كانت نظرة. مجرد نظرة لا ادعاء أو فوقية أو عظمة فيها مع أن الأخيرة تقليد في البلد الصغير الذي أتيت منه. رئيس الجمهورية فيه "فخامة" ورئيس الحكومة والبرلمان "دولة" بينما رئيس أميركا سيد وحسب. منذ صدور "الوسط" في أوائل 1992 تحايلت على الحد الأقصى للمسموح في مطبوعة عربية لكي احتفظ بالمبادئ الصحافية التي تعلمتها في صحيفة "النهار" البيروتية حيث بدأت. الجرأة، الموضوعية والنزاهة، وأيضاً الصراخ عندما تبلغ لاعقلانية عالمنا حداً يطعن في حدود الاحتمال الرقيقة والفهم. في كل ذلك لم اخترع أو اغيّر شيئاً، وربما كنت أقول مداورة انني حاولت ان أكون نفسي. هل يغيّر الكلام شيئاً؟ ربما كان الكلام الاجتماعي أكثر تأثيراً من ذلك الجدي الذي يتعلق بالأنظمة الاجتماعية لا الأفراد. من يريد التغيير بين الكتاب والصحافيين ثقيل أو متفاصح أو منافق مساير لذلك الميل السائد في حضارتنا الى التواطؤ الصامت، والمكشوف، على ابقاء المعايير المزدوجة وانفصام الشخصية الخالد. المسألة لا تتعلق بالقراء فقط بل أيضاً ببعض الزملاء. كتبت عشرات المرات عن وضع المرأة الغريب في بعض البلدان العربية ووجدت زميلاً يقول عن امرأة يعرفها كلانا: "فشت خلقها وتزوجت في الأربعين". وكتبت عن تسلل أفكار متسلطة الى الدين وهي ليست منه فهجم قراء لا يكتبون ليبدوا اعجاباً مثلاً بل غضباً فقط، وتحدث أحدهم عن عدوانيتي الفجة. قد تلفتنا رسائل القراء الى اننا بحاجة دائمة الى توضيح أفكارنا وتفصيلها مرة تلو مرة، لكن غضب خمسة أو عشرة منهم لا يجعلني اتخلى عن عدوانية احبها لأنها ضمانتي ضد التنازلات والتسويات والسخافات التي يرفضها العقل فور تناولها لأنها متهافتة من دون تمحيص أو حتى مجرد القاء نظرتين. أعيش في بريطانيا منذ أكثر من عشر سنوات واتنسم بامتنان وحسد مناخ حرياتها. علي أن أقول انني أتحدث عن حرية التعبير لأن مجرد تحدث امرأة عربية عن الحريات يفسر لدى كثيرين بالفلتان بصرف النظر عن المستوى الثقافي. يمكن بشكل عام القول اننا نستطيع قول كل شيء إذا اهتدينا الى الأسلوب الملائم والانسان هو الأسلوب، قال الفرنسيون لكن ذلك كذبة لا رجاء منها في العالم العربي. لا نستطيع قول كل شيء مهما راوغنا الأبجدية في حين يستطيع أتفه فنان وفنانة ان يغضبا منا ويقاطعانا لأن قاعدتهما أكبر بكثير من قاعدتنا. اما السياسيون فأصغرهم ظل الله على الأرض، والقانون لم يوضع لحماية الفرد بل لاستعمال السياسي واجتهاده في غياب رقابة الجماعة وقوتها الا على المرأة التي جعلت وحدها ممثلة لحضارتنا السائرة باطراد الى الوراء ومكسر عصا للرجولة المدعية الهزيلة والخائفة. ما أجمل ما يمكن أن يكتب في حضارة لا تقرأ؟ قال عرب ان أجمل الشعر أكذبه وربما تعدّى ذلك المسألة الفنية الى التقليد الاجتماعي المفضل. لا يمكنني وسط كل ذلك الضعف والتخلف، وعتمتهما، الا أن أحس بجمال الحقائق الموجعة بقلم كاتب وكاتبة غاضبين، صادقين وعدوانيين أيضاً، ولم لا؟ هل كثيرة علينا العدوانية تجاه الاصرار على الجهل واللاعقلانية والسباحة عكس التيار؟ الكلمات مهنتنا، لكنها لا تأتي بالضرورة من العدم وان تلقفها العدم غالباً. قد يعتقد الصحافي والكاتب انهما يعملان في الفراغ ولكنهما ما ان يخالفا الأمور الملائمة في أمور الدين والمرأة حتى يهجم الاشاوس لاعدامهما من دون محاكمة. تخجل أوروبا من محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وهي عندنا جاهزة وتحت الطلب في أول الألف الثالثة. مع ذهاب القسم الثقافي في "الوسط" الى بيروت أبقى في لندن و"الحياة" وادع الصديق الزميل بيار أبي صعب يرمي كلمته في بحر عربي. هذا لا يعني ان كلماتي تصب في بحر آخر.