رحل السينمائي الايطالي الكبير فيديريكو فيلليني في الواحد والثلاثين من تشرين الأول اكتوبر، عن عمر يناهز الثالثة والسبعين، تاركاً وراءه مسيرة فنية صاخبة، وعشرات الأفلام التي دخلت ذاكرة العصر وصارت جزءاً من ضميره. فصاحب "لا دولتشي فيتا" اعتبر في حياته أحد كبار القرن العشرين، مثل بيكاسو وشابلن وأورسون ويلز، وإرنست همنغواي... وجاءت أفلامه حلقات متلاحقة لحكاية طويلة، تتماهى فيها سيرته الذاتية الحميمة بأوجاع زمنه وتساؤلاته الميتافيزيقية. في ما يأتي اطلالة على عالم المايسترو وأبرز أفلامه، واستعادة لمحطات أساسية في حياة الرجل الذي كان كل عمل جديد من أعماله يتحول حدثاً فنياً كبيراً. في ختام الحوار الطويل الذي أجراه معه الناقد جيوفاني غراتزيني، وصدر في كتاب عام 1983، يسأل الصحافي المذكور فيديريكو فيلليني عمّا بقي لديه ليقوله في فيلم مقبل. ويجيب السينمائي الايطالي الشهير: "لست أدري. بعد كل الموتى والاضرحة، بعد كل اللذة التي شعرت بها أمام مشاهد الردم والخراب، ربما كانت تراودني رغبة في ارضاء هؤلاء المشاهدين - وأغلبهم من النساء - الذين يطاردونني بعد كل فيلم من أفلامي بسؤال يشوبه شيء من الخجل والخيبة: ولكن لماذا لا تحقق فيلماً يتحدث عن حكاية حب جميلة؟". وربّما قام فيلليني من خلال هذا الرد القصير، المفعم بنوع خفي من السخرية وحده يملك سرّه، باختصار عالمه السينمائي اختصاراً مدهشاً... أليست سينماه من أساسها، وعبر مختلف مراحلها، حكاية حب شفافة ومتواصلة؟ اليوم وقد رحل هذا الفنان الاستثنائي الذي يعتبر من أكبر مبدعي عصره، وجاء رحيله في اليوم التالي لعيد زواجه الخمسين برفيقة دربه وأشهر ممثلاته جولييتا ماسينا، يكفي أن نلقي نظرة متفحصة على كل ما حققه، أن نستنطق سينماه بعد أن اكتملت اللوحة، لنكتشف كم أنها سينما مفعمة بالعذوبة والحب. هذا الاحساس الطاغي بالحب، ينبعث لديه من بين الخرائب، يطلع من الموت، يتسرب بهدوء وخفة من أكثر المشاهد حزناً، ويلازم النبرة الساخرة. فحتّى القسوة لدى فيلليني تقترن بالحنان. ترى ماذا تحمل نظرات زامبانو أنطوني كوين الباحثة بشغف عن جلسومينا جولييتا ماسينا، في المشهد الاخير من فيلم "لا سترادا" الطريق - 1954 غير هذا الحب؟ زامبانو الذي يبدو شخصاً قاسياً لا يهتم سوى بقوته البدنية وميوله الغريزية، يرتقي في لحظة حنان ليصبح شخصية "فيللينية" بامتياز. وبهذا المعنى، تكاد تكون أفلامه رحلة متواصلة في أعماق النفس البشرية، وخفاياها الحميمة. لكن سينما فيلليني، لم تخلُ - من جهة أخرى - من تلك اللمسة السوداوية المتشائمة التي ترافق النظرة الى المصير الانساني، والى مكانة الحب في مجتمعنا المعاصر. فجلسومينا تموت في نهاية "لا سترادا" دون أن يمهلها الوقت للتمتع بحبها لزامبانو، وبرودريك كراونورد يُقتل على يد رفاقه في نهاية "الاوغاد" 1955، بعد قراره الاقلاع عن الشر، واحتفاظه لنفسه بالمال المسروق بهدف