أمين باقتراح حداد توزيع الرهائن في مجموعات في الغابات، وراح يطمئن حداد إلى سلامة الاجراءات التي اتخذها الجيش الاوغندي.
في ذلك الوقت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين يوالي اجتماعاته مع وزير الدفاع شمعون بيريز ويقلب الخيارات ومخاطرها قبل أن يطلب من الجيش الإعداد لعملية تدخل في نقطة تبعد أربعة كيلومتر عن إسرائيل. وفي 4 تموز يوليو هبطت الطائرات الإسرائيلية في مطار عنتيبي ونزلت منها سيارة شبيهة بسيارة الرئيس الأوغندي وجنود بثياب الجيش الأوغندي أيضاً. فور اقتراب الطائرات الإسرائيلية حاول حداد عبثاً الاتصال بعيدي أمين، لكن الإسرائيليين كانوا نجحوا في تعطيل كل الاتصالات. ويروي رفاق وديع أنه كان في المطار قبل ساعتين من وصول الإسرائيليين وأنه طلب من الأوغنديين وضع عوائق على المدرج لعرقلة هبوط الطائرات لكنهم لم يفعلوا. كما تمنى وديع أن لا يشارك الألمانيان في عمليات الحراسة تفادياً لاضطرارهما إلى الاشتباك مع الإسرائيلين وما يمكن أن يعنيه ذلك نظراً إلى الحساسيات القديمة بين الألمان واليهود.
تحولت عملية عنتيبي كارثة. خلال أقل من ساعة قتلت القوة الإسرائيلية كل المشاركين في خطف الطائرة واحتجاز الرهائن. أسفر الاشتباك العنيف أيضاً عن مقتل ثلاث رهائن وضابط إسرائيلي هو جوناثان نتانياهو شقيق رئيس الوزراء المقبل بنيامين نتانياهو الذي يقول عارفوه إنه لم ينس لحظة واحدة مشهد جثة أخيه العائدة من عنتيبي. وهنا نص الحلقة الخامسة:
ما هي قصة لقاء وديع حداد مع يوري اندروبوف رئيس ال"كي.جي.بي" آنذاك والامين العام للحزب الشيوعي السوفياتي لاحقاً؟
- كانت علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي من نوع علاقة حركة تحرر بدولة كبرى تعتبر في الخندق نفسه على مستوى النزاع الدائر في العالم. جاءت فكرة اللقاء من الجانب السوفياتي. سبقت ذلك اتصالات بدأها السوفيات معنا عبر الدولة في اليمن الديموقراطي. كان الاتصال مع السوفيات في عدن محدوداً وكان هناك تبادل لوجهات النظر. كان لدينا همّ رئيسي هو ان لا نكون تابعين لأي دولة او جهاز سواء على الصعيد العربي ام على الصعيد الدولي. تنامى الينا ان الجانب السوفياتي كان يطرح على المسؤولين في اليمن الديموقراطي اسئلة تتعلق بوجودنا ونشاطاتنا وهيكليتنا.
في تلك المرحلة تصاعدت الاتهامات الموجهة الى المقاومة الفلسطينية بممارسة الارهاب. طبعاً كان الاتحاد السوفياتي مؤيداً للحق الفلسطيني والعربي لكن للدول الكبرى شبكات مصالح تضطرها احياناً الى التكيف مع سياسات ومطالب وموازين قوى. طرح السوفيات فكرة ان يزور وديع الاتحاد السوفياتي وبدا واضحاً انهم يريدون ان يعرفوا اكثر عن هذه المجموعة التي صار الحديث عنها يتردد في المنطقة والعواصم البعيدة. تكرر طرح الموضوع، وفي النهاية قال السوفيات ان يوري اندروبوف يريد رؤية الدكتور وديع حداد. ناقش وديع الامر مع المحيطين به وكان القرار تلبية الدعوة.
تمت الزيارة في سبتمبر ايلول 1974. استضيف وديع في قصر وسط غابة وجرت بينه وبين الوفد السوفياتي ووديع لقاءات تناولت مسائل سياسية وعسكرية وفنية وتوجت بلقاء مع "رئيس الجهاز" اندروبوف. لم يكن النقاش سهلاً فقد كان الموضوع المطروح هو ما سمي في تلك الفترة ب"الارهاب".
