يتابع غسان شربل، في كتاب "أسرار الصندوق الأسود" عن دار رياض الريس - بيروت 2008، نهج كتابة التاريخ بمداد أصحابه، ولأن هؤلاء لا ينصرفون الى هدأة التأمل، فإنه يذهب إليهم بجلبة الأسئلة، لأن في ذاكرة الأحياء وفي ذكرى، من مضى، والذكريات عنه، أياماً وأحداثاً، يجب ألاّ يغمرها النسيان... لسبب أول، من ضمن أسباب وجيهة عدة، هو ثقل حضور"المستجوبين"في صناعة الأحداث، ومسؤولياتهم الأكيدة في رسم وجهتها، وتقرير اتجاهات مساراتها المختلفة. في"الصندوق الأسود"، الذي فتحه غسان شربل: جورج حبش، ووديع حداد، وكارلوس، وأنيس النقاش، ومع الأسماء تحضر حقبات صاخبة، اندمج فيها التحليل السياسي الهادئ، بالممارسة النضالية المتوترة، مثلما شكل البعد النظري، الاستراتيجي، المسوغ التبريري، والدليل المرشد، الفكري، للعملية الثورية برمتها. خاطب جورج حبش الرهائن المحتجزين في فندقي فيلادلفيا وأنتركونتيننتال في الأردن بالقول:"الذي يعيشون ظروفاً مختلفة، يفكرون بطريقة مختلفة"... هذه الجملة تشكل مدخلاً لقراءة الماضي، الذي ساقه غسان شربل، بنظارات الحاضر. عليه، تصير القراءة ممراً، الى الفهم والاستيعاب والاستخلاص... ولا تكون منبر اتهام وتسفيه، أو وعظاً وتعففاً وإرشاداً. المهم، في هذا المجال، الانتباه الى ان التاريخ لا يستعاد، حدثياً، بل تعاد كتابته في ضوء جديد الأفكار وجديد أدوات البحث، وتطور مناهجه... وهذه نقطة هامة دعا إليها جورج حبش عندما أكد على ضرورة دراسة التناقضات الجديدة، بواسطة أدوات بحثية متجددة. نبدأ من جورج حبش، في سير معاكس لخط السرد الذي اعتمده غسان شربل، عندما جعل الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،"مسك ختام"كتابه. تعليل هذا الأمر، أولوية الفكر القيادي، والنظرة السياسية التأسيسية، وتقدمها على إرهاصات بلورتها وممارستها. بهذا المعنى، يحتل كارلوس وأنيس النقاش، ومن جرى مجراهما من المناضلين، مرتبة خلفية، وإن احتلوا الصورة الإعلامية، بسبب من أعمالهما الجريئة. هكذا يستعاد التوازن بين من يتحمل مسؤولية الخطأ السياسي أولاً، وبين سائر التشكيلات القتالية والسياسية، التنفيذية وغير التنفيذية. لذلك، وفي مقام المسؤولية عن خط القتال الخارجي، يحتل جورج حبش المناضل، الصفوف الأمامية الأولى، وبالتالي، وإذا شئنا إسباغ الصفات، فهو الأشجع والأجرأ والأصلب، لأنه أخذ على عاتقه المسؤولية الأولى عن إقرار خط"مطاردة العدو في كل مكان"وأعلن استعداده لتحمل الكلفة الخطرة، الناجمة عنه. يعلن جورج حبش، أن"كل ما يحمي ثورتنا حق، هذا هو خط تفكيرنا". ويتبنى خطف الطائرات، الى"مطار الثورة"، في الأردن، لأنه كان يريد تحرير الأسرى... وعلى هذا الخط من التفكير، سار وديع حداد، الذي أراد من خلال عمليات"المجال الخارجي"ضرب ركائز العدو، الاقتصادية والبشرية والعسكرية... في الخارج، لأن"الأمر متعذر في الداخل". في مضمار تنفيذ الخط السياسي - القتالي، جرت أفعال قوافل