هل أعادت "حجارة بيرزيت" التوازن الى سياسة فرنسا الشرق أوسطية؟ وهل ألحقت أذى كبيراً "بالتعايش" السياسي بين الحكومة الاشتراكية ورئيس الجمهورية الديغولي؟ وهل أدت الى تبلور تيار فرنسي مؤيد لاسرائيل علناً في بلدٍ عرف منذ نصف قرن بتعاطيه الصريح مع القضايا العربية؟ هذه الاسئلة تدافعت بقوة عقب زيارة رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان لاسرائيل واراضي السلطة الفلسطينية، واطلاقه تصريحات مدوية وصف فيها المقاومة اللبنانية ضد اسرائيل ب"الارهابية" محمّلاً سورية منفردة مسؤولية توقف المفاوضات على المسار الاسرائيلي - السوري، ومعتبراً ان الدول العربية المجاورة لاسرائيل تفتقر الى الديموقراطية التي حصرها بالدولة العبرية وحدها، الأمر الذي أثار ردود فعل واسعة في فرنسا والعالم العربي، كان أكثرها فجاجة قيام طلاب من جامعة بيرزيت الفلسطينية برجم الوزير الاول الفرنسي بالحجارة واصابته بجرح طفيف في رأسه، فضلاً عن إصابة مصوّر فرنسي من أصل ايراني كان في عداد الوفد الصحافي المرافق. ولعل صياغة هذه الاسئلة تنطوي على افتراض يوحي بأن جوسبان ارتكب "هفوة" او أخطأ التعبير او ترك العنان لعواطفه بدلاً من الإصغاء لعقله عندما أطلق تلك التصريحات. ويؤكد الذين صاغوا هذه الاسئلة ان تراجعه عن تعبير الارهاب وحديثه عن "الاعمال الحربية" في جنوبلبنان يفصح عن "سوء تعبير" اكثر من اي شيء آخر، وان التوضيح الذي أدلى به وزير خارجيته هوبير فيدرين في "الجمعية الوطنية" حول المسار السوري - الاسرائيلي وتحميل الطرفين مسؤولية توقف المفاوضات ثم حديثه عن ثبات السياسة الخارجية في الشرق الاوسط وغياب النيّة في إحداث اي تغيير فيها، كل ذلك يعزّز الافتراض بأن رئيس الوزراء الفرنسي لم يكن "يقصد" ما يقول وان الامر ينحصر ب"زلّة لسان" مؤسفة. والراجح ان هذا الافتراض يرمي الى احتواء ردود الفعل التي انفجرت بعد اذاعة التصريحات الفرنسية، وان التراجع الذي تلاها يطال شكلها اكثر من جوهرها. فالحديث عن "اعمال حربية" غامض والتراجع عن تحميل سورية وحدها مسؤولية توقف المفاوضات ينسجم مع تراجع اسرائيلي واعترافٍ بضرورة الانسحاب الى خط 4 حزيران يونيو 1967، فيما الوصف التفضيلي لاسرائيل "الديموقراطية" و"الفرانكفونية" ما زال على حاله، ما يعني ان الحكومة الفرنسية عازمة فعلاً على إحداث تعديلات في سياسة فرنسا الشرق الاوسطية وان هذه التعديلات تستند الى ثوابت لدى الحكومة والحزب الاشتراكي الفرنسي بصورة خاصة، وبالتالي ليست ناتجة عن انفعالات ومشاعر وأحاسيس عاطفية بحتة. لذا من المفيد التذكير بهذه الثوابت التي تبرز منذ بعض الوقت بحياء وتخفيها اللغة الديبلوماسية المرمّزة والمعتمدة في "الكي دورسيه" منذ اكثر من ربع قرن. الا ان الوجه الأكثر وضوحاً في الثوابت المعنية يمكن العثور عليه في الحزب الاشتراكي الفرنسي وفي عقل رئيس الوزراء نفسه. فالحزب الاشتراكي، واليسار