اعادة ابنته الى المدرسة. وفي "لا دولتشي فيتا" الحياة اللذيذة - 1960، ستبدو نظرة مارتشلّو الضائعة في اللقطة الاخيرة، أمام دعوة الفتاة البريئة له للعودة الى جذوره النقية، خير دليل على انتصار الفساد في مجتمع لم يعد بامكان أحد أو شيء أن ينقذه... اللهم الا ذلك النعيم الذي يحل على البعض، فيطلع بهم من البؤرة، حتّى لو دفعوا حياتهم ثمناً لهذا الانعتاق. طوال أربعين عاماً أمضاها فيديريكو فيلليني متربعاً على عرش الفن السابع، كان الرجل ساحراً حقيقياً، ولاعباً ماهراً، وساخراً من الطراز الرفيع. سخر من الجميع ومن كل شيء: من المجتمع، من الآخرين، من المفاسد، و... من نفسه أوّلاً وأخيراً. فالسينما التي حققها هي في أغلبها سينما ذاتية، بحيث يصح القول إنه لم يتحدث إلا عن نفسه في نهاية الأمر. ولكنه لم يفعل ذلك دائماً في الاتجاه الذي ادعاه النقاد ودارسو أعماله. فعلى الذين رأوا مثلاً أنه يرمز الى نفسه في "لا سترادا" من خلال شخصية زامبانو، لاعب السيرك القوي، الطاغية، والحسّي، كان يرد بأنه اذا كان لا بد من شخصية تعبّر فعلاً عنه في الفيلم، فهي بالضرورة شخصية جلسومينا، تلك المرأة الغارقة في براءتها حتّى الثمالة، وسط عالم شرس يحرمها من الحنان ويسرق براءتها في الوقت نفسه. لم يتحدث فيلليني اذاً إلا عن نفسه. ولكنّه كان يضلل متابعيه كل مرّة، كلاعب ماهر. فتارة نقتفي أثر المخرج الكبير في ملامح الشخصيات التي مثلها مارتشيلو ماستروياني: في "لا دولتشي فيتا" يؤدي الاخير دور صحافي ينغمس في خواء حياة المثقفين في روما بصخبها وترفها، فينسى دوافعه الاولى ويفقد طاقاته الابداعية. ويصوّر "ثمانية ونصف" 1963 سينمائياً يحضّر لتصوير فيلم عن هروب الناجين من الحرب العالمية الثالثة، لكنه يجد نفسه عاجزاً عن التعبير وسط دوامة المشاكل مع منتجه، مع زوجته، ومع فتاة يقيم معها علاقة غامضة تكشف مكامن عجزه. لكن فيلليني تعمّد، تارةً أخرى، أن يتنكر بشكل يعقد المعادلات والرموز والمراجع. اذ صوّر نفسه في جلد امرأة تعيش هواجسها وأحلامها الخائبة، وبراءتها الموؤودة... وهذه الادوار أدتها غالباً زوجته جولييتا ماسينا، التي كانت - شأنها شأن ماستروياني - أناه الاخرى ومجسدة معاناته على الشاشة. البدايات مع روسيلليني لكن المكونات التي أشرنا اليها لا تختصر وحدها العالم الغني لهذا السينمائي، ولا أفلامه الحافلة بالحكايات والشخصيات. فكلما أوغلنا في مسيرة الرجل وعالمه الخصب، وقعنا على مزيد من العناصر التي تضيء لنا جانباً من الطريق وتدفعنا الى اكتشافات جديدة مشرعة على الدهشة، تصوغ مجتمعة نظرة فريدة الى الوجود والى الحياة الانسانية. سيرة فيديريكو تناقلتها عشرات الكتب والمقابلات التلفزيونية والصحفية. فالصبي المولود عام 1920 في عائلة من الطبقة الوسطى، في مدينة ريميني البحرية الجميلة على البحر الادرياتيكي، انصرف في وقت مبكر الى الكتابة والفن. وبدأ كرسام كاريكاتور، قبل