الزائر المتشدد
ترافق هذا النقاش مع سؤال سوفياتي عن موقف وديع من فكرة اقامة دولتين على ارض فلسطين او اقامة شبه دولة الى جانب دولة اسرائيل. لم يكن وديع من النوع السهل الذي يقبل تمرير مسائل تتعارض وقناعاته المبدئية. قال وديع: نحن بلادنا واحدة لا تتجزأ ولم نفكر يوماً في قيام دولتين. دولتنا هي فلسطين وهي الآن محتلة ومن حق الشعب الفلسطيني ان يناضل لتحرير ارضه وانشاء دولته على كامل ارضه. نحن لا نقبل فلسطين ناقصة. يمكن ان نتعايش مع اليهود لكن في فلسطين. يمكن ان نتناقش حول شكل الحكم لكن في فلسطين التي لا تتحمل اي تسمية اخرى. لو عرضت علينا كل فلسطين باستثناء القدس نرفض. ولو عرضت علينا فلسطين كاملة مع القدس باستثناء حيفا لن نقبل.
راح وديع يردد اسماء مدن فلسطينية ثم قال: "انا بلدي اسمها صفد. لا اقبل ان عرضت علينا كل فلسطين باستثناء صفد. وارفضها اذا عرضت مع صفد واستثني منها بيتي. وارفضها اذا عرضت مع صفد وبيتي واستثني منها شبر واحد. هذه هي مواقفنا وهذا هو مشروعنا للتحرير. خطنا هو حرب الشعب الطويلة الامد وسياسة الاستنزاف التي ستؤدي الى اصابة الجسم "الاسرائيلي" القوي بفقر الدم والانهيار".
جرى نقاش طويل حول موضوع الارهاب. قال وديع: لسنا ارهابيين، نحن اكثر انسانية من اي طرف آخر. نحن نحسب حساب الاطفال لكن نعتبر ان اطفال شعبنا لهم الحق في الحياة والخروج من المعاناة. ولا نرى الحل الا بالنضال. جربنا كعرب الحروب الكلاسيكية ولم ننجح. نؤمن ان حرب الشعب الطويلة الامد هي التي يمكن ان توصلنا الى هدفنا. انا لا انكر ان هذه الحرب قد تتسبب احياناً في سقوط ابرياء. ليست هناك حروب نظيفة بنسبة مئة في المئة. ثم ان المجتمع الاسرائيلي معسكر بنسبة تصل الى حوالي 90 في المئة والدليل انه فور اعلان الاستنفار يلتحق كل واحد بقطعته في الجيش. مجتمع من هذا النوع لا يمكن اقناعه بالمفاوضات.
كان هذا الحديث يوم سبت. قال وديع انا اتكلم باسم "الجبهة الشعبية". ليس لدينا حلول وسط. فلسطين كلها للشعب الفلسطيني. قال رئيس الجانب السوفياتي لوديع ان عطلة الاسبوع قد بدأت وسأله ان كان يريد شيئاً ما قبل الاجتماع المقبل. قال وديع: احب ان ارى كيف تسلح الجيش الاحمر وتدرب وكيف حررتم اوروبا ودخلتم الى برلين فهل لديكم افلام وثائقية.
ارسل السوفيات الى وديع اشرطة بينها شريط يصور اقتحام برلين. شاهد وديع الشريط الاخير مرات عدة.
في اجتماع لاحق سئل وديع عن الاشرطة فأجاب انها تجربة رائدة لكل الشعوب لكن اريد مناقشة بعض القضايا. وطلب وديع احضار شريط اقتحام برلين فظهرت الراجمات وهي تمطر برلين بالقذائف بلا انقطاع. وظهرت معالم الدمار. اوقف وديع الشريط وقال لمحادثه: اعتقد انك فهمت وجهة نظري فلكل حرب ضحاياها. فأتى الجواب: الرسالة وصلتني ومفادها ان الحرب هي الحرب فلنقفل النقاش حول هذا الموضوع. رد وديع: نحن نحاول تجنيب الابرياء ويلات الحرب، وكم كان بودنا لو نستطيع العودة الى بلادنا من دون حرب خصوصاً ان عمقنا البشري الفلسطيني ليس كثيراً. انتم اضطررتم الى تدمير برلين للسيطرة عليها.
بعد ذلك سئل وديع اذا كانت لديه مطالب معينة. فرد قائلاً: اعددت قائمة قبل مجيئي. لست طامعاً لكنني محتاج ونريد القائمة كاملة او فلنصرف النظر عنها.
سلّم القائمة وبالفعل قدم السوفيات كل ما طلب.