من"الحالمين"، عرباً وأمميين، من جنسيات مختلفة. بعضهم أطل من"نافذة فلسطين"، كما فعل أنيس النقاش وبعضهم الآخر، ثار على الظلم في بلده، فانضم الى مقولة"شمولية الثورة في مواجهة شمولية الامبريالية". يحتل الجانب الأخلاقي مكاناً مميزاً لدى"الثوريين"، خصوصاً لدى أولئك، الذين تقتصر نشاطاتهم على الجانب السري، حيث للصفات الشخصية دلالاتها الأكيدة ويشترك مناضلو"الصندوق الأسود"في نكران الذات، وفي العمل الدؤوب، وفي إلغاء الحيز الشخصي من اليوميات، وفي التقشف الذي يقارب الزهد أحياناً، مثلما تجمعهم ميزة الاستعداد العالي للتضحية، والكفاءة والقدرة على تحمل الصعاب ومواجهتها. لكن لهذه الصفات الأخلاقية، الفردية، الحميدة، جانبها السياسي الآخر، أو انعكاسها في مواقف أصحابها، على الآخرين، مجتمعاً وأفراداً. فالقول"برفاق أنقياء في عالم ملوث"، يقرب الرفاق من المرتبة الرسالية - الخلاصية، التي تريد الانتشار والرسوخ، بوسائلها الجوهرية. في حالة الرفاق"جوهر""الرسالة"عنفي، لذلك، لنا ان نتخيل نوع الموقع الذي يحتله"العالم الملوث"في تفكير هؤلاء، هذا ناهيك، عن الإحجام عن إعمال"العقل الضروري"في تحليل تناقضاته ومعوقات تطوره، ودرجات تقدمه، وسبل دفعه في مسالك حداثته - وما إلى ذلك. الأخلاق التطهرية، تأتي مجتمعاتها من خارجها، تمارس تفوقها عليها، لم تلجأ الى الغربة عنها، والانتقام منها، إذا عجزت عن تغييرها - عليه، يجب ألا تقتصر النظرة الأخلاقية، على"ترفع الفرد"، بل يجب الذهاب ايضاً، الى العلاقة الجدلية، بين الترفع الفردي ومحاولات الاندماج الاجتماعي، الضرورية لنجاح كل عمل سياسي. لدى انتقال الأخلاق الى السياسة، علينا ان نقبل معادلة"أن لا حروب نظيفة مئة بالمئة"... ولأنه"من حق الضحية اختيار أسلوب مواجهتها"، فإن تأمين ظروف المواجهة الناجحة، تتطلب اعتماد سياسات لا أخلاقية، وتحالفات غير مبدئية، وتعاون يقوم على مبدأ"الغاية تبرر الوسيلة". تبرز هذه الجوانب بحدة، في مجال"العمل الخارجي"، الذي يحتاج الى التمويل، والتمويه، وأعمال التزوير، والحماية من المطاردة، والنجاة من الاغتيال ? وهذه مسائل، لا تتوفر إلا إذا قدمت تنازلات مبدئية"في بلدان الحماية"، وفي بلدان العون والمؤازرة ? هكذا يحيط الغموض بعملية فيينا، التي استهدفت وزراء"أوبيك"، ويختلف على نتائجها التمويلية والسياسية. ونعلم ان موافقة الرئيس الأوغندي، عيدي امين، كانت حاسمة، لتنفيذ عملية عنتيبي... ونقرأ أن الرئيس الصومالي، سياد بري، قال صراحة: إنه باع التزاماته بصفقة، في مسألة خطف الطائرة الألمانية، ونفهم الجو"غير المفهوم"الذي ساد لدى الجزائريين، عندما عاد الخاطفون الى ديارهم... ونعرف، ان العراق كان يدفع مليون دولار سنوياً، كدعم"للمجال الخارجي، في نشاطاته، ونطلع على ان السلاح نقل الى"الثوريين"بواسطة حقائق ديبلوماسية عربية. على صعيد سياسي، يمكن القول جملة، أن"التسييس"غائب عموماً، لدى من ساهم في