عموماً، كان يضم على الدوام تياراً مؤيداً لاسرائيل بلا شروط ومناهضاً بقوة للعالم العربي، ومعروف ان ليون بلوم رئيس الوزراء الفرنسي في الاربعينات اقترع على قرار إنشاء اسرائيل في الاممالمتحدة العام 1947 في وقت كانت فيه التقديرات توحي بأن فرنسا ستعترض على القرار بسبب امبراطوريتها العربية وخوفاً من ردود الفعل العربية. وغي موليه رئيس الوزراء في الخمسينات نظّم بحماس عدوان السويس الثلاثي وزوّد اسرائيل بأول مفاعل نووي. ولعبت وزارة الدفاع الفرنسية في الجمهورية الرابعة ذات الغلبة الاشتراكية دوراً تأسيسياً في تجهيز آلة الحرب الاسرائيلية. كل ذلك حدث في اطار تواصل ايديولوجي بين اليسار الفرنسي والحركة الصهيونية التي كانت في الأصل حركة اشتراكية بمقاييس اليسار الاوروبي. واذا كانت حرب السويس وحرب الجزائر قد أدتا الى انهيار الجمهورية الرابعة وصعود الديغولية في العام 1958 ومن بعد الى حدوث تغيير كبير في سياسة فرنسا العربية، خصوصاً بعد العام 1967، فإن ذلك لم يترك تأثيراً جوهرياً على كتل نافذة في الحزب الاشتراكي واليسار الفرنسي عموماً، فقد ظلت هذه الكتل تقيس مواقفها من العرب بما يتناسب مع نظرة حزب العمل واليسار الاسرائيلي. وفي هذا الإطار يمكن ترتيب مواقف الاشتراكيين المؤيدة للفلسطينيين. أما الاصوات الاشتراكية واليسارية الاخرى التي انحازت للعرب واقتربت من السياسة الديغولية العربية فإنها كان تشكّل أقلية في هذا التيار، شأن زير الداخلية الحالي جان بيار شوفنمان ووزير الخارجية السابق كلود شيسون وآخرين. ولا ننسى هنا هزائم الاشتراكيين في الحروب العربية في شمال افريقيا والاحقاد التي خلفتها في نفوس اجيال اشتراكية متعاقبة. في هذا الاطار ووسط هذه الاجواء ترعرع جوسبان الذي اتخذ مواقف من القضايا العربية مستوحاة من مصلحة اسرائيل كما يراها حزب العمل، او كما يراها هو مفيدة للدولة العبرية. ففي العام 1983 قام جوسبان بمحاولة للتقارب مع الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان العضو في الاشتراكية الدولية لم تسفر عن نتائج ايجابية، وكان يعتقد بأن ذلك يمكن ان يؤدي الى تقارب الاشتراكيين اللبنانيين والاسرائيليين. وفي العام 1984 وقف بقوة ضد تسليح العراق معتقداً ان السلاح العراقي سيرتد نحو اسرائيل وتلك كانت هواجس حزب العمل الاسرائيلي. وفي 9/8/1990 وبعد ايام على غزو الكويت طالب بشن الحرب على العراق وكان الوحيد الذي يدافع عن ضرورة شن الحرب حتى لو انسحبت القوات العراقية من الكويت، لاعتقاده بأن القوة العسكرية العراقية مناهضة لاسرائيل. وخلال توليه الأمانة العامة للحزب الاشتراكي كان يدعو مندوب منظمة التحرير الفلسطينية ابراهيم الصوص ومن بعده ليلى شهيد لحضور مؤتمرات الحزب، وعمل على ضم حركة "فتح" الى الاشتراكية الدولية بعد العام 1982 وكان بذلك منسجماً مع نظرة أطراف في اليسار الاسرائيلي الى الفلسطينيين ومنحهم