يقول وسام، وهو صحافي يداوم على الجلوس في مقهى "ستار باكس" في شارع الحمراء، إنه يشعر بأن المقهى هذا هو من أكثر المقاهي"اشتراكية"في تاريخ الشارع الذي مرّت عليه كلّ الأحزاب السياسية ومناصروها. يبرّر ذلك بأن هذا المقهى الأميركي، يتمتع برحابة لا مثيل لها في مساحاته، وفي أجوائه، ويتمتّع من يجلس فيه بحريّة نادرة في التعامل مع الطاولات وأمكنة الجلوس، وشراء أو عدم شراء الأطعمة والمشروبات التي تباع هناك. ويتابع وسام تفنيده وشرحه لنظريته، قائلاً إن في ال"ستار باكس"لا يوجد ما يسميه ب"ملكية خاصة للطاولات"، كما كان يحصل في مقهى المودكا سابقاً، أو الويبمي اللذين أغلقا قبل فترة ليست بعيدة، حيث يصادر المثقفون والكتاب المقاعد والطاولات، ويوصمونها بأسمائهم، فلا يعود أحد يجرؤ على الجلوس في أمكنتهم، كما لو أنها كراسي رئاسية. فالبعد القومي والعروبي لبعض المقاهي وأمكنة السهر في الحمراء، التي ذهبت أدراج الهزائم والانتكاسات، لا يمكن أن تجده داخل المقاهي التي تنشد الربح والروّاد الكثر، أي المقاهي الرأسمالية. مقهى الويمبي الذي ارتبط اسمه بشهيد الحزب القومي السوري خالد علوان، استشهدت هي أيضاً على مذبح"الميسر"القومي. وإذ حل مقهى الستار باكس في الحمراء قبل أعوام كجزيرة صغيرة معادية للمحيط، تبدى كأنه تجربة مجنونة، لا يسعها الاستمرار في ظلّ العداء الذي يكنّه جزء لا يستهان به من روّاد الحمراء للأميركيين وسياساتهم في المنطقة العربية. إلا أن تجربة ال"ستار باكس"في الحمراء سرعان ما أخذت تتبلور بصفتها إحدى أكثر التجارب"الأميركية"نجاحاً في شارع"الثقافة والتجار البياعين"، كما يغنيه خالد الهبر، إذ يشهد المقهى يومياً إقبالاً واسعاً من روّاد ينشدون الهدوء والجمع بين مكاتبهم ومنازلهم في الآن عينه. هذا فضلاً عن تناولهم أنواعاً مختلفة من القهوة الممتازة واللذيذة والمحضّرة بسرعة. والحق، كما أشارت مقالة للصحافي إيمانويل ريشار في جريدة"ليبيراسيون"الفرنسية، نشرت ترجمتها"الحياة"،پ"ان"ستاربكس لا يبيع القهوة وحدها. فهو يسبغ على زبائنه مرتبة اجتماعية يرغبون في بلوغها، بحسب المؤرخ برييان سيمون. فپ"ستاربكس"كان ثورة صغيرة في الاماكن التي لم تعرف مقاهي الزاوية من قبل". ويتابع ريشار وصفه لل"ستار باكس"، كاتباً:"يرتاد هذا المكان 40 مليون مستهلك في العالم، ويشترون نكهات القهوة التي يتذوقونها في مكان دافئ وحميم، وهم يقرأون الصحف، أو يتسامرون مع أصحابهم، أو يستخدمون الكومبيوتر المحمول ويستفيدون من خدمة الانترنت. ومقاهي"ستاربكس"فسيحة ومريحة، وتلطّف جلساتها موسيقى الجاز الخفيفة. وفي الصيف، يسطو المراهقون على هذه المقاهي للتنعم بمكيفات الهواء البارد. وهي أماكن ممتعة لم يعهدها الأميركيون من قبل، ويشعرون فيها بالراحة. فشراء مشروب"ستاربكس"يكاد يكون نوعاً من العلاج". وأخذ"ستار باكس"يسطو على روّاد المقاهي الأخرى، بعدما ظهر للعيان، وعبر التجربة أنه مكان يستطيع فيه المرء أن يكون معادياً للأميركيين، أكثر منه في أمكنة أخرى، كما أنه يمكن أن يكون أكثر"إشتراكية"على