رحل الجابري عن عالمنا، قبل أن يدخل جيلنا في حوار حقيقي معه، وقبل أن نفهم أفكاره ونحيط بعموم مشروعه الفكري. ولربما تكمن أهميته أولاً، في أن قراءته تقربنا أكثر من الفكر العربي في المشرق، هو الذي تناوله بالنقد والتحليل، وكشف في وضوح أوهامه ولا عقلانيته، خصوصاً في تناوله للخطابين النهضوي والقومي والخطاب الفلسفي أيضاً من جوانية ورحمانية وبرانية ووجودية. إن الجابري يحررنا من تلك الأوهام حين يمسك بلاعقلانية وتناقضات هذه الخطابات ويفضح غربتها عن الواقع، لكنه في رأيي لم يستطع أن يحررنا من كل الأوهام. بالنسبة إليه، فإن الفكر العربي على اختلاف مدارسه وتعدد مشاربه أغفل نقد العقل، ما جعله يعجز عن فهم الواقع، وهذا ما يفسر أيضاً سر «تضخم الأنا» الذي عرفه الخطاب العربي سواء في خطه «النهضوي» أو «الثوري»، وكلما تتضخم الأنا، تفقد قدرتها على رؤية الواقع، وعلى فهم الذات وعلى التعلم من الآخر. إننا أمام نوع من «الميتومانية»، نلتقيها في كل صفحة وعند كل شعار داخل الخطابين الإسلامي والقومي، كأن العرب مركز الثقافة البشرية، وما على الآخرين من أمم وثقافات سوى الإذعان لهم. نجح الجابري وإلى حد كبير في تعرية لاعقلانية خطاب النهضة، هذا الخطاب الذي ربط تقدم العرب بسقوط الغرب، كما لو أن الغرب لم يكن ذاك الذي أيقظهم من سباتهم الحضاري. لكن الجابري يخطئ في رأيي حين يساوي بين السلفي والليبرالي العربي، ويرى أن كلاهما يعتمد التقليد، تقليد السلف أو تقليد الغرب. فليست المشكلة في التقليد، بل في الجمود والاستسلام لما قاله السلف. إن تقليد الغرب، المتقدم تقنياً وعلمياً وحضارياً، لهو سياسة كل عقل براغماتي يريد اللحاق بزمن العالم ولنا في التجربتين الهندية والصينية خير مثال. إن التقليد أساس التطور الحضاري، في حين يتضمن رفض التقليد، رفضاً للآخر في نهاية المطاف وللتطور وانكفاء على الذات. إنني لا أعتقد بوجود استقلالية من دون قدرة على التقليد، أي من دون انفتاح مبدع وخلاق على الآخر، من دون رغبة في التعلم. إن المصطلحات التي يصادفها الجابري في كتابات النهضويين والقوميين والتي ينادي بإعادة تحليلها وتفكيكها، يجب أن لا تنسينا تفكيك بعض من مصطلحاته، ومنها فهمه السلبي للتقليد ورؤيته المتحفظة إلى الغرب. لهذا أعتقد أن أصدق دعوة إيديولوجية داخل الإطار الفكري العربي هي دعوة عبدالله العروي إلى الاستفادة من مكتسبات الليبرالية لمواجهة السلفية وهو ما لم يدركه الجابري إلا جزئياً، لأنه ظل مسكوناً بوهم «الاستقلال الذاتيّ»، الذي دفعه، على رغم انتقاده للتجربة الناصرية، إلى اعتبار أنها أحدثت تغييراً أساسياً وعميقاً في الساحة العربية، لكن رب سائل: أي تغيير هذا الذي لم يستمر ولو لبضع سنوات بعد وفاة صاحبه؟ كان خطاب «الثورة» - والأحرى أن نسميه خطاب الانقلابيين والعسكر - أقل ثورية وحرية وتنوعاً وحركية من خطاب النهضة، وليس كما اعتقد الجابري. كان خطاب الزعيم الملهم والفكر المطلق والقومية الصافية وكانت هزائمه نتيجة طبيعية ومنطقية لأوهامه. إن التغيير الذي أحدثته الناصرية يكمن خصوصاً في إلغاء أو قبر تطور الديموقراطية في مصر ومناطق أخرى من العالم العربي. ولعل النماذج الدموية التي استنسخت التجربة الناصرية في العالم العربي أكبر دليل على فداحة الايمان المرضي بالذات والتقوقع عليها وطلب الوحدة بدلاً من احترام الاختلاف. بل دعونا نصغي قليلاً للجابري، الذي كتب في «الخطاب العربي المعاصر» يؤكد مرة أخرى، على رغم نقده لمخاتلات هذا الخطاب أن اسرائيل أكبر خطر على الوجود القومي العربي من المحيط إلى الخليج. ألا يندرج هذا الرأي في إطار ما وصفه الجابري نفسه بالغربة عن الواقع، بالميتاواقعية واللاعقلانية؟ وهل اسرائيل هي التي تقف حجر عثرة مثلاً أمام الاتحاد المغاربي، أم هو النظام الجزائري الذي ما زال يفكر بعقلية الحرب الباردة؟ وهل يجادل أحد اليوم في أن العقبة الأساسية أمام تطور المجتمعات العربية هي أنظمتها الديكتاتورية وسياساتها اللاعقلانية وأحزابها المستقيلة وفكرها الظلامي وليس إسرائيل أو الغرب؟ إن انحصار الجابري في إطار قومي، كان له أكثر من نتيجة سلبية، أولاً: الإخفاق في معرفة أن الآخر ولنقل الغرب، جزء ومكون إيجابي لنظام الأنا. وأن التقليد المبدع للغرب سيجعلنا ننتقل من «الخطاب الإشكالي» و «الخطاب الماورائي» إلى خطاب إيجابي يرى أن طريق التقدم رهين بقدرتنا على التعلم من الأمم المتقدمة. ثانياً، على رغم نقد الجابري لتهافت الخطاب القومي، أغفل في تقديري خطورة أهداف هذا الخطاب. لم يعمد إلى تفكيك أهدافه، بل دافع عنها، وعلى رأس هذه الأهداف، مشروع الوحدة والاشتراكية وتحرير فلسطين، وكلها أهداف وشعارات رفعت لتكميم أفواه المطالبين بالحرية والعدالة والخبز ورفع نظام الطوارئ، وبلغة أخرى، إنها أهداف معادية للديموقراطية. لقد نجح الجابري في تفكيك سلطة النموذج - السلف كخطاب، لكنه ظل مع ذلك يدور في فلكه وهو ينادي بعقلنة من الداخل. إن «نقد العقل العربي» ليس ما أنجزناه فقط، بل ما يجب أن ننجزه باستمرار، لأننا أمام عقل لا تاريخي، يفكر اليوم بمنطق الأمس، وحتى إذا اتخذ النقد سلاحاً ومنهجاً، تجده يتوقف في نصف الطريق، غير قادر على المضي قدماً في معركته مع الظلام والوهم. ولعل هذا موضع الخلاف الكبير بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، التي لا تتوقف عن مراجعة أسسها الفكرية بل وعن مراجعة إنجازاتها الكبرى كالحداثة والعقلانية والديموقراطية والعلمانية الخ... ولم يضرها يوماً الإعتراف بأخطائها، لأنها تسلحت بالنقد والنقد الذاتي، حتى أضحى النقد عقيدتها وهو ما نعدمه جملة وتفصيلاً في ثقافتنا، التي تضم أناساً، سمحت لهم وقاحتهم بتكفير الجابري والاحتفاء بموته، لأنه اختار النقد وليس الوهم، ودافع عن حرية الفكر في مقابل تقديس النص، ولربما تكون وصيته إلينا جميعاً، نحن الذين نختلف معه في أشياء كثيرة، أشبه بما كتبه كانط، في آخر «نقد العقل المحض»: «وحده طريق النقد ما زال مفتوحاً».