ماذا حوت القائمة؟
- بعض الاسلحة. رشاشات ومسدسات خاصة. ذخائر خاصة. بعض التقنيات وموقتات.
انتهت الزيارة وبعد فترة تم الاتصال بنا في عدن، وذهبنا الى مسافة نحو ست كيلومترات من الشاطئ وتسلمنا كل الاسلحة التي طلبها وديع.
لم تحصل تتمة لذلك اللقاء وظلت العلاقات عادية وخلال تشييع وديع جاء ديبلوماسي سوفياتي ليسأل عن البديل فقلنا له الآن ليس وقت البحث، ولم تحدث علاقات فعلية بعد ذلك.
ويقول احد المقربين من وديع حداد "ان الملاحظة الاستثنائية التي كانت للدكتور وديع بعد الزيارة هي ملاحظة لافتة جداً حول تطور الصراع العالمي. فقد ذكر ان ما لفت نظره هو انه بينما يتقدم العالم الغربي افقياً فان التقدم في المعسكر الاشتراكي عمودي ومتمحور حول التنافس والتطور العلمي مع المعسكر الغربي الرأسمالي. وهكذا يكون التقدم والتطور العلمي في المعسكر الرأسمالي نتيجة لتطور المجتمع في تلك البلدان بينما التقدم العسكري والتقني في دول المعسكر الاشتراكي هو تقدم رأسي تقوم به الاجهزة والقوى العسكرية ومركز اساساً للتفوق على خصومه وليس ناتجاً عن تطور طبيعي للمجتمعات في تلك الدول، ولا ندري اذا كان هذا التحليل يشكل استباقاً او تنبؤاً بما حسم عليه الصراع العالمي فيما بعد بين المعسكرين".
لماذا اختيرت عنتيبي مكاناً لاستقبال الطائرة المخطوفة؟
- اتخذ القرار بعملية لخطف طائرة وبهدف الافراج عن عدد من المعتقلين. كانت هناك في تلك الفترة علاقة قوية بين وديع حداد والرئيس الصومالي محمد سياد بري. طرح وديع الفكرة على سياد بري الذي نصح بطرح الفكرة على الرئيس الاوغندي عيدي امين مشيراً الى ان الاخير لديه مشاكل كثيرة مع الاوروبيين وقد يكون مستعداً لاستقبال الطائرة. كان وديع يعرف طبيعة عيدي امين والعوامل التي يمكن ان تؤثر فيه. لذلك تم ارسال رجلين ضخمي الجثة للقائه وطرحا معه الموضوع فابدى استعداده. بعد العثور على مكان لاقتياد الطائرة اليه تسارعت الاستعدادات لتنفيذ العملية. كان وديع على ما اعتقد في الصومال وبعد وقوع عملية الخطف انتقل الى عنتيبي للبقاء على اتصال مع عيدي امين.
وضعت جملة من الترتيبات. نقل الركاب الى عنبر في المطار وشارك المبعوثان الى عيدي امين في عملية الاحتجاز الى جانب الخاطفين. طبعاً كان رأي وديع ان يتم توزيع الركاب في اكثر من مكان لتسهل السيطرة عليهم. ودرست الناحية الامنية فحرص عيدي امين على تأكيد ارتياحه الى الاجراءات المتخذة. كانت العملية ناجحة تماماً لكن المفاوضات استمرت اكثر مما ينبغي. حين بدأ الوسطاء يقولون اعطونا المزيد من الوقت شعر وديع ان الاسرائيليين يرتبون شيئاً. اتصل بعيدي امين وقال له ان الوضع بات خطيراً والمطلوب اما توزيع الركاب او تشديد الحراسة. ابدى عيدي امين ارتياحه الى الاجراءات وتحدث عن فاعليتها. كان وديع على مقربة من المطار ومن مقر عيدي امين وكان على اتصال معه.
فجأة هبطت الطائرات الاسرائيلية على طرف المدرج ونزلت منها سيارات جيب عسكرية وسيارة مرسيدس شبيهة بسيارة عيدي امين. سمع وديع صوت الطائرات فرفع سماعة الهاتف للاتصال بعيدي امين فلم يتمكن. حاول مرات عدة فلم ينجح اذ تمكن الاسرائيليون من تعطيل كل انواع الاتصالات. في هذه الاثناء دوى اطلاق النار. دخلوا الى العنبر بعدما قتلوا احد شبابنا الذي خرج مستطلعا وقتل آخر كان يرتاح ليتمكن من العمل لاحقاً. حين دخلوا هاجمتهم الفتاة الالمانية بالقنابل والشاب الالماني بالرشاش. الاثنان من "الخلايا الثورية" وقد قتلا. انتهت العملية بالسيطرة الاسرائيلية واستشهاد رفاقنا.
