في سلسلة "الفن السابع" التي تصدر في دمشق، صدرت ترجمة عربية لواحد من أحدث الكتب التي تحدثت عن المخرج الايطالي الراحل فديريكو فيلليني، وهو كتاب أعدته الناقدة شارلوت شاندلر بالتعاون مع المخرج على مدى 14 سنة ويعتبر بمثابة مذكرات لصاحب "اني أتذكر". تأخذ مذكرات فديريكو فيلليني 1920-1993 أهمية خاصة لأكثر من سبب، فهي تشكل نوعاً من أدب الاعتراف النادر، وتتجاوز ما كتبه أكثر النقاد في تحليل أفلامه، والبحث عن علاقتها بمفردات حياته الشخصية، وأحلامه بشكل خاص، حيث تشكل هذه الأحلام "الحقيقة الوحيدة" في حياته، أما ذكرياته التي تملكه، بدلاً من أن يملكها، فانها مفتوحة، عمقاً واتساعاً، على شريط حياته، منذ أن كان طفلاً يحبو، ويتلمس ما حوله، الى الاكتشافات المبكرة لعالم السيرك والسينما والرسم، الى تفاصيل العلاقات العائلية والمدرسية، وعلاقات العمل، في ما بعد ذلك، والصداقة والحب، وما رافق هذه وتلك من طموحات وأحلام وأوهام، ونجاحات لم ينبهر بها، وانكسارات لم ينهزم أمامها. كل هذه العناوين العريضة، وعناوين أخرى مختلفة، عن الأحداث الكبرى والأفلام والمخرجين والممثلين والمعجبين وسائقي سيارات الأجرة، يضمها كتاب "أنا فيلليني" الذي أملاه فيلليني على الناقدة السينمائية شارلوت شاندلر، على مدى أربعة عشر عاماً قبل وفاته، ونقله الى العربية عارف حديفة، وصدر في سلسلة "الفن السابع" عن المؤسسة العامة للسينما بدمشق في اربعمئة وتسعين صفحة من القطع المتوسط. يتوزع الكتاب الى ثلاثة أقسام هي: فديريكو - فديريكو فيلليني - فيلليني، ويحكي القسم الأول عن مرحلة الطفولة التي تعرف فيها فديريكو على السيرك والمهرجين وصالة سينما فولجور وأفلامها الهوليودية. وفي الوقت نفسه، تعرف على القصص الأميركية المصورة، ومنها سلسلة "نيمو الصغير" التي ابتدعها الفنان وينسور ماكاي، وتحولت بعض قصصه المصورة، برسومه البارعة، الى أفلام كرتون، سبقت تجربة والت ديزني، وهو كذلك مبتكر شخصية "الديناصور جيرتي". وهناك شخصيات كرتونية وشخصيات حية أخرى كانت تداعب مخيلة فديريكو، منها شخصية "بوباي" البحّار المغامر وزوجته أوليف أويل، ثم شخصية فلاش غوردون، وفي التاسعة من عمره بدأ فديريكو يصنع الدمى، ويعرضها، وظلت الدمى تعيش في ذاكرته الى اخر أيامه، وحمل فديريكو الشاب ذكرياته في مدينة ريميني الى روما، حيث بدأ يرسم وينشر المقالات ويكتب للاذاعة، ويتسلل الى أضواء السينما، كاتباً ومخرجاً وممثلاً. في القسم الثاني حكاية للمراحل التي تحول فيها الشاب فديريكو من معجب بالأفلام السينمائية الى مخرج سينمائي مغامر، تدعمه مواهبه الأخرى في الكتابة والرسم والتمثيل. أما القسم الثالث فيحكي عن الرجل الذي تحول الى أسطورة عالمية، وكانت شهرته تسبق شهرة الأفلام التي صنعها، وأصبحت "الفيللينية" أسلوباً مألوفاً مشتقاً من اسمه، وصارت أهم شخصية في أفلامه تلك الشخصية التي لا تظهر، ولكنها موجودة دائماً، انها شخصيته هو، الذي كان نجماً في كل أفلامه، وفي حياته العادية. عاش فيلليني طفولة خاصة في ريميني، قبل أن ينتقل الى روما، كان يحمي خصوصية عواطفه، فمع أنه يشارك أخاه وأخته الأصغرين في الضحك والفرح، إلا أنه لم يكن يعترف بالحزن والخوف، وكان يميل الى العزلة، لكي يكون مع نفسه بكل معنى الكلمة، حيث يمنحه الصمت فرصة المناجاة الداخلية التي لا تنتهي. والذكريات التي عاشها في تلك الطفولة البعيدة لا يستطيع أن يصوغها بالكلمات، لأنها أخذت شكل الصور، وهو لم يعد متأكداً من أنها حدثت فعلاً، فقد اختلطت الصور والوقائع بالأحلام. وترسخت الجذورالبعيدة لعلاقته بالفن من خلال العلاقة الحميمة التي ربطته بالدمى التي كان يصنعها ويعرضها، حيث كان يرسمها أولاً ثم ينفذها بورق الكرتون أو الصلصال، قبل أن يتعلم استخدام