بعد ثلاث سنوات ونصف على ولادة النعجة "دولي" بطريقة الاستنساخ على يد الباحث البريطاني ايان ويلموت. اتخذت الحكومة البريطانية قراراً جريئاً وصفه بعضهم بالتاريخي، إذ أعطت الضوء الأخضر للباحثين بتوسيع أبحاثهم طولاً وعرضاً حول الاستنساخ البشري، للاستفادة منه في وضع حد لأمراض عدة ما زالت تسرح وتمرح من دون أن يقدر أحد على مواجهتها. وقرار الحكومة البريطانية ليس نهائياً، إذ سيعرض لاحقاً على مجلس العموم للتصويت عليه، بحيث أن كل عضو فيه يدلي بدلوه وفقاً لما يمليه عليه ضميره وليس وفقاً لانتمائه الحزبي الذي يجب أن يضعه جانباً. إن عدداً لا بأس به من الأمراض يقف الطب عاجزاً أمامها. ففي البداية، حاول العلماء اللجوء إلى استخدام الطعوم الحيوانية لعلاج بعض الأمراض، لكن مشكلة هذه الطعوم أنها ما أن تحط رحالها في البدن حتى يعلن الحرب عليها بشدة، إذ يرفضها بقوة ولا يحتمل أي جسم وجودها لأيام أو على الأكثر لبضعة أسابيع. وأمام فشل الطعوم الحيوانية لجأ الأطباء إلى الطعوم الإنسانية، فحققوا النجاحات في هذا المجال، لكن سرعان ما تبين لهم أن عدد المحتاجين يفوق بكثير عدد المتبرعين ما العمل؟ ولم يعدم الباحثون وسيلة، إذ ما لبثوا أن وجهوا أنظارهم صوب خط آخر يمكنهم من الحصول على طعوم كافية تسمح بتأمين ما يلزم من الأعضاء السليمة التي يتم تحضيرها من الحيوانات المعدلة وراثياً، بحيث تتحول إلى مصنع نتحكم فيه لانتاج هذا العضو أو ذاك ويكون صالحاً للزرع من دون مشاكل. إلا أن آمال الباحثين لم تسر كما يشتهون ويتمنون، إذ أن أبحاثاً عدة نشرت أخيراً تحذر من مغبة السير في هذه الطريق المحفوفة بخطر داهم لم يحسب له حساب، ألا وهو خطر انتقال فيروسات حيوانية إلى البشر لا يمكن التحكم بها. ما الحل؟ الحل يبدو أنه آت خطوة خطوة، وبعضهم يراهن على أنه سيكون قيد التطبيق في السنوات القليلة المقبلة، فمنذ سنوات والعلماء يعملون في حقل واعد قد يحمل معه الأمل المنتظر لعلاج الكثير من العلل التي تبطش ببني البشر. والأمل الذي ينتظره الجميع بفارغ الصبر يتمثل في استنساخ الأجنة البشرية للحصول منها على خلايا غير متمايزة بعد أي غير مختصة، ومن ثم زرعها في المختبر للحصول منها على عدد لا نهائي من الخلايا التي يمكن توجيهها الوجهة التي يرغبها العلماء، بحيث تعطي خلايا متمايزة مختصة. إن استنساخ الاجنة البشرية ليس ضرباً من الخيال، بل هو حقيقة واقعة أول من قام بتنفيذها باحثو شركة "ادفانسد سيلز" الأميركية، حيث نزعوا نواة من خلية جلدية تابعة لأحد المتبرعين، ومن ثم غرسوها في قلب بويضة بقرة بعدما أفرغت من نواتها، فكانت النتيجة أن حصلوا على جنين بشري دمر في اليوم الثاني عشر من عمره. إن هدف الشركة لم يكن أبداً الحصول على كائن بشري اعتباراً من الخلايا الجسمية، لكن الهدف كان المجيء ببرهان يقطع الشك باليقين بإمكان صنع الاجنة البشرية انطلاقاً من مزيج ما بين خلية جسمية وبيضة. أما لماذا وقع اختيار باحثي