وطناً في الاراضي المحتلة. لكن جوسبان المتعاطف مع الدولة العبرية على اساس ايديولوجي كان ايضاً يتخذ مواقف ايديولوجية من بعض القضايا العربية، فهو عارض بقوة الغاء نتائج الانتخابات الجزائرية في العام 1992 مخالفاً سياسة بلاده الواضحة مع علمه التام "ان الجبهة الاسلامية للانقاذ" قد تسيطر على الحكم في الجزائر، غير ان موقفه هذا كان منسجماً مع موقف زميله في الاشتراكية الدولية حسن آيت احمد. وهو ايضاً متحمس لتجربة التداول المغربية في الحكم، انطلاقاً من صداقته مع عبدالرحمن اليوسفي الوزير الاول المغربي والعضو ايضاً في الاشتراكية الدولية، وهو انتقد السودان بقوة وخفض مستوى التعاون بين حكومته والحكومة السودانية. تبقى الاشارة الى موقف جوسبان من عملية "عناقيد الغضب" العام 1996 وتأييده لصديقه شمعون بيريز معتبراً ان اسرائيل تدافع عن نفسها، وهو لم يُعدّل هذا الموقف بعد مجزرة قانا، وقد أتاح هذا الموقف التفاف اصدقاء اسرائيل من حوله في وقت كانوا يلتزمون الصمت المطبق. قصارى القول في هذا الجانب ان تصريحات جوسبان المتزوج ثانية من مثقفة يهودية معروفة المتصلة بالمقاومة في جنوبلبنان وبسورية والدول العربية لم تكن ناتجة عن تقدير خاطئ، بل تنتمي الى خط ايديولوجي ثابت الى مشاعر وعواطف معلنة ومعروفة، وقد عبّر عنها بوضو ح خلال زياراته الست لاسرائيل وفي كل المناسبات التي جمعته مع مسؤولين اسرائيليين في باريس. الوجه الثاني في ثوابت الموقف الاشتراكي من اسرائيل يمكن تبين ملامحه في التغييرات الاقليمية بعد حرب الخليج الثانية، ففرنسا اصبحت بعد هذه الحرب بلا سياسة عربية جدية يمكن الاستناد اليها بوضوح. فمن جهة لم تعد للعرب سياسة واضحة واحدة وعامة تسهل للدول الأجنبية ترتيب مواقف سياسية متواصلة معها، ومن جهة ثانية انهارت الحرب الباردة وصارت الولاياتالمتحدة القوة الأولى في العالم وبدأ الاصطفاف العربي والدولي يرتسم حول هذه الحقيقة، وهنا لم يعد لدى فرنسا ما يتيح لها مواصلة سياستها العربية التقليدية وأصبحت تتعاطى مع الدول العربية فرادى ووفق طرق مستقلة عن بعضها البعض. وتراجع موقف فرنسا في العالم العربي بعد غيابها عن تسوية أزمة الشرق الأوسط واصرار الأميركيين والاسرائيليين على استبعاد أي طرف آخر من هذه العملية. وقبل العرب المعنيون بالتسوية بهذه الشروط. وازداد الموقف الفرنسي تراجعاً في شمال افريقيا العربية بعد ضمور المربع الفرنسي في افريقيا وتطلع العديد من دول القارة السوداء الى الولاياتالمتحدة. وفي المحصلة العامة باتت سياسة فرنسا العربية معرضة للرياح وبما أنها ممهورة منذ نشوئها بالخاتم الديغولي، وبما ان الديغوليين متنافسون مع اليسار في الداخل فقد بادر قادة اشتراكيون الى تحويل هذه القضية من قضية خارجية الى قضية داخلية فرنسية - فرنسية، وكان أول المبادرين الى ذلك وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما الذي قال