ليست الشعارات والأسماء هي وحدها التي حل بعضها محل بعض، بل لقد حدث ذلك على مستوى الأسئلة والاشكاليات أيضاً. ومن الأسئلة الجديدة التي لا بد من طرحها أمام هذه التحولات السؤال الآتي: هل يلغي شعار "الانتقال الى الديموقراطية" بديله السابق: "الانتقال الى الاشتراكية"؟ وبعبارة أخرى: اذا كانت الشعارات السياسية والايديولوجية التي تسود في مرحلة تاريخية معينة تعكس ولا بد، بصورة من الصور، شيئاً ما في الواقع الموضوعي، قد نسميه صراعاً سياسياً او علاقات اجتماعية او حاجات وتطلعات... الخ، فهل يعني شعار الساعة "الانتقال الى الديموقراطية" ان الظروف والمعطيات الواقعية التي كان يعكسها او يعبر عنها بصورة ما، بديله السابق له شعار "الانتقال الى الاشتراكية"، هي ظروف ومعطيات تم تجاوزها ولم تعد قائمة؟ سؤال يتفرع الى أسئلة اذا ربطناه بنوع البلد الذي يطرح فيه. وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين ثلاث حالات على الأقل: الحالة الأولى، حالة الأقطار الغربية الرأسمالية، والسؤال الذي يخصها هو: هل تمكنت الديموقراطية التي استقرت فيها منذ قرنين من الزمن من تجاوز الحاجة الى "الانتقال الى الاشتراكية" وكيف؟ علماً بأن شعار "الانتقال الى الاشتراكية" انما طرح فيها هي بالذات، أول ما طرح، وانه كان ينظر اليه بوصفه يعبر فيها، اكثر من غيرها، عن حاجة تاريخية! الحالة الثانية هي حالة البلدان التي كانت تشكل المعسكر الشيوعي والتي تعيش اليوم، بصورة أو بأخرى، وضعية "الانتقال الى الديموقراطية"! والسؤال الذي يخص هذه الحالة هو: هل تمكنت "الاشتراكية" التي استقرت في هذه البلدان لمدى عقود، تتراوح بين نصف قرن وثلاثة أرباع القرن، من تجاوز الظروف التي كانت تقف فيها وراء الحاجة الى الاشتراكية؟ اما الحالة الثالثة والأخيرة فهي حالة البلدان التي كان يطلق عليها اسم "العالم الثالث" وهي التي "خرجت" من الاستعمار، لا هي رأسمالية ولا هي اشتراكية، وانما توصف بكونها "بلدانا متخلفة" أو "في طريق النمو" - تأدباً فقط اذ يجب معرفة ماذا ينمو فيها هل هو "التخلف" نفسه أم غيره؟!. في العالم الثالث إذاً، كان ينظر الى الاشتراكية على انها الطريق "الوحيد" للخروج من "التخلف"، فهل نحمّل الديموقراطية اليوم هذه المهمة؟ الحالتان الأولى والثانية تقعان خارج اهتمامنا هنا، وإن كان من المفيد طرح سؤال "التحول الى الديموقراطية" بصددهما، خصوصاً وفيهما بلدان حدث فيها هذا التحول ولها تجربتها الخاصة. من ذلك مثلاً اسبانيا التي تحولت من ديكتاتورية فرانكو الى الملكية الدستورية على النمط الأوروبي المعاصر حيث يملك الملك ولا يحكم. ومن ذلك أيضاً البرتغال التي تحولت الى الديموقراطية من ديكتاتورية سالازار الى نظام جمهوري ديموقراطي يساري. هاتان التجربتان تنتميان الى الحالة الأولى لأن التحول فيهما جرى في اطار الرأسمالية. اما الديموقراطيات الناشئة في البلدان التي كانت تنتمي الى المعسكر الشيوعي، وتقع في أوروبا الشرقية، فالتحول الى الديموقراطية جرى ويجري فيها مصحوباً بالتحول من "الشيوعية" الى الرأسمالية. هذه التحولات التي عرفها الربع الأخير من القرن العشرين لم تحظ بعد بما تستحقه من دراسة واهتمام. ومن المثير للانتباه حقاً ان تنصرف - او تصرف - الاذهان الى موضوعات ثانوية وأحياناً مصطنعة، مثل "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" و"الخطر الاسلامي"، ولا يعار ما ينبغي من الدراسة والبحث لتجارب شعوب ودول شغلت الانسانية اكثر من ثلاثة أرباع القرن! لنقتصر على تسجيل هذه المفارقة ولننتقل الى ما يتصل بموضوعنا مباشرة لنقول: انه عندما يطرح شعار الديموقراطية في البلدان التي في طريق النمو لا ينبغي ان يطرح كشعار بديل او