الشركة على بويضة البقر، فلسبب بسيط للغاية، وهو توافر بنوك تزود بويضات البقر وتعمل على تخزينها، ولكن حتى الآن لم يتمكن العلماء من التوصل إلى الطريقة التي تجلعهم يحفظون بويضات النساء. وعلى ما يبدو، فإن عملية استنساخ الاجنة البشرية ستوفر امكانات هائلة تسمح بعلاج الكثير من الأمراض المستعصية. وقرار الحكومة البريطانية في سبر هذا المجال جعل بعض الدول تبدي قلقاً حيال هذه المسألة بسبب تخوفها من أن يكون دورها هامشياً، فلا تستطيع الاستفادة من المكاسب الاقتصادية الهائلة التي قد تحملها معها تقنية استنساخ الاجنة، فالتوقعات تشير إلى أنها إذا نجحت أي تقنية الاستنساخ، فإن الشركات التي تقف وراءها ستحصد أموالاً طائلة تفوق التصورات. إن استنساخ الاجنة البشرية سيحمل معه، إذا سارت الأمور على ما يرام، آفاقاً علاجية واسعة على أصعدة طبية كثيرة. والباحثون قاموا منذ الآن بوضع الخطوط العريضة لتقنية الاستنساخ، فهم يتصورون أن تكون هناك بنوك لحفظ النسخ الجنينية للبشر، بحيث ان كل إنسان يملك "حساباً" يحفظ له نسخة أو أكثر من الأجنة التي تحتوي على مخزونه الوراثي، فعند الضرورة يستطيع الإنسان أن "يسحب" من حسابه نسخة جنينية تستخدم لعلاج المرض الذي يعاني منه الشخص. إن رحلة التقدم العلمي سائرة إلى الأمام بسرعة، ومشروع الاستنساخ، اعتباراً من خلايا جسمية، يسير هو بدوره إلى الأمام للوصول إلى هدف بالغ الأهمية، وهو عمل خلايا متخصصة تعطي أكثر من 200 نوع من الأنسجة البشرية التي تحمل معها الحل المثالي لقهر الكثير من الأمراض. على صعيد الأمراض العصبية، يأمل الباحثون من مشروع الاستنساخ البشري تحقيق قفزات نوعية، فالمعروف أن الخلايا العصبية لا تنقسم وهذا يعني أن خرابها يذهب بها إلى غير رجعة. من هنا، فإن استنساخ الخلايا سيمكن من استبدال الخلايا العصبية التالفة بأخرى سالمة. فمثلاً في داء باركنسون يحدث خراب في الخلايا العصبية المنتجة لمادة "الدوبامين" التي تعتبر الحجر الأساسي لتأمين وتنفيذ وظائف مخية عدة. وحالياً يلجأ العلماء أحياناً إلى حقن المخ بخلايات عصبية قادرة على انتاج الناقل العصبي الدوبامين، وهذه الخلايا يتم استحضارها اعتباراً من أجنة آتية من الاجهاض. أيضاً يعول الباحثون كثيراً على مشروع الاستنساخ لوضع حد لمرض الخرف الشيخي مرض الزهايمر. والشلل الذي يهدد حياة الألوف المؤلفة من الناس ويجعلهم طريحي الفراش، قد يصبح قريباً في خبر كان، بفضل مشروع الاستنساخ. فالباحثون الأميركيون أعلنوا أخيراً انهم تمكنوا من شفاء الجرذان من الشلل الذي تعاني منه بزرع خلايا عصبية أخذت من أجنتها. وعلى صعيد الأمراض القلبية، قد يصاب القلب بعلة تجعله غير قادر على ضخ الدم الضروري لأعضاء الجسم، ان استبدال القلب العليل بآخر بديل قد يكون الحل الوحيد للمرضى الذين وهنت قلوبهم، ومشروع الاستنساخ قد يكون الحل المثالي لخلق خلايات قلبية تحل مكان الخلايا التالفة. الداء السكري الشبابي، في