لم يكن الاسرائيليون على علم بوجود وديع؟
- ربما توقعوا ان يكون في المطار نفسه. لو عرفوا مكانه لهاجموه.
ماذا كان رد فعل وديع على مصير العملية؟
- كانت العملية قاسية جداً. كان متماسكاً في البداية. حين وصل الى عدن كان بالغ التأثير وبكى بحرقة على الرفاق الذين استشهدوا، الحاج فايز وجايل وابو الدرداء عراقي وكذلك على الالمانيين. كانت العملية درساً كبيراً لنا.
ألم يتوقع وديع ان تكون لدى الاسرائيليين القدرة على التدخل عسكرياً؟
- كان ذلك موضوعاً في حسابه. لكن المفاجأة كانت وصولهم من دون ان يشعر بهم احد. تنكر الاسرائيليون في ثياب الجيش الاوغندي ومشوا في المطار من دون ان يتعرض لهم احد.
اسلوب وديع
ماذا تقول عن اسلوب وديع حداد بحكم معايشتك له؟
- وديع حداد انسان بسيط جداً. خياره واضح ولا عودة عنه. رسم كل تفاصيل حياته في ضوء الهدف الذي نذر نفسه للعمل من اجل تحقيقه. يمكن القول ان وديع اختار طريقه باكراً ومشى فيها الى النهاية. لم يتعب ولم ييأس. ولم تدفعه الصعوبات يوماً الى التفكير في الاستقالة او الابتعاد.
رسم الاعلام المعادي لوديع حداد صورة هي ابعد ما تكون عن الحقيقة. قدمه في صورة الارهابي الذي يدير مجموعة من الارهابيين ويبتهج بتوجيه الضربات المؤلمة او الدامية. قدموه كشخص يدير من الظل، وبمشاعر قاسية لا تعرف الرحمة، امبراطورية ارهابية.
كان وديع حداد محارباً صاحب قضية. كان رجلاً صادقاً. يستمع الى محاوره بانتباه وبشغف. يتكلم ببساطة ومن دون تعقيدات. كان طفلاً وعملاقاً وجباراً وحنوناً. صفات كثيرة التقت في شخصية واحدة. كان سخياً الاّ على نفسه. كان زاهداً بكل ما للكلمة من معنى. لم تكن لديه حياة خاصة او اهتمامات شخصية.
ماذا كانت هواياته؟
- كان يحب كرة الطاولة. يهرب احياناً من التعب فيلعب الورق قليلاً ليرتاح ثم يعاود العمل.
كيف كانت مواصفاته؟
- كان مربوع القامة وصحته قوية. لم يكن يدخن الاّ في الفترة الاخيرة. في البداية كان يلعب كرة القدم مع شبان المخيمات.
ماذا كان يثيره؟
- كان ينزعج من الخطأ والفوضى والكسل. زجاجة مكسورة ومتروكة على الارض كانت تغضبه لأنه كان يعتبر ان الشعور بالمسؤولية يجب ان يسود لدى الجميع وان اول من يرى الزجاجة المكسورة يجب ان يلمها. كان وديع هادئاً ومتوازناً ومنظماً. لم يكن ينسى والدة شهيد من الشهداء خصوصاً ابناء الطلائع الاولى، على رغم قلة الامكانات كان يرسل لهم مساعدات.
كان منزله اكثر من متواضع. لم يقبل يوماً اساليب البهرجة والظهور. حمّل عائلته تبعات ثقيلة. حمل لزوجته وعائلته مشاعر حب فياضة لكن وقته كان مكرساً لقضيته على رغم محاولته توفير الوقت القليل اللازم لحياته العائلية.
تسامح وبساطة
عملتم مع وديع حداد هل كان لديه اي تعصب ديني؟
- على العكس تماماً. من يكن لديه تعصب لا يسلك الدرب الذي سلكه. كان هاجسه مصير فلسطين التي كان يعتبر ان تحريرها متعذر من دون نهوض عربي شامل. خذ مثلاً. في ايام رمضان كان بعض المسلمين يدخنون او يفطرون كل حسب اسبابه. حبش وحداد لم يحدث ان دخنا احتراماً لمشاعر الآخرين ومشاركة لهم. لم تكن هناك اي تفرقة. كان ينظر الى الدين كمسألة شخصية في اطار علاقة الانسان مع ربه. في فلسطين لم تكن هذه الحساسية الطائفية موجودة. كان الهمّ الاول محاربة الكيان الغاصب. كان التناقض العربي - اليهودي اكبر من اي تناقض آخر.