ما وصفه وسام الصحافي، من مقاهٍ أخرى يلعب النادل فيها دور الرقيب على صحن السجائر، كما يعلّق شاب اسمه محمد، اختار"ستار باكس"بدوره كمقهى يومي. وتزامن انطلاق"الستار باكس"مع حملات مقاطعة كثيرة استهدفته، وتناقل الناس خلال حرب تموز الأخيرة رسائل الكترونية تحذّر من ارتياد"ستار باكس"لأنه، بحسب إدعاء الرسالة، يدعم الحكومة الإسرائيلية، وتذهب أرباحه كلها إلى العدوّ الصهيوني. كذلك يقول حيدر المعادي للأميركيين، الذي يجلس إلى طاولات"ستار باكس"، لكنه يقاطع بضائعهم، يجلس مع أصدقائه ويتكلم ضد السياسات الأميركية، وضد الثقافات الأميركية حتى، لكنه لا يشتري ولو فنجان اكسبرسو واحداً، ولا يدفع ليرة لبنانية واحدة على الصندوق الذي يعتبره مصدر تمويل للعدو. أما علي، المعادي للأميركيين أيضاً، فيدخل ال"ستار باكس"ليتخلص من قذارته في حمّاماته وحسب. يقول إنه كلما مرّ في شارع الحمرا وكان في حاجة إلى دخول الحمّام قصد ال"ستار باكس"، حيث يمكن أياً كان أن يدخل ويتصرف كما لو أنه زبون دائم. فيما أحمد، المغترب في الخليج، فيعتبر أن ال"ستار باكس"هو وطنه"الأول"حيثما ذهب، فلا تتغير عليه التقاليد ولا مذاقات القهوة، ولا الكراسي والطاولات، ولا نوعية الطعام. يقول إن هذا المقهى يعطيه هوية وانتماءً لا يشعر بهما لا في لبنان، وطنه الأم، ولا في الخليج حيث يعمل. منذ فترة ليست ببعيدة، بدأت تتغير مفاهيم الناس في تعاطيهم مع المقاهي. ما استدعى تغييرات جذرية في طريقة تعامل المقاهي مع روّادها، ما ينسحب على ديكورات تلك المقاهي والخدمات المتوافرة فيها، إضافة إلى نوعية المشروبات والأطعمة المقدمة داخلها. والحال إن الحمراء راحت تنسج علاقة خاصة بنوعية جديدة من المقاهي، بدأت تظهر فيها بدلاً من أخرى قديمة ذهبت إلى الإقفال. ف"الهورس شو"تقاعد وترك مكانه لمقهى إيطالي يدعى"كوستا"، وهو مقهى ذو طراز حديث، ويحتوي على مميزات في الخدمة والديكور، ويجمع بين مكان للأحاديث الحميمة، ومناخات خاصة للطلاب كي يدرسوا، أو للعمّال كي يستريحوا أو يبحثوا على الإنترنت عن معلومات، عبر الخدمة المجانية التي يقدمها المقهى لأصحاب الكومبيوترات المحمولة. و"الكوستا"على رغم طابعه الإيطالي، يشبه"ستار باكس"في مناخاته، وفي الخدمات التي يقدمها، عطفاً على نوعيات القهوة فيه. ولكن ثمة من يقول إن"ستارباكس"أكثر هدوءاً، وأكثر رحابة، ويناسب الناس الذين ينشدون العمل والدراسة. "تاء مربوطة" وفي الحمرا أيضاً، التي بدأت تكثر فيها الخيارات، ظهر مقهى"تاء مربوطة"كتجربة جديدة و"محلية"في تعاطيها مع مفهوم المقاهي، فهو إلى كونه بعيداً عن الشارع الرئيسي للحمراء، واستقراره في الطبقة الأولى من أحد الفنادق الرخيصة، يتمتع بميزات تختلف كل الاختلاف عما يوجد في"ستار باكس"أو"كوستا"أو سواهما. فهو يجمع بين الحانة والمقهى والمطعم والمكتبة العامة. ويشهد نشاطات ثقافية وسياسية أسبوعية، من أمسيات وندوات وقراءات، إضافة إلى الحفلات والسهرات، حيث يختلط إرتطام الكؤوس بالموسيقى الراقية التي ينتقيها القائمون على المكان