أن يمتهن الصحافة ويلفت الانظار بقدرته على الابتكار والسخرية والتجديد. ثم راح فيلليني يقترب من الفن السابع، حين لجأ بعض الاستوديوهات الى خدماته، فحقق نجاحاً في مجال المؤثرات الخاصة. غير أن الشاب الواعد لم ينخرط في مجال الانتاج الفعلي، الا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي الحانوت الذي فتحه لبيع الرسوم الكاريكاتورية، جاء ذات يوم المخرج الكبير روبرتو روسيلليني ليعرض عليه العمل على سيناريو فيلم سرعان ما سيترك بصماته على تاريخ الفن السابع. هذا الفيلم هو "روما مدينة مفتوحة". هكذا شارك فيلليني ككاتب سيناريو في العديد من الاعمال، قبل أن يقرر الوقوف خلف الكاميرا ليخوض مغامرة الاخراج. وافته الفرصة الاولى في العام 1950 عندما حقق مع ألبرتو لاتوادا فيلم "أضواء مسرح المنوعات"، لكن ثمار النجاح النسبي للفيلم قطفها شريكه الذي كان يتمتع بشهرة أوسع. وكان لا بد من انتظار العام 1952 كي يبدأ فيلليني مسيرته الفعلية كمخرج مع "الشيخ الابيض". ومنذ خطواته الاولى نلمس تلك اللمسة الساخرة، اذ يدور الفيلم حول "بريد القلوب" والقصص المصورة وما تروجه من عواطف استهلاكية وأحلام سريعة الاحتراق. وجاء فيلم "العابثون" 1953 ليطلق فيلليني بشكل حقيقي، خاصة أنه وضع في عمله هذا أسس الاسلوب الذي سيطبع مسيرته الفنية، والقائم على البعد الذاتي والنبرة الخاصة. عبر نظرة حنان وقسوة الى شباب مدن الارياف في الخمسينات، يخوض المخرج الشاب في شؤون وشجون المجتمع الايطالي. ويعمد الى تحطيم مفهوم السرد الخطي الذي كان سائداً في السينما، متخطياً التدرج الواقعي للاحداث ولتطور الشخصيات، في رسم معالم الخيبة والفراغ التي سيعود اليها في أفلامه اللاحقة انطلاقاً من "لا دولتشي فيتا". بين 1954 و1957 راح فيلليني يرسخ عالمه ويحكم السيطرة على لغته الفنية، فحقق أفلاماً ثلاثة هي "لا سترادا" و"الاوغاد" و"ليالي كابيريا"، لعل القاسم المشترك الاساسي بينها أنها تتحدث عن الغربة التي يعيشها الانسان الأعزل في مواجهة العالم الخارجي. فجلسومينا وبرودريك كرافور وفتاة الهوى في "ليالي كابيريا" ماسينا، ينتمون الى الحثالة وعالم الهامش، لكنهم ما زالوا يتشبثون بالبراءة في مواجهة القهر المحيط. الاولى عن طريق سذاجتها وتعلقها بأشياء الحياة الصغيرة وسعيها الى سعادة متخيلة... والثاني انطلاقاً من النعمة التي تحل عليه فجأة اثر لقائه بابنته... والثالثة عبر بحثها عن الحب كحل وحيد ممكن لردم هذا الشرخ بين جسدها وروحها. لا حاجة للاشارة الى كون قسوة العالم هي التي تنتصر على البراءة، وربما كانت هذه المعادلة هي التي ستدفع مارشيلو في "لا دولتشي فيتا" الى خوض اللعبة، متخلياً هذه المرّة طوعاً عن البراءة، ومستسلماً للعبة السأم والتفاهة التي يكون الانخراط فيها شرطاً لولوج عالم روما المخملي، وتحقيق النجاح الاجتماعي... ومع الفيلم الأخير الذي نال السعفة الذهبية في "مهرجان كان" عام 1960، كان فيلليني فرض نفسه نهائياً كواحد من كبار مؤلفي السينما في النصف الثاني لهذا القرن. لكن هذا التكريس، بدل أن يدفع بصاحبه الى الاستقرار والاكتفاء، سرعان ما زج به في حلقة مفرغة من الأسئلة الوجودية القلقة، عن الجدوى والمعنى والقيمة الحقيقية لما يفعله ولما ينجزه. انها الأسئلة نفسها التي ستقوم عليها فكرة فيلمه الثاني الكبير "ثمانية ونصف"، والعنوان ذو نبرة أوتو - بيوغرافية واضحة، فهو يشير الى الرقم الفعلي للفيلم في مسيرة فيلليني السينمائية، حيث كان أنجز سبعة أفلام طويلة وفيلماً قصيراً... في "ثمانية ونصف" يؤرخ فيلليني لنفسه، يطرح هواجسه وأحلامه وأزماته الداخلية، ويسخر من نفسه ومن فن السينما. كما يتميز العمل باضافات أسلوبية قوامها اللجوء الى المزج بين الحلم والواقع، بين الذاتي والموضوعي، بين تبني معاناة البطل من جهة وادانته من جهة أخرى... إذ نراه هنا يحطّم قواعد السرد بشكل لم يسبق له مثيل في السينما، كأنه لجأ الى قاعدة الكتابة الأوتوماتيكية، مما سيمارس تأثيراً كبيراً على الفن السينمائي في العقود التالية. بيد أن الفضيحة التي أثارها الفيلم في وقته، لم توقف فيلليني عند حدوده، بل شجعته أكثر فأكثر على المضي في تشريع أعماله على المشاغل الذاتية وعلى النظر الى العالم من منظاره الخاص، والتعبير عنه بضمير المتكلم. اذ سنلاحظ أن المايسترو سيقدم خلال العقد التالي على انتاج الفيلم نفسه في حلل وقوالب مختلفة، مكرراً الغرف من خزان الذاكرة والطفولة والهواجس الشخصية: "جولييت الأرواح" 1965، "فيلليني - ساتيريكون" 1969، "المهرجون" 1970، "فيلليني - روما" 1972، وصولاً الى الذروة مع واحد من أشهر الأفلام التي تختصر فن المعلم وتوجهه الاوتو - بيوغرافي وهو بعنوان "أماركورد" أحب وأتذكر، 1973. هذه العناوين تختصر مفترقاً مهماً في مسار فيلليني، اذ شهدت انتقاله من الأبيض والأسود الى السينما الملونة، ومن سينما النخبة الى السينما ذات التوجه العريض. ففي السبعينات لم يعد السينمائي الايطالي مخرجاً كبيراً وحسب، بل صار مخرجاً شعبياً أيضاً، يحتل في عصره المكانة نفسها التي يحتلها مبدعون من طينة بيكاسو وأورسون ويلز وإرنست همنغواي... وربما اضطره موقعه الجديد الى انتهاج مسالك تعبير أقل تجريبية، ومناح سردية أقل تشابكاً لاجئاً الى تعبيرية أكثر وضوحاً. لكن فيديريكو فيلليني بقي محوراً لأفلامه، بما في ذلك فيلم "ساتيريكون" الذي يعود بنا الى الدولة الرومانية القديمة من خلال نص بيترون الشهير. فهل تراه قال في "ساتيريكون" الذي يشجب مفاسد المجتمع ومثقفيه في روما القديمة، غير ما قاله قبل عقد في "لا دولتشي فيتا"، حيث صور الانهيار الحتمي لأناه الأخرى في مجتمع لا يرحم؟... ومع "روما" و"أماركورد" يستعيد فيلليني ذكرياته بشكل مباشر: من طفولته في ريميني أيام الفاشية المتغلغلة في العقول، الى شبابه في روما التي وصلها صحافياً