الجص الأبيض في مرسم نحات في الطرف الآخر من الشارع، وحينما بلغ السابعة زار السيرك للمرة الأولى، حيث صدمته رؤية المهرجين، ولم يكن يعرف أنهم أحياء أم أشباح، وتوطدت علاقته بالسيرك عندما تحدث مع مهرج، وقام بغسل حمار وحشي في ذلك السيرك الذي كان يهرب إليه كثيراً، ويتحمل العقوبة من أمه عندما يتأخر في العودة الى المنزل. جنس ومعكرونة وإذا كان الايطاليون يعتقدون أن العناصر الأكثر تأثيراً في تكوين الشخصية في جيل فيلليني، هي الأسرة، والكنيسة، والمدرسة، ثم الفاشية، فإنه هو يعتقد أن المؤثرات المبكرة في شخصيته هي المشاعر الجنسية، والسيرك، والسينما، والمعكرونة، ولكل من هذه المؤثرات قصة اكتشاف خاصة وفهم خاص لدى فيلليني، الذي كانت حياته الشخصية نبعاً أساسياً لكل ابداعاته كما يقول: "اعتقد أنني حتى لو عملت فيلماً عن كلب أو كرسي، لكان سيرة ذاتية الى حد ما... ان أفلامي أشبه ما تكون بالمقابلات الذاتية". يذكر فيلليني أن مصطلح "المخرج المؤلف" ظهر للمرة الأولى حينما كتب الناقد الفرنسي الشهير اندريه بازان - رائد الموجة الفرنسية الجديدة - مقالاً عن فيلم "ليالي كابيريا"، وأن "الحياة الحلوة" أدرجت، كعبارة انكليزية من أصل ايطالي، في معجم أميركي شائع، منذ عام 1961، ووردت في ذلك المعجم كلمة "بابارازو" وهو الاسم الذي اطلقه فيلليني على المصور الصحافي المتطفل الذي لا روح فيه، في فيلم "الحياة الحلوة"، واسم هذا الصحافي، الذي لا يرى العالم إلا من خلال العدسات، مأخوذ من اسم شخصية في احدى الأوبرات المغمورة، وتحول بعد ذلك الى بابارازي. واختلط اسم فيلليني بالأفلام عند احدى المعجبات التي اقتربت منه تطلب توقيعه فسألها: هل تعرفينني؟ فأجابته: نعم، أنت "فيللميني"! وأصبحت الفللينية مصطلحاً معجمياً يشير الى الخصوصية الذاتية في الأسلوب، والمزاوجة بين الحلم والواقع، فمع البراءة في الحياة وفي صناعة الأفلام يتجه فيلليني الى المغامرة دائماً، ويقول: اسحب ذيلاً قصيراً، فقد يكون في نهايته فيل. وتتركز اهتمامات فيلليني حول الشخصيات التي تعاني من العزلة والوحدة لأسباب ذاتية أو خارجية. اعتاد فيلليني أن يندهش أمام الأشياء التي يراها أو يسمعها، ودهشته الطفولية لا تمنعه من الصراحة الجارحة في مواجهة الأشياء أو الأعمال التي لا تعجبه. وهو يتحدث عن المخرجين السينمائيين، باسهاب أحياناً، وباختصار شديد أحياناً أخرى. ويرى أن ديفيد لين مخرج "لورنس العرب" من العظماء، ولويس بونويل أستاذ حقيقي وساحر سينمائي، أما ستانلي كوبريك فهو مخرج عظيم يتصف بالخيالية والصدق، وهو يستطيع أن يصنع فيلماً في أي وقت. أما البدايات العملية لفيلليني فقد ارتبطت باسم المخرج روبيرتو روسيليني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ويعترف فيلليني بأنه تعلم من روسيليني كثيراً. ومع أن فيلليني ليس مولعاً بالسفر وأضواء المهرجانات السينمائية، إلا أن هذه المهرجانات كانت تتيح له فرصة اللقاء بالمشاهير من المخرجين، ومنهم انغمار بيرغمان، وكان يتصور أن لقاءهما سيكون ساخناً، ولكن الحوار بينهما انصب على تجارب السفر والطقس وموضوعات أخرى ليست فكرية ولا ابداعية. وانتقل بيرغمان إلى الحديث عن علاقته بمسرح الدمى في طفولته، وهي الأساس المتين لعلاقته بالسينما، ونصح فيلليني باخراج أعمال مسرحية في الفترات التي تفصل بين كل فيلم وفيلم آخر من أعماله. ادرسون ويلز والفاصوليا أما اللقاء الأول مع اورسون ويلز، فإنه مختلف جداً، فقد قال ويلز لفيلليني: أنت ساحر، ثم انتقل إلى الحديث عن الطعام، وكأنه يقرأ شعراً، وامتدح الفاصوليا مع زيت الزيتون. كان فيلليني يتحول إلى متفرج عادي جداً حينما يشاهد أفلاماً عظيمة، يذكر منها "المواطن كين" لأورسون ويلز، وأفلام بيرغمان التي تحمل روحاً