عبارته الشهيرة في بداية التسعينات "سياسة فرنسا العربية وهم خالص" وتبعه من بعد ميشال روكار واقترب منهم هوبير فيدرين الذي قال أخيراً ان لفرنسا سياسة مع دول عربية وليس مع مجموع العرب. وسار على النهج نفسه عدد آخر من القادة الاشتراكيين الأقل مرتبة. ان الاستنتاج الطبيعي الذي توصل اليه جوسبان عشية زيارته لاسرائيل يمكن تلخيصه بالفرضية الآتية: طالما أنه لم تعد توجد سياسة عربية حقيقية لفرنسا، وطالما ان الدول العربية تتسابق للتصالح مع اسرائيل، وطالما ان الديغوليين يصرون من دون غيرهم على مواصلة الحديث عن هذه السياسة لأسباب خاصة بهم، فلماذا الاصرار عليها والتمسك بها؟ ولعل هذه الفرضية أدت الى التحرر من "الصياغات" التقليدية المعتمدة في وزارة الخارجية وبالتالي الحديث صراحة عن واقع شديد الواقعية بالنسبة الى جوسبان والاشتراكيين وأصدقاء اسرائيل الكثر. ويذهب القطب الديغولي شارل باسكوا الى أبعد من ذلك عندما يقول ان سياسة بلاده الخارجية عموماً ضعفت وتراجعت ابتداء من اللحظة التي عادت فيها الى الحلف الأطلسي، ولعل تلك العودة تنطوي على اعتراف قاهر بحقيقة دولية طاغية. والراجح ان هذه الاشارة تصب الماء في طاحونة جوسبان واصدقائه الذين أبدوا حرصاً شديداً على الاشتراك في الحرب الأطلسية في كوسوفو بل كانوا متهمين "بالأطلسية"، وليس من المستغرب ان يعين "الأطلسي" أحد الاشتراكيين الفرنسيين برنار كوشنير حاكماً للمقاطعة ما يعني أن حلقة الأطلسي - الولاياتالمتحدة الأميركية - اسرائيل هي التي تؤخذ في الاعتبار لدى البحث في مواقف اشتراكية فرنسية خارجية أكثر بكثير من الأوهام المبنية على حنين لدور فرنسا العظمى، تلك الأوهام الناتجة عن عالم ما قبل الحرب الباردة. ديغول الاشتراكيين؟ ولعل تفكير بعض الاشتراكيين بمستقبل بلادهم في العالم العربي يميل الى افتراض مفاده ان الدولة العبرية ستكون الأقوى في الشرق الاوسط بعد السلام، وستكون بالاستناد الى الولاياتالمتحدة، قوة اقليمية مؤثرة فيما جيرانها سيضطرون الى ترتيب سياساتهم في ضوء ذلك، وبالتالي لن يكون لفرنسا مكان كبير في قلوبهم وخزائنهم على السواء. اما المصالح الراهنة والممكنة في العالم العربي فهي كالمصالح الايطالية والالمانية والبلجيكية وغيرها يمكن ان تظل محصورة بالاقتصاد ولا تتجاوزه نحو السياسة او على الاقل السياسة بصيغتها الديغولية المعروفة. والوجه الثالث في تصريحات جوسبان يمكن تبين ملامحه في طموحاته الشخصية، فهو يرى في نفسه طرفاً مؤهلاً للعب دور تاريخي في بلاده، على الاقل في المعسكر اليساري، حيث لا يبرز منافس جدي له حتى الآن. والادوار التاريخية تتطلب مواقف تاريخية وعبارات تبقى الى الابد شأن عبارة ديغول الشهيرة "عاشت كيبيك حرة" التي قالها خلال زيارة تاريخية لكندا وللمقاطعة الفرنكوفونية المطالبة بالانفصال، غير ان "كيبك" ظلت في الاطار الكندي. وظلت عبارة "ديغول" في المرتبة