بدأت وزارة الداخلية اليمنية حملة أمنية مكثفة في صنعاءوالمحافظات لمطاردة "العناصر التي ارتكبت أعمال الاختطاف والتقطع قطع الطريق ونهب السيارات خلال الفترة الماضية" وكذلك "لملاحقة الأجانب المقيمين في البلاد بطرق غير مشروعة". حسبما ذكر وزير الداخلية اللواء حسين محمد عرب الذي أكد ان الحملة تأتي تنفيذاً لتوجيهات الرئيس علي عبدالله صالح الرامية الى "ضرب كل من يعرض أمن وسلامة البلاد للخطر بيد من حديد". وتستند هذه الحملة الى أولويات المرحلة التي حددها الرئيس اليمني لمجلس الوزراء في 20 حزيران يونيو الماضي، بأربع مهمات رئيسية: استئصال الفساد، وتفعيل أجهزة الرقابة والمحاسبة، وردع الخارجين على القانون، وتهيئة المناخ أمام الاستثمار. وذلك باعتبار أن انهاء مشكلة الحدود اليمنية - السعودية بالتوقيع على المعاهدة الدولية وإقرارها في البلدين يمثل من وجهة نظر الرئيس اليمني وقادة الدولة بداية مرحلة جديدة فتحت الباب أمام مستقبل واعد باتجاه شركات القطاع الخاص السعودي للاستثمار في اليمن. هذا المفهوم المباشر كان واضحاً في حديث الرئيس صالح أثناء الجلسة التي أقر فيها مجلس الوزراء معاهدة الحدود مع السعودية. ومن هنا فإن المهمات الأربع الملحة والمترابطة أضحت أكثر إلحاحاً وترابطاً لأنها تتركز في استئصال الفساد ولأن تهيئة المناخ للاستثمار تتوقف على مدى انجاز المهمات الثلاث الأولى، وفي مقدمها ردع الخارجين على القانون. كما تأتي الحملة في اتجاه ملاحقة المقيمين في اليمن بطرق غير مشروعة، في وقت يتزايد فيه عدد القادمين من منطقة القرن الافريقي عبر البحر خصوصاً بعد اندلاع الحرب الاريترية - الاثيوبية كما تقول مصادر وزارة الداخلية اليمنية التي أكدت نهاية الشهر الماضي ان عدد اللاجئين من هذه المنطقة الى اليمن بلغ 73 ألفاً. وتستهدف الحملة الأمنية الذين يتسربون منهم من المعسكرات المخصصة لهم الى المدن اليمنية حيث يمارسون أعمالاً من دون تراخيص. وتم القبض في الفترة الأخيرة على حوالي مئة شخص منهم طبقاً لما ذكره وزير الداخلية اليمني، وما تزال الحملة مستمرة. قرارات تتكرر وتضع القيادة اليمنية رابعة الأولويات الرئيسية لهذه المرحلة وهي مسألة الاستثمار، في الدرجة الأولى لاهتمامها العام، ومن ثم فقد تعددت الوسائل والمحاولات في سبيل تهيئة المناخ وشد المستثمرين عن طريق استئصال الفساد والمفسدين والخارجين على القانون. ولعل هذه هي المرة الرابعة التي تعلن فيها الدولة أولوياتها هذه في السنوات الست الماضية. كانت الأولى في 1994 عقب انتخاب الرئيس صالح من قبل مجلس النواب وتشكيل حكومة جديدة، والثانية في 1997، عقب انتخابات مجلس النواب والثالثة عقب انتخابات الرئاسة في أيلول سبتمبر 1999. هذا التكرار يؤكد بذاته، اخفاق الحملات ضد الفساد في اجهزة الدولة من ناحية ويؤكد من ناحية أخرى، "اهتمام ومعاناة الرئيس من هذه المشكلة". حسبما قال قيادي بارز في المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه الرئيس صالح. وأشار القيادي الى ما سماه "مجموعة عوائق وعناصر مستفيدة من الفساد تحول دون حملة اصلاح حقيقية"، والى "ركام من البرامج والقرارات في اطار الاصلاح لم يتحقق منها شيء يذكر"، وهي اشارة ضمنية الى برنامج الاصلاح الاقتصادي والاداري والمالي الذي بدأ الاعلان عن تنفيذه في 1995، ورسائل الرئيس اليمني الى الحكومة بهذا الخصوص اضافة الى قرارات الحكومات الماضية والحالية في هذا الاتجاه خلال فترة السنوات الست الأخيرة، ومنها قرارات لترشيد الانفاق عن طريق اجراءات يأتي في طليعتها تخفيض عدد موظفي الدولة الذي يزيد على 400 ألف طبقاً للمصادر المعنية، بوسائل تبدأ بالاحالة الى التقاعد لمن بلغ أجله والغاء الوظائف المكررة والموظفين الذين يشغل الواحد منهم أكثر من وظيفة الازدواج الوظيفي، والموظفين "الوهميين" الذين ينحصر وجودهم في قوائم الرواتب. ولتحقيق