مقابل او مغاير لما تعنيه الاشتراكية كمضمون. ذلك ان الحاجات والمعطيات التي كانت تبرر شعار الاشتراكية قبل بضعة عقود ما زالت قائمة، وهي اليوم ليست اقل حدة وإلحاحاً من المعطيات التي تبرر وتؤسس فيها الحاجة الى الديموقراطية. ومن هنا يجب القول - في نظري - ان العلاقة بين الديموقراطية والاشتراكية في هذه البلدان من نوع علاقة الشكل بالمضمون: الديموقراطية شكل سياسي والاشتراكية مضمون اجتماعي. وبعبارة اخرى ان الديموقراطية التي تطمح شعوب هذه البلدان الى الانتقال اليها ليست الديموقراطية السياسية فقط بل الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية معاً. اعتقد ان هذا هو المسار الذي يتحرك فيه العالم اليوم. ان الديموقراطية هي اليوم الاطار العام الذي يجري فيه الصراع التاريخي، فكل الطبقات وجميع الفئات المتصارعة تعمل اليوم على خوض الصراع من اجل فرض مصالحها بالوسائل التي تدخل في اطار الديموقراطية. وكثير منها وسائل ذات حدين: كالعولمة والمعلوميات والاتصالات... الخ. وعلى العموم يجري الصراع على هذا المسار على مستويين: في البلدان التي استقرت فيها الديموقراطية السياسية يجري الصراع من اجل اعطاء هذه الديموقراطية المضمون الاجتماعي الاشتراكي الذي يخفف من غلواء الليبرالية ويحقق الحد الأدنى من العدالة. اما في البلدان التي ما زالت تعاني من الحكم اللاديموقراطي فالصراع قائم فيها، بصورة أو بأخرى، من اجل مقومات الديموقراطية السياسية بدءاً من "حقوق الانسان" الى التعبير الديموقراطي الحر واعتبار الشعب مصدر السلطات، الى المضمون الاجتماعي للديموقراطية. والذي يحدد طبيعة المسار ونوع الصراع السائد فيه والآفاق التي ينشد اليها هو خصوصية كل بلد. فلننظر في خصوصية المغرب بلدناً. هذا ينقلنا الى السؤال "من أين؟". لو كان الأمر يتعلق ببلد عاش في الستينات اشكالية "الانتقال الى الاشتراكية"، كالجزائر ومصر مثلاً، لكان الجواب عن سؤال "من أين؟" واضحاً وسهلاً. فالمرحلة التاريخية التي ميزت الوضع، حين طرح هذا الشعار في هذين البلدين، هي مرحلة "الثورة" التي دشنت قطيعة مع الماضي الماضي الملكي في مصر والماضي الاستعماري في الجزائر لتقيم حكم العسكر الوطني وحزبه الوحيد. وبما ان الاشتراكية لم تتحقق في هذين البلدين، فإن الانتقال الى الديموقراطية فيهما يعني إذاً، كخطوة أولى على الأقل، الانتقال من الحكم العسكري الى الحكم المدني ومن الحزب الوحيد الى التعددية الحزبية، الشيء الذي يعني عودة الجيش الى ثكناته كجيش محترف من جهة، وترك الأحزاب تشكل الحكومة بدل تشكيل الحكومة للأحزاب. تلك هي الخطوة الأولى. واضح ان وضع المغرب يختلف: فهو لم يعرف قط حكم العسكر بهذا المعنى، كما ان التعددية الحزبية متحققة فيه منذ الاستقلال، وهو الآن دخل مرحلة تشكيل الحكومة بواسطة الأحزاب. هل تتطابق الوضعية في المغرب مع وضعية بلد كإيران؟ هناك فعلاً اوجه شبه كثيرة: فالعسكر هنا وهناك داخل ثكناته خارج المسرح السياسي، تقريباً. والتعددية الحزبية متوافرة في البلدين اما على صورة احزاب وإما على شكل تيارات. والشبه قوي بين بنية الدولة هنا وبنيتها هناك، ويتمثل خاصة في وجود رئيس حكومة اصلاحي هنا وهناك يحظى كل منهما بتأييد شعبي ودولي واسع، ولكن مشكلتهما انهما لا يمارسان السلطة لأن مراكز القرار ليست في ايديهما، بل هي في ايدي القوى المحافظة التي تعترض سبيل التغيير والاصلاح بشكل او بآخر، على الرغم من انهما يجنحان الى الاصلاح بهدوء، ويتحركان بتبصر، ويتحملان انتقادات انصارهما وخصومهما بصبر. ويمكن ان نضيف شيئاً ما من التشابه بين موقف قمة الدولة هنا وقمة الدولة هناك. فالملك محمد السادس ومن قبله والده المرحوم الحسن الثاني لم يبخلا على