بعد كل الذي حدث تبدو بيروت وكأنها استعادت نفسها لتخاطب الجميع بحديث واحد وروحية واحدة، قائمة هناك في ذلك المكان الذي يدعى "الوسط" فاتحة حواراً لا يخلو من الالتباس، هل الذي مرّ عليها كان حقيقياً؟ وهل الذي نشاهده الآن هو فعلاً سيرة متألقة لمدينة عرفت الاحباطات والفتوحات على امتداد قرون طويلة؟ لكن العين البصيرة لا يغالبها الظن، فالرؤية باتت واضحة ومكتملة وفيها الكثير من الصدق. ولعل أول الاجابات تأتي هذه الايام بالذات من تلك الشوارع التي تضم ما يسمى بسوق "البرغوت" وهو السوق القائم بين أبنية صفراء وبيضاء بهندسة كل المحتلين الذين مروا: من الأتراك باستعمارهم الذي دام نحو 4000 عام، الى الفرنسيين بانتدابهم بعد ذلك في بداية القرن العشرين. يبدو المكان وكأنه يعيد كل تلك القصص المنسية بعد ان رفع قوائمه متعالياً - خلال عقدين من النزف المتواصل - كظبي يختال في واحة بعد ان عرف معنى التصحر والجفاف. أناس من كافة أرجاء لبنان، ومغتربون، وأجانب، أتوا ليسمعوا "بعيونهم" حكاية المخاض الذي أعاد الحياة الى هذه الشوارع المتجاورة. عائلات بأفرادها كباراً وصغاراً، وشباب كثر جاءوا الى هذا المكان في "الوسط التجاري" من بيروت ليشكلوا حركة السوق الجديد "البرغوت"، ويصنعوا منه حدثاً مغايراً لتاريخ الشوارع في المدن اللبنانية، حيث الدخول بالسيارات اليه ممنوع، ما حوله كله الى شارع للنزهة. حضوره أشبه الى حضور الساحات الأوروبية بمعناها العريق كما في "براغ" أو "بودابست" تلك المدن التي تتحول ساحاتها الى مزارات ذات مناخ خاص، تفوح منه رائحة الأمجاد الغابرة. قالت أنجيلا توم وهي صحافية إيطالية: "غريب أمر هذه المدينة التي رافقت كل الأحداث التي ألمت بها، وكنا في الناحية الأخرى من العالم تتألم لجراحها، وها أنا اليوم أتيت لأشاهد بأم عيني ماذا حدث فعلاً لها، الا اني اصبت بخيبة جميلة، فلم أشاهد أي منظر للدمار او كارثة بحجم عشرين سنة حرب. ما أراه الآن هنا عمارة أنيقة فيها الكثير من المعالم الايطالية والأوروبية الموجودة في وطني. أنا من دون ان أعرف ماذا حصل فعلاً، أدركت بأن ثمة هنا شعباً ذا اصرار قوي على بناء كل ما تهدم وحيوية لا مثيل لها". "البرغوت" شارع حديث بمعناه العمراني المرمم وقديم كما هي الشواهد فيه. جديده انه يجمع على أرصفته تاريخ وطن وارثه من خلال السوق المستحدث الذي يفتتح الساعة السادسة بعد الظهر ويقفل ما بعد منتصف الليل. سوق حديث بشكليه المصطنع لأنه يضم على أرصفته عرض لكل "أنتيك" ممكن من هذا الشرق المتوسطي، حيث برع العارضون في ابراز حاجياتهم الأنيقة في شارع يولد حديثاً من غرفة العناية الفائقة بعد ان عادت اليه عافيته فتحول الى مناسبة "كرنفالية" يطيب معها السهر والسمر والتجوال والحديث، والهرب من مدينة تتشح بالاسمنت المسلح والباطون الذي شوّه سحنتها، نحو مكان عريق بهيآته وجليل بأناقته. هكذا يبدو هذا السوق معرضاً في الهواء الطلق يجمع في أزقته الأنيقة كافة الأذواق والميول والمتطلبات المتناقضة والمجتمعة عند حد "الفرجة" الممتعة. الضياع عند بوابة السوق ليس تيهاً، فحثيث الخطى يدلك على المكان المقصود لتتفاجأ بشرائط ملونة مرفوعة كسور للسوق يحرسه جنود، يسهلون مرور السيارات المزدحمة نحو الشوارع الأخرى ويمنعون وقوفها في الجوار. جو الاستقبال تعرفه قبل الوصول فيبدو كمناسبة عيد قوامها الفرح والحفر في الذاكرة، لا سيما أثناء الغروب حين ترتفع مئذنة الجامع بالآذان وتقرع أجراس كنيسة "مار جريس" بالصلاة، فيتلاقى الصوتان في جوار خطوة مفصولة بينهما، ما يعلن بأن الذي مرّ كان هراء باهتاً دفع ثمنه شعب بكامله، ومدينة كانت تريد غير ذلك التاريخ، الذي دعوه بالطائفية. ولأن السوق عربية فرائحة النراجيل تبدو طاغية في المكان ترحب بالضيوف الآتين من أماكن بعيدة، وتفتح أمامهم السجاد الملون ذا الأعمار المتفاوتة وكلها موغلة بالقدم، وغالية الثمن. يقول أحد اصحاب محلات مكتبي للسجاد: "كان لنا محل هنا، ولأن ذلك الزمن كان زمننا رأينا من الافضل لنا ان ننساه ونمشي ورأينا في عرض سجادنا هنا في وسط الشارع وعلى الأرصفة دليلاً على التشبث بالبقاء، وعراقة لإسمنا في هذه التجارة، فهدفنا من العرض