تعتبر هذه الأيام فترة لن تنسى في تاريخ النزاع بين اسرائيل والفلسطينيين. فقد فتحت قمة كامب ديفيد، التي انعقدت بفضل قنوات التفاوض السري الذي دار في ستوكهولم، فصلاً جديداً ليس في عملية السلام التي بدأت إثر حرب الخليج، بل في التاريخ الطويل من العداء بين اسرائيل والحركة الصهيوينة التي سبقتها وبين الفلسطينيين. ومع ذلك فإن مهمة تحديد الطبيعة الواضحة للتقدم الذي أحرزته المفاوضات اتضح أنها عمل شاق، ليس بالنسبة الى الرأي العام فحسب، ولكن حتى بالنسبة الى المفاوضين أنفسهم. وقد تحدث وزير الخارجية الاسرائيلي بالوكالة شلومو بن عامي عن "الذاكرة الجماعية لكامب ديفيد"، ومع هذا فخلال الأسابيع التي تلت القمة، بدا واضحاً أن تلك الذاكرة الجماعية لم تكن تتعلق بما عرض على المفاوضين أثناء القمة بقدرما هي أشتات من الذكريات التي تلتقي في بعض النقاط وتختلف في كثير منها. ولعل هذا الافتقار الى الوضوح ليس مثيراً للدهشة، خصوصاً أن المحادثات التي دارت في ستوكهولم وكامب ديفيد عولت كثيراً على الغموض والمجاملات والمسارعة الى النفي. ولا يزال طرفا المفاوضات الراهنة يصفان الديبلوماسية التي ينتهجها المفاوضون المنهكون بأنها "مكثفة"، وتنطوي على مجموعة من "الأفكار الخلاقة" التي تنتظر من الجانبين أن يتوسعا في بحثها. ومع ذلك فإن من الواضح - بعد تخطي الطرفين عقبة الثالث عشر من أيلول سبتمبر من دون إعلان من جانب واحد عن قيام دولة فلسطينية، ومن دون حصول إنهيار في المفاوضات - أن الدراما المثيرة التي شهدها منتجع كامب ديفيد سيتلوها إيقاع منتظم من حالة "اللاإنهيار واللاإنفراج"، أشبه ما يكون بما حصل خلال المفاوضات التي أجريت خلال العقد الماضي. وبغض النظر عن الإخفاق في التوصل الى إطار عملي لإتفاق من شأنه أن ينتقل بالطرفين الى ما يتجاوز القرارات التي إتخذاها خلال الفترة من عام 1991 الى 1999، فإن مفاوضات كامب ديفيد أعطت الفرصة لظهور ملامح ستصطبغ بها الديبلوماسية المقبلة في ما يتعلق بالقضايا المتصلة بالوضع النهائي. وفي مقدم ذلك أن الرئيس ياسر عرفات قطع شوطاً طويلاً في إعادة تأكيد صدقية الرؤية التقليدية لمنظمة التحرير الفلسطينية للتسوية النهائية للنزاع، بما في ذلك الإشارة الى "الشرعية الدولية" وإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية. وقد أثارت التنازلات التي قدمها الفلسطينيون في الاتفاقات التي تم التوصل إليها، بدءاً من أوسلو الى شرم الشيخ، تساؤلات حول مدى التزام منظمة التحرير الفلسطينية بتلك التنازلات والمبادئ وسط مؤيديها، فيما أثارت في الوقت نفسه آمال الآخرين وتوقعاتهم بأن يقبل عرفات سلسلة التنازلات الكاملة التي تطالب بها إسرائيل وتساندها في ذلك الولاياتالمتحدة. وحين انعقدت القمة في كامب ديفيد أقدم عرفات على الخطوات الأولى الضرورية لتأكيد إلتزام الفلسطينيين بتصوراتهم لطبيعة التسوية الدائمة للنزاع. ولم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك أقل إقداما ًمن عرفات على وضع بصمته في كامب ديفيد على العملية التي بدأت بمؤتمر مدريد للسلام. فقد سعى، في ستوكهولم وكامب ديفيد، الى إضفاء طابعه الخاص على العملية التي أطلقها شمعون بيريز وإسحق رابين، وورثها منهما بنيامين نتانياهو. ونجم عمليا ًعن ذلك تأجيل آخر، قد يكون دائماً، أو على الأقل سيرتبط بالتوصل الى إطار عملي لاتفاق على الوضع النهائي، لعملية الإنسحاب الثالثة للقوات الإسرائيلية التي اتفق عليها في أوسلو وشرم الشيخ، والتي كان من شأنها أن تكمل إنسحاب الإسرائيليين من جميع الأراضي المحتلة، عدا المستوطنات والقدس والمناطق الأمنية. وفي المقابل نجح باراك في إكتساب التعاطف الدولي باعتبار أن إسرائيل تبدو شريكاً جاداً في البحث عن السلام. أما داخل إسرائيل، فقد نجح باراك في تحويل النقاش في شأن القدس ليأخذ وجهة جديدة، على رغم أنه ربما فشل في إرضاء التطلعات الدنيا للفلسطينيين في هذا الخصوص. إذ تمسك بأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، لكنه - في الوقت نفسه - أقر بأن مطالب الإسرائيليين بضم القدسالشرقية