هل كان يشرب ويغني ويرقص؟
- في ساعات الراحة والاجواء الجيدة كنا نضع الخبز في الفرن ونضع معه الجبنة ثم نجتمع ونأكل. كان وديع يبدو مسروراً واحياناً كان يغني على "دلعونا" او يشجع الآخرين على الغناء.
من كان يحب من المطربين والمطربات؟
- وديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح وفيروز. كان يحب المواويل. اما حين كانت الامور معقدة قليلاً فكان يستمع الى اغاني الشيخ امام: "رجعوا التلامذة يا عمي حمزة" و"يا بهية" و"بصراحة يا مستر ميكي". كان يحفظ اغاني الشيخ امام ويرددها. انه رجل طبيعي. يفرح ويحزن. يبتهج ويتألم. هكذا كان سلوكه في مقره او المعسكر او السيارة او الطائرة.اكلته المفضلة الكوسى المحشي. كان يعتبرها الطبق المفضل. وكان يحب المجدرة المحمرة والعظام المسلوقة. لم تكن لديه طلبات خاصة. لكن حين كان يعود من السفر كان يفضل ان يكون الكوسى المحشي حاضراً. في بداية الاكل كان يقول باسم الله. وفي ختام الاكل يقول: "نشكر الله هيدي لقمة حلوة". مهما كان الاكل. اذا وجد كسرات خبز مرمية ينزعج. يعتبر ان فقيراً كان يمكن ان يستفيد منها. والامر نفسه اذا وجد ارزاً مرمياً. كان يكره التبذير.
لم يكن وديع يهتم بلباسه. كان رفاقه يشترون له الثياب حين يوصيهم. لم يكن يرتدي بزة رسمية حتى ولو التقى قياديين او مسؤولين. كانت لديه جاكيت جلد عاشت معه سنوات طويلة ولبسها في رحلته الى موسكو.
متى رأيته يبكي او عرفت انه بكى؟
- المحطة التي ابكت وديع وابكتنا كانت استشهاد الدكتور باسل الكبيسي عراقي كان عضواً في حركة القوميين العرب على يد "الموساد". كانت علاقتهما وثيقة وكان الكبيسي يؤدي دوراً مميزاً في مساعدة "المجال الخارجي". اغتيل الكبيسي فحزن وديع بشدة. المرة الثانية بعد عملية عنتيبي بكى في منزله حزناً على من استشهدوا فيها. المرة الثالثة التي بكى فيها بمرارة كانت في بغداد بعد لقاء مع الدكتور حبش. التقيا وتصارحا واحتد النقاش بينهما. شعر وديع ان الفراق قد وقع فبكى كالطفل حين عاد الى مقره. كان ذلك في 1976.
اي بلدان زار وديع؟
- لبنان، سورية، الاردن، العراق، مصر، الصومال، اوغندا، الجزائر، ليبيا، الاتحاد السوفياتي وبلغاريا.
لم يتعاون ميدانيا مع النظام الليبي؟
- كان التعاون محدوداً جداً.
ماذا كان يقول عن المال؟
- كان يعتبره عصباً ضرورياً للعمل. على الصعيد الشخصي لم يكن المال يعني له شيئاً. كان من غير الوارد مثلاً ان يكون لابنه الوحيد اي تعامل يختلف عن التعامل مع ابن اي شخص آخر في "المجال الخارجي". كان قاسياً على نفسه وعلى عائلته وكان يعتبر هذا السلوك بديهياً وطبيعياً. مرت علينا في "المجال" ظروف صعبة.
اتُهم وديع بأنه غير مثقف؟
- كانت قراءاته مختلفة. لم يكن من انصار قراءة الكتب للاستعراض. كانت قراءاته مربوطة تماماً باهدافه وعمله. شاهد ثلاث مرات فيلم "ابن آوى" الذي يتحدث عن عمليات الجيش الفرنسي السري في الجزائر والتي كانت تستهدف الديغوليين. اهتم بالمشاهد المتعلقة بتهريب الاسلحة وتزوير الوثائق وصنع بعض الاشياء الخاصة وكان يشجع على مشاهدته. كان يحب روايات أغاثا كريستي. احياناً كان يقرأ كتاباً خلال رحلة الطائرة.