بعناية بالغة. لكنّ ما يؤخد على مقهى"تاء مربوطة"أنه راح يسقط في تكرار الوجوه التي يمكن أن تراها فيه، وهو الأمر الذي أدى"الويمبي"و"المودكا"ربما إلى الإقفال. فتنوّع الروّاد وتجدّدهم يحرّك الركود الذي قد تعاني منه"تي مربوطة"أو غيرها، وهو الأمر الذي يمكن أن تلحظه بسهولة في"ستار باكس"، إذ من الصعب أن تدخل يوماً إليه من دون أن ترى وجوهاً جديدة قرب روّادها الدائمين، طبعاً مع عدم حصرية أي مكان من أمكنة المقهى بزائر دون آخر، ومع اعتماد اسلوب"اخدم نفسك بنفسك"بديلاً عن فكرة النادل والخدمة على الطاولات، وهو أمر يريح الروّاد، ويعفي النادل من مهنة التطفّل التي لا يقصدها، بقدر ما يقوم بعمله الذي انتدب لأجله. وپ"تاء مربوطة"يبدو مرتبطاً أساساً بجمهور شبابي، فيما تحضر فئات أخرى في شكل خجول، وتستقطب أمكنة أخرى مروحة أكبر من الفئات العمرية والإجماعية، ويختص بعضها بنوعية محددة من الروّاد. مقهى"ليناس"، يبدو لسمير، أحد مرتاديه،"كأنه ارستقراطي"على حد تعبيره، على رغم اسعاره المقبولة نسبياً. فروّاده وأجواؤه وطقوسه، كلها أمور توحي بأرستقراطية ما. فلا تجد فيه إلا السياسيين ورجال الأعمال والصحافيين والإعلاميين، طبعاً، مع قلة من الطلاب الذين قد لا يجد معظمهم ما يناسب عمره، خصوصاً أن الدراسة في مجموعات لا تبدو متناسبة مع المكان، الذي يعدّ فاخراً، ومناسباً تماماً لاجتماعات العمل. و"ليناس"على عكس"تاء مربوطة"يتمتع بأجواء هادئة جداً وموسيقى رائقة تراعي نوعية الروّاد الآتين للتحدث بأصوات خافتة عن أعمالهم ومشاريعهم، أو عن سياسات البلد. تقول لينا مؤكدة تنوّع المكان وفرادته:"هنا تجد وجوهاً معروفة من معارضين وموالين، من قوميين عروبيين، وليبيراليين رأسماليين. من بعثيين إلى متأمركين، من شعراء وكتّاب وأدباء، وأساتذة جامعات وممثلين ورسامين". ولكن تبرز اليوم في الحمرا خيارات أخرى من مطاعم ومقاه متنوعة راحت تنبت على ضفتيّ الشارع الذي غناه خالد الهبر بأنه"شارع الثقافة التجار البياعين"، ومن بين تلك الخيارات مقهى جديد بدأ يكتسب سمعة واسعة بين روّاد الشارع، وهو"غرافيتي"، مقهى ذو طابع غربي وعصري، يجمع كما"تاء مربوطة"، بين المقهى والحانة، ويفتح حتى ساعات متقدمة من الليل، ويوفر خدمة جيدة لمريدي الإنترنت. ترى هل غابت المقاهي"الثقافية"من شارع الحمراء، تلك المقاهي التي صنعت مجدها تبعاً لروادها الذين سمون"أهل الثقافة"؟ الجواب، لعله بات واضحاً: لقد تفرّق المثقفون بين الجمهور الجديد للمقاهي الجديدة وبات من الصعب عليهم أن يصنعوا مشهدهم الخاص وسط هذا العالم الجديد. وإذا كان مقهى"كافيه دو باري"دخل مرحلة الشيخوخة ولم يعد يستقبل إلا حفنة من العابرين فإن مقهى"سيتي كافيه"الرابض في آخر منطقة الحمراء ما زال يحافظ على طابعه الثقافي ليس من خلال بضعة مثقفين يصرون على ارتياده فقط بل عبر الجو الثقافي والفني الذي ما برح يتمتع به. ولعله خير وارث لماضي شارع الحمراء. فمن يدخله الآن يشاهد تلك اللوحة الجميلة التي تحتلها وجوه شعراء وفنانين صنعوا مجد ذلك الشارع.