التاريخية نفسها. ولعل جوسبان اراد بتصريحاته الاسرائيلية اتخاذ موقف تاريخي يتحول معه من رئيس وزراء ناجح في بلاده وبالكاد يذكر اسمه في الخارج الى مرشح رئاسي يقول لاسرائيل والولاياتالمتحدة، نحن اصدقاء ونختلف عن الديغوليين الموالين للعرب ونقرأ في خطاب واحد للشرق الاوسط يصنّف الدول تصنيفاً "ديموقراطياً" والحركات السياسية تصنيفاً ارهابياً واصولياً وحداثياً... الخ. ويخطئ من يظن ان حجارة بيرزيت اضعفت هذا الخطاب، فهي قدمت الدليل الملموس على ما يعنيه بنظر أصحابه. والوجه الرابع في تصريحات جوسبان تظهر ملامحه من خلال اليهود النافذين في فرنسا والذين تأتيهم العروض المغرية من كل صوب، فمن جهة منحت منظمة "بناي بريث" اليهودية الأميركية المرتبطة بالعمق باسرائيل، الرئيس جاك شيراك وساماً رفيعاً قبل حوالي اسبوعين لاعترافه باسم فرنسا بالجرائم التي ارتكبت بحق اليهود على أراضيها خلال الحرب العالمية الثانية، ومن جهة ثانية يعرض عليهم رئيس الوزراء العودة الى ماضي العلاقات المزدهرة في الجمهورية الرابعة بين فرنسا واسرائيل. ولعلهم سيلاحظون الفارق بين الطرفين. فشيراك يواجه الجنود الاسرائيليين في القدس ويهدد بأزمة ديبلوماسية بين البلدين وجوسبان يتعرض للحجارة في بيرزيت بسبب تأييده الكاسح لاسرائيل. إلا أن التبسيط في الحديث عن الأثر اليهودي المطلق على مواقف رئيس الوزراء الفرنسي ليس مفيداً في تفسير هذه المواقف، فالأمر يتعدى اليهود الى المصالح الفرنسية والى مستقبل فرنسا في الشرق الأوسط، فهذا المستقبل يراه الاشتراكيون بوقائعه الباردة حول محور دولي هو الولاياتالمتحدة ومحور اقليمي، هو اسرائيل، بين محاور أخرى بطبيعة الحال، وعندما يزور الزعماء العرب باريس ويهملون بمعظمهم زيارة جوسبان واللقاء معه، فإن الشخصيات اليهودية البارزة في حزبه تغتبط فرحاً وتشعر أن بوليفاراً عريضاً ينشق أمامها الى قلب رئيس الوزراء المفتوح أصلاً للتعاطف مع اليسار الاسرائيلي ومع "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" و"البلد ذي التقدم الملموس في التكنولوجيا المعقدة والذي يجب ان نتعاون معه" على حد تعبيره. والوجه الخامس في التصريحات الحكومية داخلي فرنسي لا لبس فيه، ذلك أن رئيس الوزراء الفرنسي لم يكف عن التأكيد خارج الأضواء ان الحكومة الاشتراكية "تضع كل شيء في السياسة الخارجية والرئيس يستفيد بمفرده من نتائج عملنا" أو "السياسة الخارجية ليست مجالاً محصوراً برئيس الجمهورية، والحكومة تستطيع ان تتحرك بقوة في هذا المجال. والمادة 20 في الدستور تؤكد حق الحكومة في قيادة السياسة الوطنية الفرنسية والسياسة الوطنية ليست محصورة بالوضع الداخلي وحده". ويرى بعض المحللين ان جوسبان استطاع أن يسيطر على الملفات الداخلية الصعبة بلا جدال وأنه حقق في مجال البطالة انجازات لم تحققها أية حكومة من قبل خلال ربع القرن الأخير، وحقق أيضاً اصلاحات اقتصادية مهمة