كان يحب الشعر واللغة؟
- جداً. كان والده استاذا للغة العربية. كانت لغة وديع العربية ممتازة. ولغته الانكليزية ممتازة ايضاً.
من كان يحب من الشعراء؟
- كان يحب المتنبي جداً. يعجبه فيه عنفوانه.
كان يردد احياناً بعض ابيات المتنبي. وفي الوقت نفسه كان يحب الشيخ امام. حين تخرج تظاهرة في الشوارع كان يردد "رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد ثاني".
كان يحب قصائد سميح القاسم ويدندنها. وكان يحب شعر محمود درويش. كان يقرأ ايضاً عن البحار والمحيطات والحيوانات.
ما ابرز العمليات التي خطط لها بعد احداث 1970 في الاردن؟
- كانت هناك عمليات كثيرة استخدمت فيها اساليب مختلفة كالملابس المتفجرة مثلاً. لم يكن الاردن هو الهدف.
هل تجزم ان "المجال الخارجي" لم ينفذ اغتيالات في لبنان؟
- نعم.
هذا يعني ان لاعلاقة لكم باغتيال السفير الاميركي فرنسيس ميلوي؟
- نعم، ولم نخطط لاغتيال دين براون في بيروت.
اين كان يقيم وديع في بيروت؟
- في اطراف العاصمة. في الشياح و في وسط المدينة او فردان او الحمراء. الحديث عن عشرات الشقق غير صحيح. كان يبدل مكان اقامته. كانت الشقة التي يقيم فيها هي مكتبه وغرفة نومه ومقهاه ومكان مواعيده. طبعاً لم يكن يخرج الى المطاعم والحفلات واماكن السهر. هذا غير وارد.
كان يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل؟
- لم يكن يميز بين الليل والنهار. يعمل باستمرار وحين يتعب يرتاح ثم يعاود العمل.
كانت هناك عملية مالية معلنة لكن ماذا عن مصادر التمويل الاخرى؟
- احياناً كنا نحصل على مساعدات من مجموعات صديقة في اوروبا تقوم بعمليات وتعطينا ثم نعيد لها.
ماذا كنتم تستفيدون من المجموعات الاوروبية المتحالفة معكم؟
- تماماً كما كنا نستفيد من اي عضو في التنظيم. كانت العلاقة صميمية معهم والتعاون قائماً.
هل كان الالمان هم الاقرب؟
- نعم.
وهل كانوا يبلغون وديع ببرنامج عمليتهم؟
- نعم.
وقبل حدوثها؟
- نعم. وكنا نحن نضعهم في اجوائنا.
ونقطة الاتصال الاساسية كانت بيروت؟
- كانت هناك بيروت وعدن وبغداد. بعض الالمان ذهبوا الى بغداد مرة او اثنتين. بيروت كانت تستخدم للاقامة اسبوعاً او اثنين. عدن كانت مختلفة وظروفها آمنة خصوصاً بسبب وجود السوفيات.
سألنا احد الذين رافقوا وديع حداد عن قرب ما الذي يميز تجربته وما هو السر الكامن في شخصيته فاجاب:
- ان ما ميز تجربة الدكتور وديع حداد اولاً واخيراً هو اسلوب كسر قواعد اللعبة التي تقوم عليها قضية الصراع بين الشعب الفلسطيني واعدائه. ان المحاولة الجادة للعودة الى استرجاع تلك التجربة وتقييمها بتجرد تظهر ان القائد ابو هاني حاول وبذكاء شديد كسر قواعد ومحددات الصراع التي حاول خصوم الشعب الفلسطيني فرضها على هذا الشعب واجباره على ادارة هذا الصراع ضمن محددات كانت جميعها وللأسف الشديد في غير مصلحته.
ان العودة للنظر الى الوراء وفي هذه اللحظة بالذات المركزة والمحملة بنفس مشاهد وصور الالتحام السابق بين الشعب الفلسطيني المحاصر والمسلوب والمحروم من اي دعم حقيقي والمتروك لمواجهة مصيره بنفسه في مواجهة احد اقوى واعتى جيوش العالم، ان كل تلك الصور المستعادة دوماً ودوماً مع ازدياد عنفها ووحشيتها، ان كل ذلك يجبرنا على العودة لاستخلاص العبر واستيعاب المنطلقات.