اليوسفي وحكومته بضروب من التنويه، ومرشد الثورة في ايران لا يعارض خاتمي صراحة بل يظهر تأييده له. ومع ذلك فوراء هذا التشابه المثير للانتباه يقوم اختلاف كبير على مستوى "من أين؟" لا يجوز اغفاله. ذلك ان الانتقال الى الديموقراطية يتم في ايران من "الثورة" التي قادها رجال الدين الشيعة. وللشيعة مفهوم خاص للحكم يختلف عن المفهوم الذي نجده في المغرب قديماً وحديثاً. اضف الى ذلك ان القوى المحافظة المقاومة للتغيير معروفة في ايران بأشخاصها وجيوبها ومراكز نفوذها وهي تقوم في وجه الاصلاح بصورة علنية وفي وضح النهار، وفي اطار من الصراع مكشوف. اما في المغرب فالقوى المقاومة للاصلاح صنفان: صنف مكشوف يقاوم الاصلاح باتهام الحكومة بالعجز عن القيام بالاصلاح، او على الأقل بكونها تمارسه ببطء! وهذا الاتهام ينتمي الى ذلك الصنف الذي يقال فيه: "كلمة حق أريد بها باطل": هناك بطء فعلاً وهذا حق. ولكن التنديد به من طرف القوى التي صنعت الإرث الذي يجعل الاصلاح اليوم ضرورة ملحة تنديد لا يمكن ان يدخل في دائرة الحق. بل هو "حق" مزيف يراد به او يمكن ان يراد به باطل. ذلك ان اتهام قوى الاصلاح بالعجز عن الاصلاح معناه التشكيك في صلاح الاصلاح الذي تدعيه، وبالتالي يكون ابقاء ما كان على ما كان هو عين "الاصلاح". اما الصنف الثاني من القوى المناهضة للاصلاح فهو "خفي" لا يتكلم لا في البرلمان ولا على صفحات الجرائد، وبعض العارفين يطلق عليه "جماعة الضغط"، وبعضهم يسميه ب"الحزب السري". ونحن لا ندري هل ستتطور الأمور الى وضع شبيه تماماً بالوضع الذي في ايران حيث يتم الصراع بالمكشوف، ام ان حكمة "التراضي" المغربية ستتغلب في نهاية المطاف على ما يحتمل من ردات الى الوراء! كل ما يمكن الجزم به اليوم هو ان الوضع في المغرب غيره في ايران على الأقل من حيث ان الصراع هناك بالمكشوف اما هنا فهو يتم في اطار "التراضي". نخلص من هذه المقارنات الى ان الجواب عن سؤال "من أين يكون الانتقال الى الديموقراطية"، عندما يتعلق الأمر بالمغرب، لن تفيد فيه المقارنة لا مع الجزائر ولا مع مصر ولا مع ايران، بل ولا مع أية دولة اخرى في العالم الا الفائدة السلبية التي تبرز الاختلاف وتؤكد الخصوصية... فلا يبقى امامنا إذاً الا مقارنة المغرب مع المغرب نفسه. وأنا أستعمل هنا كلمة "مقارنة" قصداً، لأنه عندما يتعلق الأمر بموضوع يمت الى عالم الاجتماع والسياسة فإن المقارنة تفرض نفسها صراحة او ضمناً. ذلك اننا في العلوم الاجتماعية والسياسية لا نقوم بالتجارب في المخبر كما يفعل الفيزيائي مثلاً، بل نقوم بتجارب ذهنية تعتمد اصلاً على المقارنة، بنيوية كانت او احصائية. ومع ذلك فلن أسلك هنا طريق الباحث الاجتماعي ولا سبيل المحلل السياسي للجواب عن السؤال المطروح بخصوص المغرب، سؤال: "من أين؟". لن أجابه الوضع الراهن، لن أتخذه خصماً سياسياً ولا موضوعاً للتشريح السوسيولوجي او الايديولوجي، بل سأحاول التعرف عليه بتوظيف جانب مهم من تراثنا الفلسفي. وهذا الاختيار على صعيد المنهج يفي بالغرض. وسيلمس القارئ انه يمكن احياناً الكلام في السياسة بواسطة التراث كلاماً لا يقل قوة ولا صدقية عن الكلام فيها بواسطة معطيات الخطاب السياسي المعاصر. سألجأ إذاً الى ماضي المغرب، وبالضبط الى شهادة المفكرين الذي وصفوا هذا "الماضي" يوم كان حاضراً يجري مجرى الراهن امامهم، وبالتالي فلن تكون مرجعيتي هنا في نفس مرجعية الكلام عن الديموقراطية في أوروبا. وبعبارة أخرى لن أستند لا الى هيغل ولا الى ماركس ولا الى مانهايم، والقائمة طويلة. ستكون مرجعيتي مغربية مئة في المئة، وإذا كان فيها شيء ما من "خارج المغرب" فمستندي سيكون رأي الفلاسفة والمفكرين المغاربة في ذلك الشيء، وليس ذلك الشيء نفسه