هناك ظاهرة مزدهرة في مصر هذه الايام اسمها "الأصوات الكلثومية"، التي خرجت من عباءة أم كلثوم، أو تحاول تقليدها، أو تقديم أغنيات بالطريقة التي غنت بها كوكب الشرق. حتى في مراحلها الأولى، في الثلاثينات والاربعينات. ولعل ابرز ما نجده لدى هذه الأصوات هو ما يسميه الموسيقيون ب"العفء" و"الزفزفة" و"القفلات الحارة". وكلما أجادت المطربة في هذه الأشياء استحقت إعجاب الناس وتشجيعهم. كأن الجميع قرروا أن يعيشوا في الماضي وفي غناء الماضي! وشجع على هذا الاتجاه في المقام الاول النجاح المدوي لمسلسل "أم كلثوم"، الذي استعاد ذكريات تاريخ الغناء العربي، وجعل أكثر أغنيات ام كلثوم كلاسيكية مثل "رق الحبيب" تتصدر مبيعات الاشرطة في سوق الموسيقى بعد أن احتوت "تترات" المسلسل على جزء من افتتاحيتها الموسيقية مما أدى الى اقبال الشبان على شراء شرائط أم كلثوم. ربما كان الهدف من ذلك الاقتراب من مرحلة زمنية وغنائية لم يعشها هؤلاء الشبان، لكنها بلا شك أثرت في وجدانهم. فأم كلثوم التي رحلت قبل نحو 25 سنة، ما زال لها حضورها عبر الأغنيات التي تبثها الإذاعة التي تحمل اسمها وشرائطها غير الملونة التي ما فتئ التلفزيون يبثها. والمقاهي التي تخصصت في اذاعة شرائطها لرواد ما زالوا يعتبرون أن تاريخ الموسيقى توقف عندها! وسط هذه الأجواء وهذا الحنين إلى هذا النوع من الغناء الكلاسيكي التطريبي، برزت أصوات نسائية عدة، معظمها لشابات غير دارسات للموسيقى ولكن يتمتعن بموهبة الغناء بالاسلوب القديم نفسه، خصوصاً الطريقة التي كانت تُغنِّي بها أم كلثوم نفسها. بعض أولئك الشابات ساهم المسلسل نفسه في تقديمه مثل ريهام عبدالحكيم التي أدت مرحلة مبكرة من حياة أم كلثوم الفنية وهي المرحلة التي قدمت فيها كوكب الشرق الأدوار والتواشيح، اضافة إلى شيماء الشايب وزينب مصطفى، وكل منهما مثلت مرحلة من حياة أم كلثوم. غير ان الأكثر بروزاً هي آمال ماهر التي لم تظهر في المسلسل، لكنها غنت بصوتها وتم تقديمها بعد ذلك وسط اهتمام إعلامي كبير، إذ ان وزير الإعلام صفوت الشريف قدمها على الهواء لتغني في عيد الإعلاميين أمام الرئيس حسني مبارك الذي استمع إليها تؤدي بعض أغنيات أم كلثوم وأمر برعايتها فنياً وثقافياً مبدياً إعجابه بها. ولهذا تغني آمال ماهر في الحفلات الرسمية للدولة. هناك الآن أيضاً أصوات لمطربات كثيرات، بعضهن اعتبر تقليد أم كلثوم جواز المرور عند الجمهور، منهن غادة رجب التي حققت بعض الانتشار من خلال الأغاني الخاصة لكنها لا تلبث أن تعود إلى الخط الكلثومي لتأكيد قدراتها وتثبيت خطواتها. وهناك مطربات خرجن من فرق التراث مثل "فرقة الموسيقى العربية" أو "فرقة أم كلثوم" مثل مها البدري وريم كمال ورحاب مطاوع، وهن مطربات يتمتعن ببعض الشهرة لدى الجمهور المصري والعربي الذي يعجب بأدائهن في هذا الاطار الكلثومي، ولكنه يجد صعوبة في تقبل أصواتهن خارج هذا الإطار! من هنا فإن هذه الاصوات تواجه مأزقاً غريباً، يكمن في صعوبة الخروج من منطقة ذلك الأداء الآسر والساحر الذي ميز صوت أم كلثوم، أو التخلص من النفوذ الكلثومي بما له من سحر وجاذبية لدى المطرب والجمهور على حد سواء. فهناك أصوات عجزت بالفعل عن إقناع الجمهور بطابعها أو شخصيتها في الأداء بعد أن اعجب بها الجمهور في أدائها الكلثومي المباشر، إذ ان محاولة الخروج على الأداء قفزت بها إلى الخروج نهائيا من الساحة ومن هذه الاصوات زينب يونس وإجلال المنيلاوي وسوزان عطية. ان الوقوع في الشرك "الكلثومي" سهل، لكن