بجملتين بسيطتين لكنهما معبرتان بكثافة بالغة عن وجه الاستقطاب الحاد الذي تعيشه بلادنا العربية والاسلامية، لخص الرئيسان الايراني محمد خاتمي والفرنسي جاك شيراك ذلك البعد السياسي الأكثر توتراً من ذلك الاستقطاب المدجج بنذر الحرب وعواصف الاجتياحات، وتحديداً من لبنان حيث ملتقى الشرق والغرب. فأثناء حديثهما عن لبنان و"حزب الله"والمقاومة وصف خاتمي"حزب الله"بأنه"رمز المقاومة في وجه العدوان الاجنبي"، فيما تمنى شيراك ان"يتحول هذا الحزب ليصبح حزباً سياسياً كبيراً في اطار الديموقراطية اللبنانية". في ظاهر الأمر كلاهما مهتم بالمصلحة اللبنانية وكلاهما يريد الخير لها! لكن الأمر أعقد من ذلك بكثير. كيف؟ في لبنان كما في العراق كما في فلسطين كما في سورية كما في ايران أو أي قطر"شرق أوسطي"آخر يمكن ان نختاره يطرح السؤال المركزي الآتي نفسه بقوة لدى طرح أي قضية للنقاش: ما هو موقع هذه القضية أو تلك من القرار الوطني المستقل؟ ولماذا مطلوب منا دوماً ان نرمي"ارادة المقاومة"جانباً كأولوية قصوى ثم نبدأ بمعالجة القضايا المطروحة علينا وغالباً حسب أجندة الخارج ومقاييسه ومعاييره؟! ففي ايران أنت متهم أولاً وقبل كل شيء بأنك تجاوزت الحدود المسموح لك بها كدولة عالمثالثية مسلمة لا سيما في مجال علوم متقدمة مثل التكنولوجيا النووية وهي المحرمة عليك حتى لو كانت سلمية. وفي العراق، أنت متهم عندما تطالب بأجندة واضحة لجلاء الاحتلال، حتى لو كان هذا الاحتلال يمارس اقبح أنواع الانتهاك المنظم لحقوق الانسان ويقتل ما لا يقل عن مئة ألف مدني من ابناء شعبك بحجة وذريعة خطر اسلحة دمار ثبت انها ملفقة وكاذبة. وفي سورية، أنت متهم بإيواء"الارهابيين"ودعمهم واسنادهم ما لم تقدم أوراق الطاعة لدولة الارهاب المنظم المقرر لها ان تقود مشروع"الشرق الأوسط الكبير"وتتزعمه باعتبارها الدولة"الديموقراطية"النموذج والمثال رغم كونها دولة عنصرية"دينية"خالصة! وفي فلسطين، أنت متهم بالترويج للعنف والتحريض عليه مقابل ارادة"السلام"التي تريد املاء الأمر الواقع الليكودي الشاروني حتى على الدولة الأقوى في العالم ورغم أنف الجميع! وفي لبنان، أخيراً لا آخراً، أنت متهم ب"المقاومة"ومقاومة ماذا؟ مقاومة مخطط الاذعان للارادة الأجنبية التي ارتأت من جديد ان تحول لبنان الى مرتكز وقاعدة للانطلاق منها والزحف على مقاومات وممانعات"الشرق الاوسط الكبير"الاخرى التي رفضت مسايرة الاجنبي في مخططه الذي بات مكشوفاً وهو تقسيمنا جميعاً مهما كبرنا الى اجزاء متناثرة ومبعثرة من"دول"الأقوام والأعراق والطوائف والمذاهب والأديان لا يجمع بينها جامع ولا هوية لها الا الهوية"الشرق أوسطية". أعرف ان الكثير من ابناء جلدتنا سيقول فوراً: هل تنكر تفشي الفساد وتجذر الاستبداد في أنظمتنا السياسية وشيوع الظلم واللاعدالة وغيرها من المفاسد، لكن سؤالي الفوري هو: هل هذهن صفات وسمات خاصة ببلادنا فقط؟! ام ان اضعافاً مضاعفة منها كماً وكيفاً متفش ومنتشر في بلاد عدة اخرى، ومنها البلدان التي تطالبنا بنزع"ارادة المقاومة"اولاً وأخيراً؟! وهم غير صادقين في ما عدا ذلك بالمناسبة. أي انهم لا يريدون بعد ذلك أي اصلاح لأمورنا لأن ذلك يفسد عليهم منافعهم ومصالحهم الاستعمارية والتوسعية. ثم لماذا يحق لهم ان يحددوا أولوياتهم كما يشاؤون عندما يتعلق الأمر بارادتهم وقرارهم الوطني المستقل فيصبح الاقتصاد مرة والتنمية البشرية مرة أخرى وحماية البيئة احياناً أو الحريات الاجتماعية أو المنظور الديني للدولة رغم تورط أنظمتهم وامعانها في فضائح حروب ابادة أو انتهال حقوق الشعوب الأخرى أو تعريض الأمن العالمي للخطر؟! هل لأنهم هم ابناء الذوات ونحن ابناء الجارية؟! أم لأن موازين القوى مختلة لمصلحتهم وبالتالي يحق لهم ما لا يحق لنا بفعل هذا الاختلال الفاضح؟! انه الامران معاً وللأسف الشديد. وقد قيل يوماً ان التاريخ تكتبه القوة المنتصرة. انها ارادة السيف والصولجان والقوة العارية ترفعها الدول القوية والمتنفذة بما بات يسمى بالمجتمع الدولي ضد الدول المستضعفة في العالم في اطار معركة غير متكافئة يراد من ورائها، في ما يراد اعادة صوغ للمفاهيم والقيم والمعايير في الشرق كله، وذلك في لحظة طغيان مفاهيم"الديموقراطية الليبرالية الغربية"رغم انف الجميع! اليس كذلك، وهي الحالة التي تريد بنا العودة الى بدايات عصر"التنوير"والاستعمار الحداثي الغربي حيث لخصها رجلهم المشهور سلامة موسى في العام 1923 عندما قال:"علة الأقطار العربية ورأس بلواها اننا ما زلنا نعتقد ان هناك مدنية غير المدنية الأوروبية، فلا نتقبل مبادئ البرلمانية والديموقراطية والاشتراكية، وهذه مبادئ لم تعرفها آسيا أم الاستبداد الاتوقراطي في الحكومة والدين والأدب والعلم مع انها لب النجاح القومي". انها تذكرة استحضرها بين ايدي مثقفينا وكتابنا ونخبنا المحكومة والحاكمة وجمهورنا الفقير على امتداد هلال الشرق المظلوم والمضطهد من طنجة الى جاكارتا حتى لا ينسوا جوهر الصراع ولب المشكلة بيننا وبين المستعمر المتجدد في اساليب خداعه رغم جذابية شعارات الاصلاح ومكافحة الفساد ومطالبات العدالة والحرية التي تقدسها ثقافتنا الشرقية ولطالما دافعت عنها. ورغم جذابية شعار"الانتخابات والديموقراطية"و"المشاركة الشعبية في صناعة القرار"وهو هنا عندما يوظف في اجندة نزع سلاح وارادة المقاومة لدينا يصبح بلا شك كلاماً حقاً يراد به باطل. كاتب متخصص في الشؤون الايرانية.