هذا الغرض، نفذت حكومة الدكتور عبدالكريم الارياني مشروعاً للمسح الوظيفي وأعلنت نتائجه في أيار مايو 1999، وأشارت الى ان اجمالي موظفي الدولة يبلغ نحو 420 ألفاً، يعمل 336 ألفاً منهم في الجهاز الاداري للدولة، وكشف المسح كثيراً من المخالفات والتجاوزات في جانب الازدواج الوظيفي. إلا أن هذا المشروع الكبير لم يجد التطبيق الميداني الدقيق طبقاً لقرارات مجلس الوزراء على رغم انها اكتفت باعطاء من يشغل أكثر من وظيفة، مهلة شهرين تقريباً ليختار وظيفة واحدة. كما تناولت قرارات الحكومات في جانب آخر، اختصار عدد موظفي السفارات اليمنية في الخارج وإيقاف شراء السيارات لمؤسسات الدولة والتجهيزات المكتبية، ولم ينفذ منها شيء حتى الآن على رغم تكرار اعلانها. الى جانب قرارات أخرى تكررت في شأن ضبط موارد الدولة ومكافحة التهريب وتحصيل الرسوم الجمركية والضرائب وعوائد الخدمات العامة والأساسية. فهناك مثلاً، نسبة عالية من السيارات الخاصة التي تحمل لوحات "الجيش والأمن" وتتبع شخصيات نافذة تستغني بهذه اللوحات عن دفع الرسوم الجمركية. وهذه النقطة بالذات حظيت باهتمام الرئيس صالح، ووجه الحكومة علناً باستعادة هذه اللوحات، فضلاً عن أن كثيراً من هذه الشخصيات النافذة يمتنع عن تسديد فواتير الكهرباء والمياه أو يؤخرها من عام الى آخر حتى بلغت عشرات الملايين من الريالات الضائعة طبقاً لما كشفت عنه المؤسسة العامة للكهرباء والمياه في فترات سابقة. عمليات متزامنة حاسمة من الأمثلة السالفة، تظهر عملية استئصال الفساد في اليمن، شاقة ومعقدة وواسعة تتطلب كثيراً من الجهد والوقت والعمليات المتزامنة الحاسمة. ومع هذا فقد حققت عملية الاصلاح خلال السنوات الست الماضية 1995 - 2000 نتائج ايجابية، خصوصاً في الجوانب التي تلقى دعماً وتمويلاً في شكل قروض ومنح مالية وفنية، من قبل الدول المانحة للمساعدات، مثل السياسات النقدية وإعادة الهيكلة وتحديد أولويات الاصلاح ومعالجة الظواهر السلبية في الجوانب الادارية والمالية. ومن هذه الاصلاحات ما جاء في بيان الرئيس اليمني عشية العيد الوطني العاشر للجمهورية اليمنية 22 أيار الماضي حول ما تحقق في السنوات العشر 1990 - 2000، ومنه: الحد من التضخم "من 77 الى 4 في المئة، وتقليص الديون الخارجية من 9 الى 3 مليارات دولار، وتخفيض نسبة العجز في ميزان المدفوعات من 22 الى 3 في المئة من الناتج القومي". ويشار الى أن تقدير الايرادات في الموازنة العامة للدولة للعام الحالي 2000 يبلغ 388 مليارا و953 مليون ريال الدولار يعادل 156 ريالا. وفيما يخص الحملات الأمنية في اليمن، فهي تظهر بين وقت وآخر بحكم التطورات، وتستهدف في معظم الحالات المخلِّين بالأمن والأجانب المقيمين بطرق غير مشروعة وحمل السلاح في المدن من دون تراخيص. وفي كل الحملات الأمنية التي تظهر بمعدل مرتين في العام تقريباً تحقق اجهزة الأمن نجاحاً في مهمتها، إلا أن بعضها يتوقف لسبب أو لآخر قبل تحقيق الأهداف أو انجاز المهمة كاملة. ولعل آخرها كان في نيسان ابريل وأيار الماضيين في سياق الاعداد لاحتفالات العيد الوطني العاشر. وقبلها في أيلول 1999، ضد حمل السلاح الناري، وقد استمرت تلك الحملة قرابة شهرين سحبت اجهزة الأمن خلالهما حوالي 20 ألف قطعة سلاح غير مرخصة. وفي ملاحقة المخلين بالأمن، تتسع الحملات بتعدد الجرائم وعناصرها، وأبرزها الخطف وقطع الطرق والنهب والقتل والتفجيرات والتزوير، وعلى رغم ان كل نوع من هذه الجرائم يتكرر، إلا أن اجهزة الأمن تحرز تقدماً ملموساً من عام الى اخر في خفض عدد الجرائم والحوادث الأمنية، تبعاً لتقدم هذه الأجهزة في كشف الجريمة والقبض على عناصرها وتقديمهم الى المحاكمة. وذكر مصدر في وزارة الداخلية ان نسبة كشف الجريمة في اليمن خلال العام 1999 بلغت 93 في المئة. ويحتل الخطف ومقاومته وضرب عناصره، أهمية مميزة، لأنه في معظم الحالات يستهدف