شكا صحافي غربي من أنه بلغ الخمسين وبدأ ينسى. لا تشكو لي، يا أخ كريغ ولسون، حتى لا أبكي لك، فكلنا يدخل الغرفة وينسى لماذا دخلها، فإذا أراد الخروج لا يذكر أين كان في البيت ليعود إليه من الغرفة "المسكونة". شخصياً كنت اذكّر الفيلة بما نسوا، ولا تزال عندي ذاكرة فوتوغرافية، إلا أنني أنسى أحياناً أن أرفع الغطاء عن العدسة، لذلك فحديثي هنا هو عن تجارب أصدقاء من لندن إلى الرياض والقاهرة، وليس عن أي مشكلة شخصية، فبيني وبين الخمسين عشرون سنة، إلا أنني لن أقول من أي اتجاه. الأصدقاء الذين بلغوا تلك المرحلة من العمر التي يبدأ معها النسيان يعرفون على الأقل أنهم ينسون، لذلك فالواحد من هؤلاء يبدأ كل قصة لهم بعبارة من نوع "إذا سمعتم هذه القصة من قبل أرجو ان توقفوني". إلا أن المستمعين مثله، والأرجح انهم سمعوا ونسوا، وعندما يحثونه على الاستمرار، يسأل "أين كنت؟" وهم نسوا مثله، فيبدأ قصة أخرى بالسؤال نفسه، وهكذا إلى أن تنتهي الجلسة. وقد مرت عليّ فترة كنت اتوقف فيها وأنا في منتصف الجملة، غير أنني أصبحت الآن... الطرف عن النسيان تدور حول الفكرة نفسها، فالمبتلى يقول للطبيب إنه بدأ ينسى، ويسأله الطبيب: منذ متى شعرت بهذه الحالة؟ ويرد الزائر: أي حالة؟ أو يقول رجل لصديق إنه زار الطبيب للعلاج من مرض النسيان، ويسأله الصديق ماذا فعل له الطبيب. ويقول الأول: جعلني ادفع سلفاً. ثم هناك الرجل الذي زار طبيباً نفسياً للعلاج من مرض النسيان، فدرس الطبيب ظروفه، وقال له إن النسيان من رحمة ربّه به. وسمعت أخيراً ضمن الطرف التي تبدأ بخبر سيء وخبر طيب واحدة عن النسيان، فالخبر السيء ان الرجل وقف تحت "الدوش" وهو بكامل ثيابه، والخبر الطيب انه نسي ان يفتح الماء على رأسه. الصحافي الذي بدأت به لم يقل إنه ينسى الاستحمام في الصباح وحلاقة ذقنه، إلا أنه قال إنه يقف بباب البيت، ثم يسأل نفسه هل نظف أسنانه. وهو أحياناً يعود إلى معجون الاسنان والفرشاة، مع أنه يخشى ان تكون تلك هي المرة الثانية، وربما الثالثة، التي أعمل الفرشاة في اسنانه حتى تدمى لثته. هو لا يقول إن كان وجد مفاتيح السيارة، أو إذا كان وجدها، هل وجد بعدها السيارة نفسها. والأميركي يوقف سيارته عادة في مدخل البيت أو مرآب خاص. غير انني اعرف صديقاً في بيروت، انتقل بعد ذلك إلى لندن، كان ينسى أين اوقف سيارته في الليل عندما يعود إلى البيت من دون كامل قواه العقلية المنقوصة أصلاً. وكنا نلعب لعبة في البحث عنها في الشوارع المحيطة بالبيت. ولم نجدها مرة، واعتقدنا انها سرقت، ثم تبين أنه تركها حيث كان في زيارة، وعاد إلى البيت في تاكسي. نصحت هذا الصديق مرة أن يجرب برامج لتقوية الذاكرة قرأت اعلانات عنها في الصحف، ففعل وتذكّر انني مدين له بألف دولار. الواقع أنه لم يفعل، وأنا لست مديناً له بشيء، ولكن أعرف عن هذه البرامج ان الأساس فيها "الربط"، أي أن يربط الإنسان بين الشيء الذي يريد تذكره بشيء يعرفه جيداً، مثل الأحمر والعلم الشيوعي، أو الورد والربيع، أو الكذب ونتانياهو. وكان هناك رجل سمع الكاهن يقرأ من الوصايا العشر ويقول "لا تزنِ" فتذكر أين ترك مظلته. واعتذرت امرأة لصديقتها عن عدم حضور حفلة دعيت إليها، وقالت إنها نسيت. وردت الثانية بلؤم: ولا يهمك. لم ألاحظ انك كنت غير موجودة. المرأة أفضل ذاكرة من الرجل، وهي لا تنسى ولا تغفر، وعندي قصة حقيقية عن صديق سرق له خادمه "الأمين" أقلامه المذهبة، وبعض ساعاته، ونقوداً وثياباً. واكتشف الصديق ان الخادم لم يسرق شيئاً من زوجته، مع أن عندها في حقيبتها نقوداً، كما أن هناك مجوهرات أغلى من أي شيء يملكه الزوج. وقال الخادم مفسراً ان الرجل لا يذكر شيئاً من حاجاته، ولكن الزوجة تعرف كل قطعة وتذكرها، بل تذكر أين وضعتها. أظل افضل حظاً من هذا الصديق، فهو يغير زيت السيارة كل يوم، وقميصه كل عشرة آلاف ميل. أما أنا فلم أفعل سوى انني امسكت بيضة بيدي ثم سلقت الساعة