بعد أن تأكد لي بأن أي مخلوق بشري في هذه المرحلة، أكان كاتباً أم قارئاً أم مستمعاً، أم عابر سبيل، ومهما كان حريصاً ونقياً وحذراً، لا يمكنه أن يخرج من "مدخنة" النضال العربي نظيفاً ناصع البياض، أو سليم الجسم والعقل كما دخل. ولذلك قررت الخروج في أول فرصة مناسبة، دون ان يعيبني بعض البقع والكدمات والخدوش الثقافية على مرفقي وركبتي، وبعض الجسور والمحلقات والمنتجعات الديموقراطية في فمي. فلا بد أن تزول أو الفها مع مرور الأيام والسنين، فلن أتسلق الزجاج بعد الآن الى ما لا نهاية. وقررت أن أعوّض ما فاتني من مباهج الدنيا وأسرار الحياة، بعيداً عن القيل والقال، والمحطات الأرضية والفضائية، وأخبار السياسة والسياسيين، واستقبل وودع، وصرح وأعلن، وسافر، وعاد وفوقها بالسلامة. وبدأت أيامي الأولى بالمقهى الذي كنت أرتاده منذ سنوات، مكباً على أوراقي غافلا عن كل ما يجري من حولي، بالتعرف على العاملين فيه واختصاصاتهم وأجورهم وساعات عملهم، والمشروبات التي يقدمونها وأنواعها وأسعارها وترجمة أسمائها، وعلى زبائنه الدائمين والطارئين، وصرت أراقب الداخل والخارج، وأسأل من يكون هذا؟ وماذا يعمل ذلك؟ وهل هو معروف من قبلهم؟ وعن تلك السيارة الواقفة في مكان ممنوع، ومن يكون صاحبها حتى يتحدى القوانين؟ وعن تلك المغطاة منذ أيام كالجثة، وهل صاحبها في البلد أم مسافر؟ والى أين؟ ومن يكون؟ حتى ظن الجميع بأنني مجرد مخبر غرّ لا يستحق أي اهتمام وتجاهلوني بحذر واستخفاف. *** فانصرفت من المقاهي وضجيجها وغبارها وأقاويلها الى حارتي والى سكان البناء الذي أقيم فيه، أوليهم اهتمامي، وبدأت مهمتي بأن تدخلت ذات يوم، بأسلوب غاية في الكياسة والبراءة والتهذيب، بين جارتين تتنازعان على اسطوانة غاز، فتدخلت أطراف أخرى، فأخذت استوضح هذا، وأهدئ من روع ذلك، وأعيد واحداً الى بيته فيخرج اثنان، وعلا الصراخ وتبادل الوعيد والاتهامات، حتى تدخلت الشرطة واستدعي جميع سكان البناية الى المخفر لأخذ أقوالهم والادلاء بشهاداتهم، ووضع الكثير منهم تحت المراقبة والاستفسار عن طبيعة أعمالهم وميولهم حتى المسافرين منهم، لأنني أردت أن أعطي الموضوع بعداً اجتماعياً وحضارياً. *** ثم انصرفت عن كل هذا وذاك الى عالم الأناقة وحسن المظهر، وصرت أقضي معظم ليلي ونهاري أمام الواجهات مستفسراً عن الأسعار والمصدر والنوعية وتاريخ الانتاج، حتى صرت خبيراً بكل أنواع الألبسة ومقاساتها وطريقة غسلها وكيها وتعليقها، وكذلك الأمر بالنسبة للأحذية والجوارب والقبعات، ولكن المشكلة التي واجهتني وجعلت الباعة يتعوذون من الشيطان عندما أهل أو أقبل على محلاتهم رغم الكساد الذي يعانون منه، هي أنني اشتري كنزة اعجبني لونها في الواجهة، وعندما أجربها في البيت اكتشف أنها ضيقة، فأعود فاستبدلها بقميص فاكتشف أنه واسع، فاستبدله ببنطلون أو بيجاما أو حذاء حتى صار عندي: كومة من القمصان وليس عندي ربطة عنق واحدة. وثلاث بيجامات ولا أعرف طعم النوم. وأربعة أحذية ولا أعرف الى أين أذهب أو أسير. *** ثم انكفأت الى بيتي للتأكد من سلامة التمديدات الكهربائية والصحية والهاتفية. ثم غرقت في كتب الطبخ، وطريقة إعداد اللحوم والمعجنات والمقبلات والفطائر حتى حفظتها عن ظهر قلب، على الطريقة الفرنسية والايطالية والمكسيكية، وعندما دخلت المطبخ لأول مرة لأطبق كل شيء عملياً وبيدي قائمة بالوجبات التي سأعدها لأسبوع، وحضرت أول وجبة، دخلت ابنتي كلية الطب. *** ثم غرقت في عالم السحر والغيبيات، وقراءة الكف والتنجيم، وحسن الطالع وأبراج الحظ، وتفسير الأحلام، وتأويل المعجزات بين الباطن والظاهر، معتمداً على ما قيل عن قيل في هذا الموضوع، في الحكايات الشعبية على ألسنة المسنين وتجارب المعمرين، وعلى ما وصل الى يدي من كتب ورقى ومخطوطات، وما تفرده كبريات الصحف والمجلات، حتى الرصينة منها، لمثل هذه الأبواب، وصرت أناقش فيها معارفي وزواري على اختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم وأمزجتهم، وبكل ما يزدحم به رأسي من أحلام وكوابيس وتخيلات وما تزخر به حياتي من تجارب ومصادفات يعجز عن وصفها الخيال. وراعني برودهم تجاه حماستي، وسرعة انصرافهم وهم يتبادلون نظرات الشفقة والاستغراب مما وصلت اليه حالي. وكنت أكثر استغراباً ودهشة منهم لهذا الموقف، لأن كبار الراسخين في العلم وفي الحكم في الوطن العربي يحتفظون الى جانبهم بالمنجمين والعرافين، ليقرؤوا لهم طالعهم كل صباح، ويعرفوا مصيرهم في اليوم التالي. *** ثم غرقت في كتب التاريخ والأساطير عند الانس والجن، والقصص الخرافية، والخيال العلمي، وعجائب الدنيا السبع، وأسرار الفلك والكون والمستحاثات الأرضية والقطبية والنيازك والمجرات وغيرها من الأجرام السماوية. وعجائب وغرائب الحياة المفترضة على المجرات والكواكب السيارة والثابتة في أعماق الفضاء. وعجائب وغرائب الحياة الحقيقية والواقعية في أعماق البحار والمحيطات. فلم أجد أغرب وأعجب من حياتنا نحن العرب: بلادنا غارقة في المرض والجهل والبطالة والديون والعمالة والجنس والحرمان والمهدئات والمخدرات والوصولية والأصولية والطائفية والعنف والدم والدموع. ونحن مشغولون بغرق "تيتانيك".