شاباً فشرعت له الباب على كل الأوهام الجميلة، وكل الخيبات. الفنان وشؤون عصره يرى بعض المؤرخين والنقاد أن الأفلام التي حققها مخرج "أماركورد" بعد ذلك، أتاحت المجال للنظر اليه على أنه مخرج عرف مجده الأكبر وأفضل انجازاته بين أوائل السبعينات وأواسطها. وربما كان في هذه النظرة شيء من الصحة. فقد جاء فيلم "كازانوفا" 1976 ليترك الجمهور العريض في حالة من الحيرة. وبقي الجمهور طويلاً يحن الى "أماركورد" رافضاً اللحاق بفيديريكو في شعاب حياة زير النساء الشهير، وعلى الأرضية الجمالية والزخرفة البصرية والشكلية التي ميزت أسلوب العمل الجديد. لكن "كازانوفا" يبقى عملاً يكشف عن زيف الذكورة وادعاءاتها الكاذبة، وسيعود المخرج الى هذه المسائل في واحد من أقل أفلامه قوة أي "لا تشيتا دي دونا" مدينة النساء، 1980. وعاد فيلليني لاحقاً الى أجوائه الغريبة مع "بروفا دوركسترا" 1987 و"... وأبحرت السفينة" 1986، ليعبر من جديد عن الأزمة الأساسية التي تمحور حولها فيلم "ثمانية ونصف"، وليطرح تساؤلاته الأساسية حول جدوى الفن ووظيفة الفنان، خاصة اذا كان هذا الفنان مكرساً، ووجد نفسه في لحظة ما مضطراً الى التدخل في شؤون العصر... مع العمل الأخير، أطلق المايسترو لنفسه العنان، معبراً عن فوضاه الداخلية، فوضى الخراب الجميل، هذا الخراب الذي يبدو احساساً مبكراً بموت بدأ يقترب على رؤوس أصابعه. الموت أولاً وأخيراً "... وأبحرت السفينة" فيلم يتحدث عن الموت أولاً وأخيراً. فالابحار إنما يستهدف الوصول الى عرض البحر، حيث يتعين أن يرمى رماد مغنية أوبرا شهيرة. لكن هذه الجنازة سرعان ما تبدو لنا جنازة للقائمين بها والمشاركين فيها! لقد وصل فيلليني في هذا الفيلم الى حد من السخرية لم يكن سبق له أن بلغه من قبل، عبر اختيار الشخصيات وزينتها وعباراتها وعلاقاتها. صحيح ان سينما فيلليني كانت منذ البداية سينما شخصيات وأقنعة وأجساد مترهلة وأزياء عجيبة، سينما تجمع أنماطاً كاريكاتورية من الناس تذكر الى حد بعيد بالرسوم التي كان ينشرها الفنان خلال الأربعينات في مجلة "ماركوس أوريليوس"، غير أنه وصل مع "... وأبحرت السفينة" في رسمه للشخصيات الى مستويات نادرة، لن يضاهيه فيها الا السينمائي الانكليزي بيتر غرينواي، لكن هذه حكاية أخرى... بعد هذا الفيلم شعر فيديريكو فيلليني أنه صفّى حسابه مع المجتمع، وبدا أن الوقت قد حان لفتح معركة جديدة. العدو هذه المرة سيكون التلفزيون. ومعركته الدونكيشوتية هذه، وصلت الى ذروتها في فيلم "جينجر وفريد". هذا الفيلم العذب يسخر من التلفزة وسياسة الاعلانات، من خلال حكاية ممثلين ايطاليين ماستروياني وماسينا معاً هذه المرة على الشاشة، وجهان لشخصية المخرج نفسها...