بعدما نفضت بيروت الغبار عن وجهها، ها هي تسدل جدائلها لشوارع مضيئة، ومقاهٍ مزدحمة، ومطاعم أنيقة تنتظر الاحباء لتعلن لهم عودة الحب المنتظر وأوقات المواعيد الجميلة. حين قتلت بيروت خنقاً بالنار والدخان واستشهدت أجمل معالمها الثقافية والحضارية، شيع مقهى "الأكسبرس"، و"الهورس شو"، و"الدولتشي فيتا"، و"اللاروندا" و"الأنكل سام" و"مطعم فيصل" الى مثواهم الاخير، وصاروا كلهم من ضحايا الموت الساخن والزمن المسافر على حسرة. أمكنة تهاوت لتبقى محفورة بعمق في وجدان الجميع. تخاطب الأجيال الجديدة بألوان الفرح الغاربة، وتحث أفكارهم على ضرورة التواصل مع الذي أقفل أبوابه على غير رجعة. واحد من أبناء هذه الأجيال وأحد الذين يجدون متعة في ارتياد المقاهي الحديثة وتمضية ساعات التأمل من فوق طاولاتها يقول: "نحن جيل يكبر على كل شيء، نبحث في طيات الماضي، عن حلاوة رحلت، ونتقصد أن لا تموت، فمن لا ذاكرة له لا حاضر له. من هذه الشوارع المحفوفة بالقضايا الانسانية كافة وبالحرية، والجمالية. أتينا نعلن ثقافتنا التي شربناها من حيث لا ندري، نكبر على ذاكرة سوانا، ونردد أشعار محمود درويش والبياتي وسواهما لندرك اننا هنا ذوو جذور، يقولون طاولات المقاهي القديمة هوت ونحن لا نعرفها، لكني أجدها ماثلة كفكرة في أعماقي، أحاول أن أضع لها أرجلاً توقفها ولا تكسرها. فبيروت مدينة تعرف كيف تتعايش مع الحاضر من دون ان تنسى الماضي او تتنكر له". يقال إن المقاهي بسيرتها ونشأتها بدأت في تركيا، ومنها انطلقت فكرة ال Cafژ في أوروبا وسواها. وصار كل بلد يسقط هويته على مقاهيه حتى يتم التماثل. ولبنان الذي عاش في ظل الاحتلال التركي اكثر من أربعة قرون تأثر بما أدخله هذا المحتل وراح يسقط عليه من ذاته. بدأت المقاهي اللبنانية تنبت كالعشب البري، وبسمات تشبه شعباً ذا إرث ويعيش بدايات القرن العشرين، فكانت مظاهر الرجولية والاعتداد بالنفس والقصص والخبريات، وتناول الأخبار والتحدث عن الماضي والمستقبل ومناقشة العنتريات، تبدأ من تلك المقاهي البدائية التي عرفتها بيروت، وعرفت معها رجالات وشخصيات أسطورية، مثل "أبو عبد البيروتي"، و"شيخ الشباب"، و"القبضاي". وكانت الضيافة فنجان قهوة او شاي ونرجيلة. وكان دخان التنباك يعم تلك المقاهي التي ما زالت ماثلة مع "حداويتها" ولا سيما حكايات "الزير" و"عنترة" وقصص "الحكواتي" المشهورة، وأصوات حجر الزهر وحشرجاته على الطاولات المزخرفة. هذه اللوحات القديمة للمقهى لم تنعدم اليوم في بيروت كلياً لكنها انحسرت نحو الاحياء الشعبية التي ما زالت تشهد ترداد صور لمقهى بيروتي عتيق، وفي طليعتها "قهوة القزاز" النائمة في شارع الجميزة. فعلى باب "قهوة القزاز" علق الكثير من الأحداث التي ماتت وتركت قلقاً مفتوحاً على عصر الأنترنت الذي لا يقبل هذه الراحة المستباحة. ومضيعة الوقت الا عند الذين لا شغل لهم ولا عمل ككبار السن و"العواطلية". قصة المقاهي في بيروت لم تولد صدفة، وإن بدت كذلك. فمع انطلاقة "الأنكل سام"، في أواخر الاربعينات والذي أخذ يومذاك شكلاً مغايراً لمألوف المقاهي السائدة في بيروت صار المقهى ذا طابع أميركي حتى يتماشى مع عجلة الحركة المستجدة ومردها إلى الجامعة الأميركية والسفارات الأجنبية في محيط شارع بلس. هذا الشارع الذي عرف نهضة مزجت بين الأميركي أو الأوروبي القادم من بلاده ليعمل في التدريس الجامعي أو