الأجانب ويسيء الى سمعة اليمن، وينعكس بسلبيات وأضرار كبيرة على السياحة والاستثمار والعلاقات مع دول الغرب. وفي ندوة نظمها المجلس الاستشاري في صنعاء الذي يرأسه عبدالعزيز عبدالغني رئيس الوزراء السابق ذُكر ان جرائم الخطف في السنوات الست من 1993 الى 1999 بلغ عددها 103 جرائم تعرض لها 297 ضحية، 80 في المئة منهم اجانب. وتبعاً لتصاعد واتساع نشاط اجهزة الأمن خلال عام مضى، وبالتالي زيادة عدد الذين تم القبض عليهم وتقديمهم الى المحاكمات بتهم الحوادث الأمنية، انخفض عدد هذه الحوادث نسبياً. ويتضح ذلك من خلال مؤشرات تبرزها احصائية سريعة لحوادث الأشهر الستة الماضية من هذا العام. فقد قبضت اجهزة الأمن على حوالي 40 متهماً بأعمال الخطف والقتل وقطع الطريق والاغتصاب وتعرض ستة اجانب وعشرة يمنيين للخطف، ومن بين الأجانب السفير البولندي في صنعاء. ولقي أربعة اجانب مصرعهم: خبير هولندي يعمل في تنمية الوحدات الصناعية الصغيرة في صنعاء 2 آذار/ مارس وقد قتله متطرف وقتل الى جانبه مدير المشروع اليمني. وخبيرة هولندية تعمل لدى الأممالمتحدة في مشروع مكافحة الايدز"، والمتهم زوجها اليمني بقتلها، وخبير ياباني في الأحياء البحرية وجد مقتولا في منطقة السخر في حضرموت أول نيسان ابريل. وديبلوماسي نروجي قتل أثناء زيارته لصنعاء في رحلة سياحية في نقطة عسكرية في ضواحي العاصمة اليمنية في 10 حزيران يونيو الماضي، أثناء تبادل لاطلاق النار بين جنود النقطة وخاطفيه الأربعة. كما تمت خلال الفترة، محاكمة 105 متهمين بعدد من الجرائم والحوادث، في 15 قضية مستقلة، 11 منها في صنعاء و4 في محافظاتعدن وأبين ولحج وحضرموت. مهمة شاقة ومن مقارنة سريعة بين الاحصائيتين السالفتين، يظهر من ناحية، زيادة في عدد الذين ألقي القبض عليهم من المتهمين في الحوادث الأمنية وفي عدد قضاياهم المنظورة أمام المحاكم في مقابل انخفاض عدد الحوادث عامة والخطف والمخطوفين خاصة، اذ أن متوسط أو معدل عدد المخطوفين بحسب احصائية المجلس الاستشاري حوالي خمسين مختطفاً في العام الواحد من الأعوام الستة 1993 - 1999. بينما انخفض عددهم والأجانب بالذات حسب مؤشرات النصف الأول من هذا العام الى النصف تقريباً. في ضوء ما سلف، تتوقع مصادر في وزارة الداخلية اليمنية ان يتعزز نجاح الحملة الجديدة، خصوصاً ان الأجهزة الأمنية زادت كفاءتها من خلال عمليات تدريب وتأهيل وبأجهزة ومعامل كشف وفحص حديثة وشبكة اتصالات واسعة، اضافة الى تعزيز عدد الجنود في كثير من المراكز والنقاط، خصوصاً في المدن الرئيسية والطرقات واجراء عملية تغييرات كبيرة في قيادات الأمن عامة وفي المطارات والموانئ ونقاط العبور خاصة. وهذا ما يلحظه المراقب بوضوح في العاصمة صنعاء منذ مطلع العام الحالي. وتبقى المعضلة استئصال الفساد الذي أصبح لدى مراكز القوى "شبه قانون يجري العمل به علناً دون حساب أو عقاب" كما قال نائب ومحام من كتلة الاصلاح ل"الوسط"، مما يجعل مهمة الرئيس اليمني كبيرة وشاقة في هذه المرحلة، اذا ما أصر على حملة الاصلاح. ومن ثم، تتحدث مصادر صحافية في المعارضة عن اجراء تعديل أو تغيير وزاري، وعن اختلاف هادئ بين كبار القادة حول عملية الاصلاح الشامل وعن خطة لتسريح أكثر من 30 ألف موظف، وعن خلاف حاد بين مجلس النواب والحكومة حول قضايا عدة أبرزها تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة المقدم الى الحكومة نهاية شباط فبراير الماضي الذي يكشف مخالفات ادارية ومالية. ويطالب مجلس النواب الحكومة بسرعة اتخاذ الاجراءات المناسبة حيال التقرير. كما ظهرت توجيهات الرئيس صالح الى الحكومة بشأن الاصلاح، أكثر إلحاحاً، في الوقت الذي ينفي فيه أي نية لاجراء تعديل أو تغيير في الحكومة الحالية، وهو ما يستبعده مراقبون في صنعاء ليس لرضا الرئيس عن أداء الحكومة فقط، بل لأن الانتخابات التشريعية الثالثة أضحت على الأبواب بعد 9 شهور فحسب