واجتماعية لاقت اصداء واسعة وكل ذلك جعل اسهمه ترتفع تدريجياً في استطلاعات الرأي حتى فاقت أسهم رئيسه. وان هذا الأمر لم يتكرر مع رئيس حكومة واحد من قبل خلال الجمهورية الخامسة. وهو في المقابل يدير ائتلافاً يسارياً ناجحاً للمرة الأولى ايضاً في تاريخ بلاده. جاذبية شيراك ويعتبر المحللون ان جوسبان حاول خلال الشهور الأخيرة ان يرفع وتيرة الإصلاحات في بلاده الى درجات أعلى فتعرض للفشل في مشروعه الشهير لإصلاح القضاء، وما زالت تتعثر سياسة خفض ساعات العمل الى 35 ساعة اسبوعياً فضلاً عن تعثرات أخرى في مجالات أقل أهمية. ولعل هذا التعثر بدأ ينذر بالخطر والتراجع في شعبية رئيس الوزراء - المرشح لرئاسة الجمهورية العام 2002، ولتجاوز ذلك ربما اختار التحرك في السياسة الخارجية التي تظل في نظر الفرنسيين مجالاً مناسباً لرئيس الجمهورية شيراك الذي يتحرك على المسرح الدولي بطرىقة جذابة بنظر مواطنيه، في ظل رئيس روسي مريض ورئيس اميركي انهكته فضائحه الجنسية. ويعتقد المحللون أنفسهم ان رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي خلال الصيف المقبل ستزيد في فرص تقدم شيراك على جوسبان، وان استباق الأمور وبالتالي إحداث صدمة في هذا المجال يمكن ان تخفف من بريق الرئاسة الفرنسية لأوروبا وان تستدرك بالتالي تأثيرات هذا الحدث على الانتخابات البلدية 2001 خصوصاً بلدية باريس المهددة بالسقوط في ايدي الاشتراكيين وهي المعقل الديغولي والشيراكي الأبرز منذ عشرين سنة. ويعتقد هؤلاء ان جوسبان كان يقتفي أثر رئيسه في جولاته الخارجية، فهو ايضاً قام بجولة افريقية اكد خلالها ثوابت ليست هي نفسها الثوابت الشيراكية. ولم يقبل بالانقلاب العسكري في ساحل العاج، وفعل ذلك ايضاً خلال زيارته الشهيرة لليابان وكان على الدوام حاضراً في لقاءات القمة الأوروبية. ويؤكد بعض المصادر ان شيراك لم يكن مؤيداً لجولة رئيس وزرائه في اسرائيل وأراضي السلطة الفلسطينية، ربما لعلمه بأن جوسبان سيصرح بما صرح به، وربما لاقتناعه بأن الشرق الأوسط هو الحلبة الخارجية الديغولية بلا منازع وان وجود لاعب اشتراكي فيها ربما يضعف بريق الصورة التقليدية الفرنسية، وهو ما حصل بالفعل، فبعد زيارة جوسبان بات اكثر من طرف عربي يدرك ان شيراك ليس حاكم فرنسا الوحيد وانه لا بد من الاخذ في الاعتبار حاكمها الآخر جوسبان. مما لا شك فيه ان حجارة "بيرزيت" اضعفت صورة جوسبان الخارجية وقلصت أمامه هامش المناورة في المجال العربي وجعلته يبدو وكأنه اسرائيلي اكثر من بعض الاسرائيليين أنفسهم. وصحيح ايضاً ان تلك الحجارة ستظل لاصقة بصورة رئيس الحكومة خلال معركة الرئاسيات والمناسبات الانتخابية الأخرى. ويسود الاعتقاد بأن الفرنسيين قد يصعب عليهم اختيار رئيس للجمهورية سبق له ان تلقى إهانة في جامعة تمولها حكومته، وان هذه "الأهانة" هي الأولى من نوعها في التاريخ الفرنسي الجمهوري. قد يبدو ذلك صحيحاً ومنطقياً