كموظف سفارة أو مستثمر يبحث عن مناخ هادئ من جهة، والروح اللبنانية المتسمة بالضيافة والأناقة وحب الإختلاط مع الآخرين من جهة ثانية. ومن تلك "الكوة الصغيرة" ظهرت أسطورة شارع بلس الضيق والمطوي عند حافتي مستشفى الجامعة الأميركية من جهة وعمود المنارة من جهة أخرى. ولا يمكن تذكر هذا الشارع اليوم الا بالعودة الى "مطعم فيصل" الذي شكل سطوراً في كتابات غادة السمان وروايات ليلى عسيران، وذكريات أمين الحافظ ومحطة لإحسان عبدالقدوس. "مطعم فيصل" كان رمزاً لتجمع الأدباء والمثقفين ومنبراً لطرح الأفكار، وكلمة تتشكل في رواية قادمة، أو حركة في مسرحية أو بيتاً في قصيدة، وملتقى لأبطال عاشوا قصص حبهم الأول وظلوا يتشبثون بها. فكان أوسع من طاولة تقدم الأطباق وأبعد من مكان للراحة والتنفس. كان يحتضن خلجات الصدور، والعقول المتقدة بأفكار التحرر والنهضة، والإرادة التي تريد ان تبني مستقبل القومية العربية، "مطعم فيصل" قاوم في صموده خلال الحرب وبقي يتنفس ويصارع حتى يحافظ على البقية الباقية، الى ان لفظ أنفاسه الأخيرة في تشرين الثاني نوفمبر 1985. وفي اليوم نفسه صمتت ساعة الجامعة الأميركية المواجهة له بعدما كان رنين دقاتها يسمع في أرجاء رأس بيروت كافة. وتحولت جدران "مطعم فيصل" و"الأنكل سام" ملصقاً لصيحات الدمار والقتل بعد ان كان يعلق عليها آخر البرامج الأدبية والموسيقية والفنية. إن شارع "بلس" الذي عرف صيحات المقاهي الأميركية المستحدثة في الأربعينات، شكل حضوره المفاجأة الممتعة لمدينة تريد ان تتعايش مع حضارة تدق أبوابها لأول مرة بالوجبات السريعة، وقد ضم "الأنكل سام" والى جانبه "الكوين" الذي جمع على طاولاته متذوقي القهوة الأميركية، وحاولت شوارع أخرى متاخمة له كشارع عبدالعزيز وجان دارك ان تولد نبضاً تواصلياً لما بدأه "بلس". لكن الحياة فيها لم تعمر طويلاً، وربما يعود السبب الى طبيعة هذه الأمكنة المخنوقة التي لم تتوافق مع المدى الواسع والحركة الكبيرة التي كانت تشهدها بيروت في تلك الفترة. ثم ظهر شارع الحمراء "كسيد"، فضم على أرصفته أعظم الحركات السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية التي عرفتها بيروت. وشهد ولادة مقاهي الخمسينات والستينات التي شكلت البيت الأول لكبار المثقفين والسياسيين القادمين لزيارة مدينة تشبه الزمن الوردي. "الهورس شو" كان الاول في سلسلة هذه المقاهي ثم تبعته اخرى محاولة تقليده ك"ستراند"، و"الأكسبرس"، و"كافيه دي باري"، و"الويمبي"، و"المودكا" ثم "الدولتشي فيتا" في الروشة و"اللاروندا" في ساحة البرج وسواها. وصارت هذه المقاهي وجوهاً تتنوع ملامحها مع كل وافد او مقيم في المدينة. وفتحت هذه المقاهي صدرها لأشعار الفيتوري وعبدالوهاب البياتي، وروايات غسان كنفاني وغادة السمان وإحسان عبدالقدوس، ومعين بسيسو، فأعطتهم آخر الملامح الثقافية، وأعطوها ثمرة إبداعهم. أما الحاضر أو المقيم في بيروت، فكانت هذه المقاهي تشكل لهما الشاهد لتفتح ابداعه وصارت منبراً لجدالات سياسية وفنية وثقافية. ولم يعد بالامكان تذكر قصيدة لأنسي الحاج من دون الاشارة الى الطاولة التي يتناول عليها عشاءه، أو مقالة لغسان تويني من دون الرجوع الى مقعده الخاص، وكذلك الحال بالنسبة للوحات رفيق شرف، ومنحوتات الأخوين بصبوص، وألحان فيلمون وهبة، وأغنيات زكي ناصيف، ومسرحيات نضال الأشقر وروجيه عساف، أو كلمة