ليس تجارياً بقدر ما هو نوع من التحدي القائل إننا باقون وعائدون الى حيث كنا منذ زمن نعلن رجوع الماء الى مجاريها صافية نقية". في هذا المكان الذي يشبه في مجموعه مغارة علي بابا يمكن لكل باحث ان يعثر على غنيمته التي يفوز بها، وكل مشتاق يجد فرصته في السلوان، حيث موزاييك العرض المدهش يغري الخيال على التأمل والدهشة: تحف من جميع البلدان والعصور، مقتنيات قديمة، مطاعم جديدة تقدم وجبات من كافة أنحاء العالم. طاولات مرصوفة عند زوايا عديدة تستقبل كل مشته حسب طلبه، وكل ذلك والصمت يلف المكان، لأن دهشة العين تغلب نطق اللسان، فيروح الخيال نحو التأمل والاكتشاف اكثر منه نحو ثرثرة الكلام. تقول هند مجاعص احدى الزائرات اللواتي التقينا بهن في أمسية ذلك اليوم: "فجأة وجدت نفسي هنا في "الوسط"، تائهة أبحث عن عنوان وإذ بي أرى هذا الجمع الغفير من الناس يمشي، وكأن بهم سحراً كلهم يشدون خطاهم في اتجاه واحد فرحت أواكبهم، أفتش معهم عن شيء ما، بدا لي سراً في بادئ الأمر، وأكملت معهم بحثاً عن "عنواني" الضائع، وإذا بي أجدني مشدودة نحو مدينة كنت أظن أني أعرفها. وفجأة اكتشفت أني أتعرف عليها من جديد. فتابعت الموكب وسرت نحو الجمع الكثير ورأيتني هنا أستدل على العنوان الأجمل ونسيت ما كنت قادمة من أجله، لم أكن أعرف ان لبيروت كل هذا الجمال، وكل هذه الطقوس في إبراز مفاتنها. وحين تجلت هذه المناظر أمام عيني، زرفت دمعة فرح وقلت: هل كنا نستأهل كل الذي حلّ بنا؟ هل تعلمنا كيف يجب من الاساس ان لا نتباعد فيما بيننا، نحن الذين قتلنا روحنا؟ ها نحن اليوم نتفرج على جمال ما فقدناه، بعد ان دفعنا الثمن كبيراً. وكأن ذاكرتنا تعيدنا الى مكان ما في أعماقنا وتحاكينا بصدق عميق وبمرارة أعمق". ماذا يمكن ان نرى في هذا السوق - "المعرض" او أحياناً "المتحف" المبسوط الأرجاء في شارع ليلي؟ تنقله أضواءه الى حالة نهارية مفعمة بالحركة والنشاط؟ بشكل اجمالي ما نراه هو مقتنيات تاريخ أسلافنا الذين مضوا وبقيت موروثاتهم او أعمالهم محفوظة لتدل على ما كانوا عليه. طريقة عرض البضائع ليست تقليدية، كما هو معروف في شوارع المدن، طريقة فيها مبالغة في فرض الذات ومبالغة في الترحاب حيث الواجهات ملغاة، والأبواب أيضاً، كل شيء في هذا الشارع مشرّع ومفتوح نحو الخارج ليصبح داخلاً موغلاً في المعاني، تفتح شهية المتفرج على الشراء ليس لحاجة له في الغرض، بل ربما ليأخذه تذكاراً من مدينة يمكن ان تحوي تاريخ الأمم كافة. أشياء، أشياء من كل حدب وصوب اجتمعت هنا. فالعارضون ليسوا كلهم من التجار بالمعنى المعروف لهذه الكلمة. بل ان بعضهم من أصحاب الهوى والهواية، من الذين لم يأتوا الى مثل هنا بغية الربح المادي، بقدر ما أتوا نتيجة ذوق أو "مراق"، فمنهم من جلب أشياء من فولكلور الهند أو الصين، أو باكستان، وسواهم عرض كرسياً من عهد نابوليون، وآخرون عرضوا قداحاتهم أو ساعاتهم النادرة والغالية الثمن من أجل إبراز فنية ما يعشقون، وبعضهم وجد فرصة في عرض أوانٍ قديمة من صنع يدوي، أو أعداد الجرائد الأولى وكأن كل واحد منهم دليل سياحي أو تاريخي لهذه المهنة أو تلك الصناعة يروي مشاهداته وخبراته. سوق "البرغوت" سوق فنية بالمعنى المكتمل للكلمة رسامون يرسمون بحبرهم الطازج آخر إبداعاتهم، أو عازفون يعزفون لساعات طويلة أناشيد أرواحهم ولغتهم التجريدية مقابل الشيء القليل من المال. الكل يتذكر والكل يريد ذاكرة ساخنة تتواصل مع الآخر، علّهم يصنعون خبراً حديثاً يزيل الأخبار السوداء القاتمة. يقول أحدهم ومعه أحفاده الصغار، "أتيت الى هنا لأقرأ لأحفادي تاريخ الأجداد. كان لي محل لبيع الأقمشة في منطقة باب ادريس، الأثواب كانت مشقعة من الأرض الى السقف لحظة أتت القذيفة وأحرقت جنى العمر، ونفذت بريشي هرباً نحو الحرب وصولاً الى الأشرفية، وبعدها اسودت الدنيا في عيني وغادرت لبنان الى باريس، وتراني الآن أعيش فصولاً لا يمكن نسيانها. علّ أحداً من ذريتي يعيد لي الحلم المحروق، والرماد الذي اندثر في شعلة نار". هذا هو اليوم "الوسط" البيروتي يعيد تنفس هوائه عبر رئة جديدة، بعمارة لماعة، وساعة عادت تدق من جديد أوقات الزمن الحديث، علّ الذي سيأتي الآن يكون أفضل مما مضى