ليست مطلقة، وأن قدراً من السيادة الفلسطينية على المدينة القديمة يمكن قبوله. غير أنه مهما بدا من مرونة في مواقف باراك التي تختلف عن موقف أسلافه في شأن القدس والمستوطنات والحدود، فهي في حقيقتها مرونة تكتيكية فحسب، فهو ما يزال مصمماً على الفوز بقبول الفلسطينيين والعرب والمجتمع الدولي بسيادة إسرائيل على الحرم القدسي الشريف وما يسعه ضمه من القدسالشرقية إن لم تكن كلها. ومع براعته في التظاهر بالمرونة، إلا أنه، مثل من سبقوه من حكام إسرائيل، مصمم على ضمان السيطرة الاستراتيجية الاسرائيلية على الضفة وغزة، بما في ذلك المجال الجوي للأراضي الفلسطينية المحتلة، والحدود وطرق النقل من المستوطنات وإليها. والواقع أن الأبعاد الحقيقية لمساحة الأرض التي تنوي إسرائيل ضمها، والمساحات التي تنوي أن تقيم فيها وجوداً أمنياً معتبراً، ومساحة الأراضي التي هي على استعداد لإعادتها الى الفلسطينيين لا تزال غير معروفة حتى آلآن. وإن كانت التقارير تميل الى التشديد على أن إسرائيل مستعدة لضم مساحة من أراضي الضفة الغربية تراوح بين 5 و10 في المئة، لكنها مستعدة للتخلي عن أراضي قطاع غزة بكاملها. غير أن تلك الإفتراضات ينبغي أن تعامل بحذر شديد، لسبب وحيد يتمثل في مدى تأثيرها على قدرة إسرائيل على الإبقاء على سيطرتها الإستراتيجية على تلك الأراضي. إذ إن الحاجة الى حماية المستوطنات اليهودية - وهو ما ينادي به الرأي العام الإسرائيلي وما تقوم عليه سياسات الجيش الاسرائيلي - تتوقف أساساً على الحفاظ على السيطرة الاستراتيجية والعسكرية الشاملة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. ويعني ذلك أن أي إتفاق على الوضع النهائي يجب أن يرسي أساساً جديداً بخلاف المستوطنات ومن يقيمون فيها، وذلك لإسباغ الشرعية المطلوبة على ما تبقى لاسرائيل من مصالح أمنية في الأراضي الفلسطينية. وإذا تمكنت السلطة الوطنية من إبداء إستعداد لتلبية المطالب الأمنية الإسرائيلية، فمن شأن ذلك أن يخلق مصدراً جديداً للشرعية يتمثل في اعتراف الفلسطينيين بوجود مصالح أمنية إسرائيلية مستمرة تتم معالجتها من خلال المعاهدات الأمنية التي يتوصل إليها الجانبان. وهو مصدر شرعية يختلف عن الشرعية المتمثلة في المستعمرات اليهودية، من شأنه أن يحظى بتأييد الرأي العام الإسرائيلي. ويتعين في اتفاق الوضع النهائي تجريد المستعمرات اليهودية من وظيفتها التاريخية والسياسية باعتبارها أداة لتنفيذ النظرية الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تماما ً مثلما حصل في سيناء نتيجة للتوصل الى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. وبالنسبة الى منظمة التحرير فإن هدفها الأساسي يتمثل في الحصول على إعتراف إسرائيل بالسيادة الفلسطينية على الاراضي التي تحتلها إسرائيل منذ حزيران يونيو 1967. وينبغي - عند إبرام اتفاق الوضع النهائي - وضع حد فاصل بين مبدأ السيادة وفكرة السيطرة الفعلية، خصوصاً بالنظر الى المستوطنات اليهودية. فمن الممكن أن تكون لدولة السيادة على مساحة من الأرض، لكنها يمكن أن تتخلى عن بعض الجوانب المتعلقة بالسيطرة والصلاحيات اليومية، سواء أكان ذلك بشكل رسمي أم بأي شكل آخر، لطرف آخر. وتلك هي حقيقة الوضع حالياً بالنسبة الى بعض مناطق القدسالشرقية التعليم والأمن وإدارة المناطق المقدسة. ويمكن بناء على ذلك أن يمنح إتفاق الوضع النهائي الفلسطينيين السيادة على المستعمرات، لكنه يمكن أن يعترف في الوقت نفسه بحق إسرائيل في السيطرة على تلك المستوطنات لفترة زمنية يتم الإتفاق عليها. وقد يرى الاسرائيليون أنه لا بد من وضع حدود وقيود للسيادة الفلسطينية في المناطق التي توجد فيها مستعمرات يهودية، بانتظار اتفاق الوضع النهائي. لكن يجب الانتباه الى أن السيادة لا يحدها قيد زمني معين، بينما تكون السيطرة أو الإشراف الإداري أو الأمني أمراً مقيداً بفترة زمنية محددة. وعلى هذا فمهما كانت لاسرائيل سلطات تتيح لها السيطرة على مستعمراتها ومستوطنيها، فمن حق الفلسطينيين أن يطالبوا بأن تكون تلك السيطرة خاضعة لقيد زمني يتم الاتفاق عليه