الأنشطة القتالية الخارجية، وإذ يحاول انيس النقاش ان يميز نفسه، انطلاقاً من تجربته الطالبية في صفوف حركة فتح، فإن هذا التمييز لا يلبث ان يقع في التعميمات، وفي"المطلقات"ايضاً. يظهر ذلك من المراجعة، التي يُفترض ان يجريها كل"متطوع"، التحق بالتجربة الفلسطينية، من مدخل العمليات الخارجية. في هذا المقام المراجعة الحصيلة ضئيلة على"بيدر المناضلين". على سبيل المثال: الإمبريالية كائن جامد، وظاهرة ثابتة لدى كارلوس، لذلك كل من قارعها ينزل في ديار الثورة. عليه، لا بأس من"شبه مبايعة لبن لادن والظواهري، الشهداء الأحياء، وإعلان الارتياح"لضربة نيويورك"دون بذل الجهد لإدراك تداعياتها المدمرة، خصوصاً على المنطقة العربية. صفة"الثوري"ثوب فضفاض، يلبسه كارلوس، لكن من قال إنه"عدو الإمبريالية... لذلك نسمعه يعلن، أن علاقته مع ليبيا"علاقة رفقة وتعاون ثوري - السودان الثوري - تنظيمات ثورية إسلامية على الحدود الأفغانية - الباكستانية"ثم لا ينسى ان يخاطب الملك الأردني عبدالله الثاني، بعبارة: أخوكم في الثورة. مرّة أخرى، تأتي المراجعة، التي تدل على تواضع نضالي، من جورج حبش، مما يؤكد مجدداً، ان المسؤول عن التأسيس النظري والسياسي، هو المبادر الأول الى المراجعة النقدية، وهذا ما يستدعي احترام"المبادر"، بغض النظر عن مدى دقة آرائه السياسية، وصوابها أو زوغانها. بهدوء يقرر"الحكيم"انه لم يتوقع مدى الاجتياح الذي تعرض له لبنان عام 1982، ولم يظن بإمكان اقتلاع الثورة من الأردن مطلع السبعينات، وأنه وافق على الخروج من بيروت، التي بان بطلان شعار تحويلها الى ستالينغراد. وأنه لم يحدس بتفكك الاتحاد السوفياتي، وأن الحرب اللبنانية كانت ستقع، لأن هناك من خطط لها، وأعد العدة لتنفيذها. كلام القائد حبش، يسير على خط معاكس مع مبالغات ساقها انيس النقاش، في أكثر من موضوع مشترك، جرى طرحه على الرجلين، مصدر التمايز، مرة أخرى، هو نوع الموقع الذي يحتله كل مساهم منهما، أحدهما جالس في غرفة صناعة الحدث، والآخر في ميدان تنفيذ موجباته. يتذكر النقاش الفعلي، الذي لا بد وأن يستكمل، مع جورج حبش، مؤسس"الظاهرة"، منذ الخمسينات في محاولته الرد على نكبة فلسطين، في هذا السياق، يحدد نقاش موقفه من القائد ياسر عرفات، ومن حدود الانتفاضة في الداخل، ومن قيود العمل العسكري المسلح من الخارج وفي الداخل، ومن أبعاد التكتيكات السياسية، ومن حقيقة الطموحات الشخصية، لهذا القائد الفلسطيني أو ذاك. في الراهن، يدعو الى التأمل ملياً، قول جورج حبش انه عندما اندلع الصراع مع الجيش الأردني في أيلول 1970، استجاب للمطلب المصري، بتسليم الرهائن الأجانب،"لأن مصير الثورة أهم من مصير الرهائن"، وفي بيروت 1982، قال انه وافق على الخروج منها"لتجنيب الجماهير المزيد من الضربات والخسائر". موقفان مسؤولان، من قائد تاريخي، برسم الذين يحرقون بلداً، ثمناً لاستبقاء جندي أسير، أو طلباً لترسيخ نفوذ فئوي خاص. * كاتب لبناني.