ممنوعة تقولها أديبة ككوليت خوري أو ثورة تطلقها غادة السمان. ومع بداية الحرب بدأت هذه المقاهي تتهاوى واحداً تلو الآخر. و"الهورس شو" الفاتح الأول كان المغادر الأول، فأقفل أبوابه في العام 1978 معلناً بداية مرحلة "استشهادية". ولم يبق من هذا المقهى الجميل الذي شكل محطة "الانتلجانسيا" سوى مطعم محدد على الرصيف يبيع الوجبات السريعة اليوم، ويحكي قصصاً يصعب نسيانها، ويصعب تكرار فصولها. شارع الحمراء المميز بامتداده المستقيم كالنظرة الثاقبة في العين، أصاب ازدهاراً لم تصبه أية شوارع أخرى في بيروت، مهما حاولت تقليده، وبقي حتى اليوم شارع الأماني، شارعاً يختصر دفء المدينة وبردها، وفي هذا الشارع مثلث يشبه القلب بمعناه ومكانته ما زال يكافح في الاستمرار حتى اليوم، هو مثلث "المودكا" - "الويمبي" - "الكافيه دي باري". قرن جديد بزغ، وألفية ختمت فصولها وبقيت هذه المقاهي الثلاثة في الحمراء تحمل جمر الماضي، وتحاول ان تشعل نار الأيام الجديدة بنكهة تلائمها. التاريخ يروي أحداثاً مشرقة جرت في أرجاء هذه المقاهي. فأحد الزبائن التاريخيين الذي ما زال يواظب على جلسته في مقهى "الويمبي" يقول: "من هذا المكان كانت العملية الاولى للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، فمن أجمل الايام التي سجلت في تاريخ بيروت كان يوم قدم ثلاثة ضباط اسرائيليين وطلبوا ما طلبوه من نادل المقهى، وحين أتى الحساب، رفضوا الا ان يدفعوا بالشيكل، ورفض النادل الا ان يقبض بالليرة اللبنانية، واحتدم النقاش حتى وصل اسماع الشاب خالد علوان الذي تقدم مرحباً على طريقته "بالضيوف الجدد"، وبقلب من حديد وبيد من نار أطلق ثلاث رصاصات من مسدسه وأرداهم قتلى على الفور. وهكذا شكّل "الويمبي" أرضاً مقاومة ودرساً للعدو يصعب نسيانه. بقيت عملية "الويمبي" تتفاعل في أذهان الاسرائيليين وتميتهم رعباً. ومن شرارة مسدس علوان في "الويمبي" انطلقت نيران المقاومة ضد اسرائيل في كل أرجاء بيروت من الكولا الى كورنيش التلفزيون وصولاً الى مثلث خلدة، فما كان من الاسرائيليين الا ان جروا أنفسهم برعب مغادرين مدينة شكّل أحد مقاهيها مسرحاً للنضال أدى إلى فرار عدو يخاف كيف يتعامل مع مدينة، تسكن المقاومة حتى في فناجين قهوتها". "الأكسبريس" آخر مقاهي الجيل القديم لبيروت أقفل عام 1986 بعد ان شحّ رواده وأقفرت طاولاته بعدما صارت شوارع بيروت مسارح قتال وقنص بين المتحاربين، وصارت الراحة قضية مستعصية عند شعب يفتش عن لقمة طعام أو قطرة ماء غير متوافرة في المنازل. يومذاك كان كل شيء يسافر حتى الضوء، وصارت بيروت مدينة ليل مطفأة حتى من نجومها، وصار "الحمراء" شارعاً متوحشاً يعيش الانتظار ويترقب العودة مع عودة السلام. تحول "الأكسبرس" ومع الوقت الى مطعم... بيتزا. وقد نشأت في بيروت بعد الحرب مقاهٍ جديدة تحمل سمة العصر السريع. فكان مقهى "السيتي كافيه" لصاحبه منح دبغي، صاحب "الهورس شو" الذي حرص على ان ينقل اليه كل خبرته وكل ذكرياته فعلق على جدرانه صوراً لشخصيات كانوا من زبائن المقهى القديم، فطعّم الحاضر بالماضي، في محاولة للقفز على المرارة ورسم سيرة جديدة تكون أقرب الى الواقع، وقد نجح دبغي في توصيف "السيتي كافيه" كمقهى يتجمع على طاولاته السياسي، والصحافي، والمثقف وعابر السبيل. فيقول: "أحاول وأنا أتعامل مع زبائن المقهى ان أكون كالقائد الذي يضبط عساكره