لكنه غير كاف لتفسير كل أوجه اختيار الفرنسيين لرؤساء بلادهم، خصوصاً بعدما استوعب جوسبان آثار "الإهانة" ولم يسقط في فخ رئيس الجمهورية ولم يذعن لإرادته وواصل الدفاع بنجاح عن دوره ووظيفته، وأكد بقوة طموحاته وحاول ان يدفع خصومه الى موقع "حزب الله" فيبدو بنظر الرأي العام وكأنه ضحية الأصولية، فيما يبدو شيراك وكأنه متواطئ معها، غير ان الأمور سارت على نحو آخر، فلا شيراك وقع في فخ الدفاع عن الأصولية ولا جوسبان وقع في فخ الإذعان لرئيس الجمهورية وهو أصرّ على أقواله مع تعديل طفيف، ولعله سيؤكدها في مناسبات اخرى انطلاقاً من عبارة وردت على لسانه خلال المناقشات النيابية حيث قال: "لقد تبحصت لأنني مصرّ على السلام والديموقراطية ومناهض للتعصب والعنف" ما يعني ان كل من يعارض هذا الموقف أو يساير الأصوليين سيضع نفسه في موقعهم، وبالتالي لن يربح في الداخل وان ربح في الخارج لأن الخارج لا يقرر من يكون رئيس جمهورية فرنسا المقبل. خلاصة القول ان "حجارة بيرزيت" اكدت تمسك العرب بكرامتهم وعدم تهاونهم في الدفاع عن مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، وعبّرت عن الغضب الكامن تجاه الدول والزعماء الذين يؤيدون اسرائيل ويتجاهلون مشاعر العرب ومصالحهم. واذا كان راجمو جوسبان يعتقدون بأن هذه الحجارة أدت الى إقفال الأبواب أمام اي تعديل لسياسة فرنسا الشرق أوسطية، فإن اعتقادهم لا يتقاطع مع الصورة الداخلية الفرنسية التي تفيد ان تلك "الحجارة" كانت موجهة نحو صديق معلن لاسرائيل اساء الى العرب بتصريحاته وانحيازه ، لكن قلبه قبل الحجارة كان ليناً تجاه القضايا العربية فأصبح بعد "بيرزيت"... من صخر غمز ولمز كان لبنان موضوعاً للغمز واللمز خلال مداولات "الجمعية الوطنية" البرلمان حيث خضع رئيس الوزراء ليونيل جوسبان لاستجواب من ممثلي الكتلة النيابية انصبّ معظمها حول التصريحات التي اطلقها في اسرائيل مؤخراً. وفي هذا الاطار حاول آلان جوبيه رئيس الوزراء السابق ان يستدرج جوسبان لاتخاذ موقف مناهض لسورية عندما قال في استجوابه "لقد كنت متحيزاً في المقابل عندما تحدثت عن اسرائيل في لبنان ولم تتحدث عن سورية". وكان جوبيه يأمل ان يسقط جوسبان بالفخ. وفي ردّه على جوبيه اكد جوسبان انه تحدث عن استقلال لبنان وحريته ووحدة اراضيه اليوم وغداً، وكرر عبارة غداً مضيفاً لأن "غداً ستظهر حقائق جديدة" ومعنى ذلك انه بعد انسحاب اسرائيل سينبثق وضع جديد في لبنان تكون فيه سورية وحدها في البلاد. وعلّق جوسبان على اقوال جوبيه بقوله: "أرى هنا ايضاً ان هناك من يجدد في مواقف فرنسا العربية في الجمعية الوطنية، فأنا تحدثت عن وحدة اراضي لبنان وسيادته واستقلاله، والسيد جوبيه يتحدث عن انسحاب كل القوات منه. اعتقد بأنهم هناك في لبنان وسورية سيصغون الى تصريحاته بعناية تامة". في هذا الوقت كان جوبيه يلوّح بيديه بإشارات تعني انه لم يقل ما نسبه اليه رئيس الوزراء.