كئيبة وسامية، وفيلم كوبريك 2001 أو أوديسا الفضاء، وأفلام بيلي وايلدر. أما أفلام كورساوا عن اليابان القديمة فإنها رائعة في تصويرها الفريد للخيال الارستوقراطي الياباني القديم، فالأفلام الجميلة تجعل فيلليني يصدق قصتها مهما كانت خيالية، أما آخر الأفلام الايطالية الذي أثار اهتمام فيليني فهو "سينما باراديسو" لجوسيبي تورناتوري، الذي يتمتع بالفردية الصادقة من دون أن يبتعد عن التراث العظيم للسينما. بدأت علاقة فيلليني بالفنون من خلال ممارسته للرسم، ومن بوابة الرسم دخل إلى فضاء السينما، واعتاد أن يرسم وجوه الشخصيات قبل أن يكتب أدوارها وحواراتها في أفلامه، وهو يعتبر تولوز - لوتريك معلمه في رسم الحركة في السينما، وحينما خطر له ان يقدم "الكوميديا الالهية" لدانتي في عمل سينمائي، رأى ان أفضل اسلوب لتقديمها هو اسلوب "هيرونيموس بوش" في الرسم، و"بوش" هو الجد البعيد للمدارس الجديدة في الرسم. كانت طموحات فيلليني تتغير في اختيار موضوعات أفلامه لكي يبتعد بهذه الأفلام عن التشابه، وفي فترات متباعدة خطرت له أفكار لانجاز أفلام عن الالياذة والكوميديا الالهية ودون كيشوت. وكان فيلليني في شبابه مولعاً بالروايات البوليسية للكاتب الفرنسي جورج سيمنون، ولم يكن يتصور ان مثل هذه الروايات يمكن ان يكتبها شخص ما، ومرت سنوات طويلة قبل أن يلتقي فيلليني بجورج سيمنون الذي كان رئيساً للجنة تحكيم مهرجان كان عام 1960 حيث انتزع فيلم "الحياة الحلوة" السعفة الذهبية، وكانت جولييتا ماسينا بصحبة فيلليني وكانت سعيدة بهذا اللقاء، حيث طبعت على خد سيمنون قبلة وهو في طريقه إلى منصة الاحتفال، ويذكر فيلليني أن سيمنون كان سعيداً بهذا اللقاء مع فيلليني وجولييتا، وكتب فيلليني يقول: "ما ادهشني في سيمنون أنه يعتبر نفسه فاشلاً، فهو لم يشعر قط أنه ناجح فعلاً، وأعرب عن اعجابه بأعمالي، وأنا الذي كنت شديد الاعجاب بأعماله، وسألته عن سبب ذلك الشعور لديه حول أعماله، فقال: "انني لم أعالج إلا الواقع المبتذل...". وأسفرت هذه العلاقة الخاصة بين فيلليني وسيمنون عن رسائل متبادلة لسنوات طويلة. وتلقى فيلليني ذات يوم مكالمة باللغة الانكليزية بلهجة أميركية جنوبية، وقال المتكلم إنه تنيسي وليامز، ودعا فيلليني لتناول الغداء معه في روما، فتخيل فيلليني أن تلك المكالمة هي مزحة غليظة، فاعتذر عن الدعوة، ولكن الهاتف رنّ مرة أخرى، وأكد تنيسي وليامز أنه حصل على رقم فيلليني من آنا مانياني، والتقى فيلليني بوليامز في مطعم الفندق الكبير في روما، وقال وليامز إنه أراد أن يتغدى مع فيليني للمتعة، وليس للبحث عن انجاز فيلم، وكان يكرر عبارات محددة ثم يغرق في ضحك يثير انتباه رواد المطعم، وأكد أنه اقترف كل الذنوب في الدنيا باستثناء سوء السلوك. وكان هذا اللقاء هو الأول والأخير بين فيلليني ووليامز، مع أن وليامز زار روما في وقت لاحق، وحاول فيليني ان يتحدث معه ليدعوه إلى الغداء، ولكنه لم يجده. وإذا كان فيلليني على علاقة وثيقة بالكتابة، وله علاقات خاصة مع الروائيين وكتّاب السيناريو، فإن أكثر الكتّاب تأثيراً في حياته هو عالم التحليل النفسي كارل يونغ. ويذكر فيلليني ان له صديقاً هو المحلل النفسي ارنست بيرنهارد، ساعده على اكتشاف عالم كارل يونغ، الذي بدا لفيلليني أهم من عالم فرويد بسبب ان فرويد يمثل التفكير العقلاني، بينما يمثل كارل يونغ التفكير الخيالي. وكانت تأثيرات التحليل النفسي واضحة في أعمال فيلليني عموماً، وفي فيلمي "ثمانية ونصف" و"جولييت والأشباح" خصوصاً، بينما كانت الأحلام الخاصة بفيلليني هي الحقيقة التي تنتشر في أفلامه بدرجات متفاوتة، وكان فيلمه "مدينة النساء" مبنياً على الحلم، كله، وفي سياق حديث فيلليني عن الأحلام يظل يتذكر كارل يونغ، ويسميه الأخ الأكبر يونغ