اذا استطعنا اختزال قضية الصراع على ارض فلسطين بصورة محتل يمتلك اقوى الاسلحة يقوم بطرد صاحب البيت من بيته وارضه - نقول اذا استطعنا، لأننا ندرك ان قضية فلسطين هي اعقد بكثير من ذلك ولها عوامل وخيوط متشابكة وعديدة، ولكن اذا استطعنا اختزالها بهذا الشكل، حيث يقوم المحتل بطرد اصحاب البيت الاصليين من مسكنهم ويقوم بالتحصن فيه ولا يكتفي بذلك بل يقوم بوضع شروط على اصحاب البيت بأن عليهم فقط الاحتجاج في المكان الذي يحدده هو وبالطريقة التي يريدها هو - اي يضع قواعد الصراع بينما يمضي هو في استكمال بناء تحصيناته وحشد قوته - فما سيكون موقف الضحية؟
الضحية والاسلوب
واضاف: "لقد رأى الدكتور وديع حداد ان من حق الضحية ان تختار اسلوب المواجهة بالطريقة التي تريدها هي والتي تكون في مصلحتها هي، لقد رفض ان يكون الحكم هو نفسه الخصم، واكد ان من حق الضحية ان تختار اسلوب مواجهتها وتحديد موقع ومكان وتوقيت المواجهة، وكما تراه هي مناسباً… فاذا انتظره الخصم من الشمال اتى من الجنوب واذا انتظروه جواً اتى من تحت الارض واذا انتظروه ارضاً اتاهم جواً… ذلك ببساطة هو مبدأ حرب العصابات - اي الضرب الموجه والشديد التركيز على نقاط الضعف وليس نقاط قوة الخصم، لكي يوقع به العديد من الاوجاع الصغيرة التي تؤدي، في حال تراكمها، الى اضعافه وشله، ويكون في تلك الفترة على قوى الثورة استجماع قواها و تطويرها للارتقاء الى مستوى اعلى من مراحل الصراع.
ان هذا باختصار وبطريقة مختزلة جداً هو اساس ما تميزت به تجربة الدكتور وديع. على انه لا يجب ان ننسى ان هذه الرؤية استندت ايضاً الى مرحلة منتصف القرن الماضي التي تميزت بصعود حركات التحرر في العالم خصوصاً الدول المستعمرة سابقاً ونجاح تجارب ثورات في عدد من دول العالم الثالث، كما جاءت ايضاً في ظروف الحرب الباردة كاطار عالمي.
اذاً، رأى وديع حداد، خاصة بعد هزيمة 1967 وخسارة ما تبقى من ارض فلسطين، ان دور العمل المسلح الفلسطيني اولاً واساساً هو في اقلاقه راحة المحتل ومنعه من الاستقرار وابقائه محاصراً، وذلك عبر ضرب خطوط مواصلاته واتصاله ببقية العالم، عدا عن كشف ما كان من دور لخطوط "العال" الاسرائيلية في نقل الاسلحة والعتاد الى دولة اسرائيل.
كما رأى ثانياً - ان الثورة الفلسطينية لا تمتلك ارضاً تستطيع الانطلاق منها لتوجيه ضرباتها والعودة اليها لتكون قاعدة خلفية - ولهذا التزم وديع اسلوب العمل السري والمواجهة غير المباشرة ووقف بحزم ضد تجييش العمل العسكري الفلسطيني والوجود العلني المسلح للثورة الفلسطينية لأنه وببساطة شديدة رأى ان اي تواجد علني مسلح في مواجهة الجيش الاسرائيلي الذي يتفوق قوة وعتاداً سيؤدي بالتأكيد الى الخسارة العسكرية. وهذا ما ثبت في العديد من المواجهات كان اهمها على الاطلاق حرب لبنان 1982".
المستحيل... والممكن
وقال: "اخيراً لا بد من القول ان شخصية وديع لعبت دوراً كبيراً في صياغة هذه التجربة - اذ كان ذا شخصية فريدة من حيث انه لا يعترف بوجود المستحيل. وهنا تحضر ذكرى في اواخر الستينات وبعد عودة مجموعة من احد الاستطلاعات في الاراضي المحتلة، عادت المجموعة لتقول بأن الهدف المطلوب درسه وبالتالي ضربه وحسب موقعه وما يحيط به من المستحيل "تقريباً" الوصول اليه وتنفيذ المهمة. هنا كانت تبرز شخصية وديع اذ قال "بما ان المستحيل هو "تقريباً" وليس "كلياً" اذاً فهو "ممكن، صعب لكنه ممكن" وطلب اعادة الاستطلاع، وعادت المجموعة بالنتائج المطلوبة وتم ارسال المجموعة المنفذة وقامت بالمهمة على اكمل وجه.
