مشكلتان مزمنتان، سمّمتا حياتي ونغّصتا عليّ عمري منذ الطفولة حتى الآن. مشكلتان تتعانقان فوق رأسي وسريري ودفاتري، كشعار الصيدليات المعروف دولياً. فلسطين... والأحذية... وكل الدلائل تشير إلى أن قضية فلسطين ستنتهي قريباً، وعلى كل حال اتضحت معركتي معها، وعرفت حظي منها، ومن غيرها من قضايا النضال العربي مبكراً. فمنذ مطلع الشباب المتقد حماساً وعراكاً وشطباً وتقطيباً، في مرحلة النهوض القومي والوطني، والهجمة الاستعمارية المضادة له في الخمسينات، تطوعت للعمل الفدائي في هذا المجال، وبعد ثلاثة أشهر من التدريب المتواصل على السلاح، زحفاً وقفزاً وتصويباً، كان أول هدف أصبته هو المدرب. وبقيت الأمور على هذه الحال... وبقيت مشكلة الأحذية! وهي باختصار، منذ بدأت الكتابة، وغرقت في عالمها السحري المراوغ، صرت أجد نفسي حافياً في الأحلام، بعيداً عن بيتي ودفاتري، وأريد الوصول إليهما بأية طريقة، وقوى رهيبة تتعاظم حلماً بعد آخر، لتحول بيني وبين ذلك. وفتشت في ذاكرتي عن السبب فلم أجد فيها سوى حادثتين عابرتين بالكاد أذكرهما: وأنا طفل في السادسة أو السابعة، استعرت من إمام مصلى القرية، حذاء جديداً انتعلته صباح يوم العيد، وكان واسعاً فضفاضاً على قدمي، يدخل إليه ماء المطر ويفيض من جميع جوانبه، كأنني أنتعل فصل الشتاء برمته. والثانية، انني بدأت حياتي الثقافية والفكرية بين الأحذية، إذ عملت في إحدى العطل الصيفية، كمستخدم صغير في دكان لبيع وتصليح الأحذية، لأقوام مختلفة من الأعراب وأبناء الريف. وكنت في غياب معلمي أعمل مخرزي وخيطاني ومساميري دقاً ونزعاً في أحذية الزبائن، وهي في أقدامهم، وهم يصرخون متألمين، أو مستعجلين، أو متريثين، جلوساً على الأرض، أو ركوباً على راحلاتهم. وإذا كنت أنا صاحب الشأن قد نسيتهما، فإن القدر كما يبدو لا ينسى. واتسعت رقعة الأحلام، وتنوعت، ودخلت الريح والدم على الخط، وكذلك البوم، والجراد، والمارشات العسكرية، والأقحوان المسحوق تحت الحوافر. * * * وكحرب وقائية، صرت أولي الأحذية، وعالم الدباغة، اهتماماً خاصاً، واتضح لي من خلال المراقبة، ودقة الملاحظة، وطول الخبرة، ان عري القدمين في بعض الأحيان لا يقل إرباكاً وإحراجاً عن عري الفخذين أو النهدين، وان حذاء المرء يشي بشخصيته وميوله وطباعه، وعاطفته، وطبقته الاجتماعية، وانتماءاته السياسية والفكرية، وحتى الطائفية، ولذلك كنت أراقبها باهتمام شديد في أماكن وجودها، منتعلة، أو مصطفة، أو مكومة فوق بعضها في الجوامع، والمضافات، وعلى الأرصفة، والشواطئ والحمامات، والمقاهي والفنادق، ووسائط النقل، والمخافر، وغرف التحقيق، حتى انني صرت في معارض الرسم التي أدعى إليها، أتأمل أحذية الرسامين أكثر مما أتأمل لوحاتهم. وصار عندي ولع رهيب باقتناء الأحذية، بجميع أشكالها، وألوانها، ومقاساتها، حتى صار عندي ما يعادل مكتبة منها، ومن الأدوات المستخدمة في تنظيفها وتلميعها. بل صرت أرى بيتي، ومكتبي، وسريري، وخزانتي والمباني العامة، والخرائط المدرسية، بل وحتى خريطة الوطن العربي من نافذة الطائرة، على شكل حذاء. بل خيّل لي أن قبري لن يكون في نهاية المطاف إلا على شكل حذاء. ومع ذلك لا أجد نفسي في الأحلام، إلا حافياً، أحاول الوصول إلى شيء ما، أو الفرار من شيء ما... * * * ومع تقدمي في السن، تقدمت أحلامي في السن أيضاً، وصارت أكثر ازعاجاً، وخرفاً، واعتباطاً وعدداً، وصرت أحلم ذات الحلم، في البيت، وفي المقهى، وفي وسائط النقل، وعلى إشارات المرور. وزادت الأعباء على قدمي الوحيدتين، وصار عليّ وأنا غارق في النوم العميق المميت أن استخلص، أو استرد لقمتي من حقل وشرابي من بئر وكسائي من صقيع ودموعي من مقبرة وكرامتي من مخفر وأعود إلى بيتي وسريري قبل حلول الظلام: وعلى الطريق بين هذا وذاك، كلما دست على بلاطة خسفت، وكلما شربت من ساقية نضبت، وكلما تحمست لمباراة أجلت، أو لمفاوضات فشلت، وكلما نظرت إلى نافذة اغلقت، وإلى حامل اجهضت، وإلى نجمة انطفأت، وسط شلالات من منقوع التبن، وأوراق الخس، وأرجل الدجاج المقطوعة، ورؤوسها المبعثرة بين الأظلاف والحوافر، وريش أحمر ينسحب بجنون عبر دهاليز ومتاهات لا يستجليها دليل أو خفاش أو قمر. وكانت مصابيح الشارع تنطفئ تباعاً، ولم يبق من كل هذا وذاك سوى مفرزة من الجياد تطاردني بأسنانها الخضراء المزمجرة، وكأنها اقتلعت مروجها من جذورها، وتريد انتزاع دفاتري من جيوبي، وحقيبتي المضمومة إلى صدري بأية وسيلة. وكلما حاولت النجاة، كان ثمة شرطي يعترضني بأغلاله ساخراً مقهقهاً من قدمي الحافيتين، وكل من كنت ألجأ إليهم واستجير بهم، من المارة والأصدقاء والكتّاب والقراء والمطربين، والفنانين ورجال العلم والدين كانوا ينقلبون إلى رجال شرطة يعترضون طريقي ساخرين مقهقهين. * * * ولم أتنفس الصعداء، إلا في شارع السفارات الغارق في الصمت، والغموض، وأشباح المحارس ورجع الهوائيات، حيث وقفت حائراً اغطي قدماً بقدم، وعندما بسطت يدي في حالة دعاء، ورفعت وجهي المغطى بالدموع مستنجداً مستجلياً، كان أول ما وقعت عليه عيناي هو "نعل" السفير الأميركي، وهو يلف ساقاً على ساق، ويطالع صحفاً، أو تقارير الصباح في شرفته!!