هذا النوع من الداء تغيب خلايا جزيرات لانغرهانس التي تفرز هرمون الانسولين الضروري لحرق السكر، ونتيجة ذلك يصاب المريض بارتفاع السكر في دمه، ولهذا يضطر صاحبه لأخذ حقن الانسولين يومياً لمجابهة المرض. إن مشروع الاستنساخ قد يسمح في القريب العاجل لملايين المصابين بالداء السكري الشبابي، أن يقولوا وداعاً لحقن الانسولين، فالاستنساخ سيعطي فرصة لانتاج خلايا لانغرهانس المفرزة للانسولين اللازم لحرق السكر. أمراض الكبد، تعتبر الكبد من أكبر أعضاء الجسم وأهمها، فبدونها لا يستطيع الإنسان البقاء على قيد الحياة، لكنها قد تصاب بعلل تؤدي بها إلى التلف والتليف، وهذا ما يجعلها عاجزة عن القيام بوظائفها الحيوية الكثيرة مثل تصفية الدم وتخزين السكاكر وتصنيع البروتينات والدهون وانتاج المادة الصفراء وتخزين بعض الفيتامينات. إن استنساخ الاجنة سيسمح باستبدال الخلايا المريضة بخلايا كبدية سليمة تعيد للكبد وظائفه المعهودة. أمراض أخرى، مثل أمراض العينين والكليتين والرئتين والمفاصل والحروق، وهي أيضاً ستكون على لائحة العلل التي سيكون لتقنية الاستنساخ البشري القول الفصل في علاجها. إن مشروع استنساخ الاجنة البشرية أصبح اليوم حقيقة في رحلة التقدم العلمي، ومبتكرو هذه الطريقة يحلفون الايمان الغليظة بأن الهدف الأول والأخير هو علاجي فقط، فالاستنساخ سيتيح المجال للعلماء أن يصنعوا قطع غيار بشرية كالكبد والكلى والبنكرياس والعظم... الخ. ويحاول المشرعون والسياسيون وضع قوانين تدفع بتقنية الاستنساخ في اتجاه محدد ومدروس، غايته الأولى والأخيرة علاجية، ولكن الخوف، كل الخوف، هو أن يتمرد العلماء فيلجأون إلى استغلال تقنية الاستنساخ من أجل تحقيق غايات أخرى غير علاجية، فتتحول الاجنة البشرية إلى سلع تجارية. ومن يدري فقد يذهب بعضهم إلى انتاج الإنسان الجديد بالاستنساخ الجسدي اللاجنسي، وقد يحلو لبعضهم أن يذهب أبعد من ذلك بكثير، بحيث يخطر على باله أن يستنسخ خلايا عظماء، مثل ديكارت ونابليون ورمسيس وانشتاين وغيرهم، لكن هل تسمح الاخلاق بذلك محطات استنساخية في العام 1987 استطاع العلماء نسخ الأبقار والأغنام من خلايا الاجنة. في العام 1993 تمكن علماء البيولوجيا من جامعة جورج واشنطن من نسخ خلايا اعتباراً من خلايا جنينية إنسانية. في العام 1997 نجح العالم الانكليزي ايان ويلموت في استنساخ النعجة "دولي" من خلية نعجة بالغة. وبعد أشهر من العام ذاته، أعلن مستنسخو دولي عن ولادة نعجة أخرى "بولي" تحمل في مخزونها الوراثي جينة بشرية. في العام 1998 تم الإعلان في أميركا عن ولادة عجلين "جورج" و"شارلي" اعتباراً من انوية أخذت من خلايا جنينية مزروعة في المختبر. اليابانيون أيضاً تمكنوا في العام نفسه من تحقيق ولادة عجول عدة من بضع خلايا أخذت من بقرة واحدة. في العام 1999 أجريت محاولات عدة أكدت بالدليل القاطع أنه يمكن عمل أنسجة بشرية بدءاً من خلايا جينية إنسانية غير متمايزة بعد زرعها في المختبر.