عبر درس مسيرة هذا القائد الفذ، يمكن الوقوف على جوانب مهمة من شخصيته - فان تخطف طائرة مرة لا شك بأنك ستلفت انظار العالم لقضيتك، وان تعيد الكرة مرة ثانية وثالثة ورابعة سيقف العالم ليتساءل من هم اولئك الرجال والنساء ولماذا يقومون بهذه الافعال - لكن ان تخطف اربع طائرات في الوقت نفسه وتستحدث مطاراً في وسط الصحراء لاستقبالهم، وتقوم بحمايتهم ولفترة طويلة وتفاوض لاطلاق سراح المعتقلين في اسرائيل والخارج، فذلك جعل العالم يقف على رؤوس اصابعه مشدوهاً لما يحصل. لقد استطاع عبر هذه العملية وغيرها ان يغير صورة الفلسطيني والعربي من صورة اللاجئ المجرد المنكسر الى صورة الانسان المقاتل الذي يستطيع بتصميمه وارادته ان يصل الى اهدافه المقررة وتحقيقها. ولا ننسى ان "ابو هاني" في تلك الفترة كان متواجداً على ارض مطار الثورة. صحيح انه لم يكن مكشوفاً على الرهائن وجيوش الصحافيين ولكنه كان هناك خلف الستار يدير ويخطط ويدرس ويوجه سير العملية ويضع خطط المفاوضات والاعلام، وغيرها من الامور، كله ضمن خطط مجهزة لتحقيق اهدافها. وهنا جدير بالذكر انه لدى انسحاب الفدائيين مع آخر الرهائن، وفي ثلاثة باصات متوجهة الى مدينة عمان قامت وحدات من الجيش الاردني بمحاصرتها وكان ابو هاني داخل احد الباصات الثلاثة. فطلب من الفدائيين توجيه بنادقهم الى الرهائن وأصر على عدم الاستسلام الى ان تراجع الجيش الاردني. وهنا طلب من المسؤولين عن الباصين الاولين التوجه الى عمان لتسليم الرهائن الذين لديهم بينما اعطى اوامره للباص الثالث بالمراوغة والانفصال عن بقية المسيرة للوصول الى احد مخيمات عمان، وكان هو على ذلك الباص الذي يحتوى على الاسرى الاسرائيليين والذي اكمل بواسطتهم مسيرة المفاوضات لاطلاق سراح الفدائيين المطلوبين.
فالمستحيل الممكن كان نقطة قوته واستخدمه لعدة مرات وبنجاح كبير. لكن يجب ان ندرك ان هذا المستحيل الممكن لم يأت بشروط سهلة، بل كان يتطلب منه عملاً وجهداً مركزاً ومنظماً اضافة الى ضرورة تواجد قيادة ذات ارادة حديدية ومصممة على تحقيق اهدافها، من هنا يمكن ان ندرك لماذا استحدث وديع وسائل كان يسميها الاسلحة السرية للثورة الفلسطينية وكانت تتمثل تحديداً باسلوبي عمل هما:
اولاً: الوثائق المزورة التي كانت تهدف الى اختراق وسائل الحصار على تحرك الفلسطيني المحاصر في مخيمات التشرد والممنوع من التنقل خارج المخيمات وليس بين الدول فقط.
ثانياً: الاسلحة السرية اي المموهة. لقد كانت تجربة وديع متميزة من حيث استحداث وابتداع انواع جديدة من الاسلحة التي استطاعت بنجاح تجاوز وسائل الحماية والدفاعات التي وضعها الخصم لمواجهة هذا النوع من العمليات. كان يعتبر نفسه في سباق مع خصمه في اختراق اجراءات الحماية والتي اثبتت التجربة في كل مرة انه استطاع خرقها عبر الدراسة والتطوير. وكان يقول دوماً حتى بعد فشل احدى العمليات انه من المهم ايصال الرسالة فالعملية التي تفشل تؤدي دوراً مهماً ايضاً في اننا مستمرون"
الاسبوع المقبل: الصفقة القاتلة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.