، اشتهرا في الخمسينات بتقليدهما لأداء ثنائي الرقص الشهير فريد آستير وجينجر روجرز. وها هي احدى الاقنية التلفزيونية تدعوهما في الثمانينات لتقديم عرض يدخل ضمن اطار برنامج شعبي للمنوعات. انطلاقاً من هذه الحبكة يقدم فيلليني مرافعته القاسية ضد التلفزيون، وضد الاذى الذي الحقه هذا الاخير بالفنون الحقيقية والابداع الصادق والاصيل. الموضوع نفسه سيعود اليه من خلال فيلم آخر عنوانه "لنترفيستا" المقابلة، 1987، حيث يمثل فيلليني دوره الحقيقي، منهمكاً بالعمل في احدى استوديوهات "سينيتشيتا" الشهيرة، حين يقصده فريق من التلفزيون الايطالي لاجراء مقابلة معه. مقابلة ستكون فرصة لاحياء لحظات حب نادرة لهذا الفن الذي كرس نفسه له، ولاحياء مشاريع لم تتسنّ له فرصة تحقيقها، مثل مشروعه عن رواية "كافكا اميركا" التي لم يجد منتجاً واحد متحمساً لانتاجه. الفيلم الوصية بعد "لنترفيستا"، سيحقق فيلليني فيلماً مدهشاً وغريباً، شاعرياً وضاحكاً في الوقت نفسه، فيلماً يمكن اعتباره وصية فنان كبير. هذا الفيلم هو "صوت القمر" الذي عرض في "مهرجان كان" للعام 1990، وانقسم النقد حوله بين قائل بانطلاقة جديدة في مسيرة المايسترو، وبين معتبر ان الرجل انتهى ولم يعد لديه ما يقول. حقق السينمائي الايطالي فيلمه الاخير وهو في السبعين من عمره، ووراءه اربعون عاماً من العمل في حقل الفن السابع. و"صوت القمر" فيلم عن الجنون، هذه الوسيلة الوحيدة المتبقية للاحتماء من زيف العالم، وللهروب من العزلة... ترى هل اكتشف فيلليني بعد كل هذه السنوات، ان الجنون هو الدواء الشافي، وحده كان بامكانه ان ينقذ جلسومينا وكابيريا من مصيرهما؟ في العام 1970، كان فيلليني انجز "المهرجون" وبدأ يعد لفيلمه التالي "روما"، حين التقينا به - ضمن مجموعة من دارسي السينما - في المركز التابع لپ"المدينة السينمائية"، تحلقنا حوله بوجل، وهو ممسك بقناع مضحك عثر عليه بلا شك بين اكسسوارات احد المخازن. فما كان منه الا ان وضعه على وجهه واستغرق في الضحك. ثم راح يتعرف علينا واحداً واحداً، متمهلاً عند زميلتنا اليونانية التي كان وزنها يفوق الپ120 كيلوغراماً. ثم انتهرنا المايسترو، في عز النقاش عن السينما وثورات الطلاب والعالم الثالث، قائلاً: "ما هذا؟ انكم جديون اكثر من اللزوم. الا يترك احد منكم قدراً من الجنون يفلت من سماته؟ اذا كانت الاجيال الجديدة كلها مثلكم، فان العالم الذي سيطل علينا سيكون عالماً شديد الكآبة". ثم اخذ القناع وابتعد غاضباً او يفتعل الغضب. لم افهم شخصياً المغزى الحقيقي لتصرفات هذا السينمائي الكبير، الا بعد زمن طويل جداً. وبالتحديد حين شاهدت "صوت القمر"، وفهمت لأول مرة ان فيلليني الذي كان يبحث دائماً عن البراءة، ادرك في عمقه ان البراءة الحقيقية غير ممكنة الا في الجنون، وان المهمة الحقيقية لهذا الفن هي البحث عن هذا الجنون العادي، وتحويله الى حالة استثنائية. شخصيات فيلليني هي في نهاية الامر تنويعات على حالة الجنون، في عالم كابوسي تحاصره الفوضى الجارفة. ولهذا ربما، وقف الكوكب كله تحية لرحيله، مدركاً انه فقد هنا احد ابرز اطباء هذا القرن المحتضر، لحظة افوله الوشيك.