المتململين، أجرب أن أجمع في المقهى الجديد كل المشارب والآراء من خلال فكرة جديدة مغايرة لمفهوم المقهى السابق، فالمقهى لم يعد مجرد مكان لتناول فنجان قهوة او لقاء سريع فحسب، بل صار مكاناً لتناول الغداء او العشاء بطريقة تتلاءم مع مستحدثات العصر". ويعتبر "السيتي كافيه" عند زاوية يقفل بها شارع الحمراء وتتاخم منزل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والجامعة اللبنانية - الأميركية، مكان لقاء يكثر فيه الكلام، ويعكس حالة ديموقراطية لنقاشات حادة تدور بين مرتاديه خصوصاً ان أكثر زبائنه من "أجواء الحريري" وهو بمثابة فشة خلق للمعارضين والموالين لرئيس الوزراء السابق. استطاع "السيتي كافيه" ان يعطي المقهى البيروتي نكهة خاصة بحيث ان الحوار الثقافي او الفني لم يعد وحده ما يميز المقهى بل هناك الحوار السياسي وحوار الراهن، وتجاذب الاخبار وتناقلها. "كل شيء يتبدل اليوم" كلمة قالها الموسيقار زكي ناصيف حين راح يصف بيروت كمدينة تحاول خلق صورة جديدة لها، "فشباب اليوم ليسوا كشباب الامس، واهتماماتهم غير اهتمامات الاجيال السالفة". وما قاله زكي ناصيف ينطبق فعلاً على الحال السائدة في هذه المدينة، فهناك شوارع ولدت من رحم غير مشهورة، وصارت قبلة الناس ومكان ازدحامهم، فشارع "مونو" الضيق الذي لا يتسع لمرور سيارة يحشر في أزقته اليوم العديد من المقاهي المستحدثة الى جانب المطاعم الاجنبية، ويعتبر المكان الذي يضم روح الشباب الواعدة بفنهم وثقافتهم، حيث يوجد المعهد العالي للموسيقى، ومسرح مونو والجامعة اليسوعية. لقد استطاعت مقاهي مونو ان تستقطب شلة الشباب الذي ولد في الحرب، وباتت له نظرة مختلفة. فأمس كانت الانقلابات، والتحديات والثورات، أما اليوم فان بيروت التي شهدت مع نهاية القرن آخر انطفاءات هذه الافكار وعاشت أجمل أيامها وأكثرها إيلاماً، تحاول ان تمد من ماضيها جسراً نحو حضارة فيها طعم الألفية الجديدة، تغير كل شيء وصارت الثورات والانقلابات والمثل العليا جزءاً من ماض جميل. لقد فرَّخت، وفي بيروت مقاهٍ أوروبية وأميركية، تحتاج لائحة المشروبات والأطعمة فيها الى مترجم يجيد شرح آخر الوجبات العالمية وطريقة تقديمها. والعناوين لا تضيع فهي حيث الزحمة في شارع فردان، وفي الأسواق التجارية المطلة على آثار بيروت العتيقة من أيام الرومان، أو في ساحة ساسين في الأشرفية حيث الأرصفة ساحة لقاء تحتاج الى حجز مسبق. يقول فادي هواري وهو في العقد الثاني: "المقهى مكان لكسر الروتين والتعرف على أصدقاء جدد، هو قاعة انتظار، صديقة، او صديق، ولكن ليس لي كرسي واحد محبب في مقهى معين. الأجواء النفسية تلعب دوراً في اختيار المقهى الذي سأذهب اليه، فمونو لعطل الأسبوع، وبعد الخروج من المسرح، والأشرفية لأوقات المساء لأن الليل يحول ساحتها المضاءة الى بقعة أنس هادئة بعد ضجيج النهار، اما مقاهي وسط بيروت فأقصدها في وقت الغروب هرباً من المدينة الكئيبة والناعسة. ففي تلك الساحة القريبة من البرج حيث الأبنية ما زالت حديثة وغير مأهولة تنتظر سكاناً مجهولين يحلو لي الجلوس مع الأصحاب او حتى وحيداً. لصغياً الى أصداء التاريخ المحفوف بالأحداث منصتاً إلى أفكار تحمل تساؤلات عدة عن جدوى المستقبل". هذا جزء من حكاية المقاهي في بيروت، المقاهي التي تحاول ان ترسم لنفسها حضوراً، مفتوحاً على بوابة الحنين، والأحلام والأيام المقبلة