الفكاك منه صعب للغاية. ويؤكد الخبير الموسيقي ميشيل المصري أن بعض الأصوات سيظل أسير هذا الأداء ولن يستطيع التحرر من النفوذ الكلثومي. غير أن الموسيقار عمار الشريعي يطالب بعدم الاستعجال في مطالبة هذه الاصوات بأن يكون لها طريقها ومذاقها لأن ذلك سيكون صعباً جداً، ويتطلب تضافر جهود عدد من المؤلفين والملحنين والموزعين والمسؤولين عن الدعاية! في المقابل تقول آمال ماهر انها تصر على ان يكون لها لونها المميز وأداؤها الخاص، وترى أن ذلك سيحتاج إلى مجهود ضخم وأنها لا تنوي أن تخوض هذه المعركة في الوقت الحالي لأن ذلك "لا بد أن يأتي تدريجياً ووفق تخطيط من قبل القائمين والملحنين" الذين يستطيعون صياغة الاغاني المناسبة لصوتها، ولهذا السبب فإن عمار الشريعي الذي قام بتلحين أول أغنية لها تعمَّد ان يكون اللحن من المدرسة السنباطية نسبة الى رياض السنباطي حتى لا يخرجها فجأة من السياق الذي تعوده من يستمعون اليها. وقالت آمال ماهر انها عندما تقدم أم كلثوم فهي ربما تكون متأثرة بأسلوب الأداء، ولكنها تحاول جاهدة ألا "تستنسخ" أم كلثوم، على حد قولها، وإنما تقدمها بطريقتها. غير أنها تعترف بأن هناك اشياء تجد صعوبة في التخلص منها مثل الزخرفة وميلها إلى التطريب الذي جعل بعضهم يعتقد بأنها تقوم بالتقليد الأعمى لأم كلثوم! أما ريهام عبدالحكيم التي بدأت تحظى أيضاً ببعض الإعجاب الذي بدأ مع مسلسل أم كلثوم حينما مثلت مرحلة من أصعب مراحل "الست" الفنية في المسلسل وهي المرحلة التي تعرضت فيها لصدمات حياتية ومواقف تراجيدية وقدمت فيها أصعب الأدوار والتواشيح وأدتها ريهام بإقتدار ملفت، فتقول انها ليست دارسة للموسيقى وإنما تدرس الآداب الانكليزية لكنها كانت مغرمة بالغناء منذ صغرها، مما جعلها تنضم إلى فريق الكورال في الاوبرا المصرية الذي يشرف عليه المايسترو سليم سحاب، ثم انضمت إلى الفرقة القومية التي يقودها سحاب ايضاً. وقدمت من خلال الفرقة اغنيات غالبيتها لأم كلثوم ولنجاة وفايزة احمد. وتعتبر ريهام أن تلك هي المدرسة الحقيقية التي علمتها الغناء. وتقول انها قدمت أوبريتات للتلفزيون المصري وشاركت في مهرجانات دولية وحصلت على جوائز عدة، آخرها الجائزة الأولى في مهرجان الاذاعات العربية الذي اقيم أخيراً في القاهرة، عن أغنية "مش عايزة امشي" التي ألفها الشاعر جمال بخيت وهي من تلحين الموسيقار محمد علي سليمان. وترى ريهام عبدالحكيم أن مسألة الخروج عن السياق "الكلثومي" ممكنة وإن اتسمت بصعوبة من نوع ما، لأنها لا تغني لأم كلثوم فقط ولكن تقدم أغنيات لمطربين آخرين مثل عبدالوهاب ومحمد فوزي ونجاة وفايزة أحمد من خلال الفرقة القومية. وتؤكد أن الساحة، وان كانت عامرة بالأصوات الجيدة التي يمكن تدريبها وصقلها، الا أن الأمر يحتاج إلى اقتناع من المنتجين "الذين يساهمون بدورهم في حبس هذه الاصوات في الاطار الكلثومي لأنهم يطلبون من هذه الاصوات تعبئة شرائط عليها نفس الألحان القديمة لأم كلثوم بأصوات جديدة، وبالطبع فإن الأصل ليس مثل التقليد!". وسارت رحاب مطاوع تقريباً في طريق ريهام عبدالحكيم غير أنها درست الموسيقى وهي أيضاً "سوليست" في فرقة أم كلثوم للتراث وتدربت على يد كثيرين من بينهم الموسيقار عمار الشريعي. مشكلة رحاب مطاوع أنها موجودة في سوق الغناء والطرب منذ نحو اربع سنوات، ولكن من دون أمل في تقديم اغنيات خاصة بها يتم انتاجها في شريط او ألبوم "لأنه لا يوجد ذلك المنتج الذي يريد أن يغامر بتقديم صوت جديد". المنتج الراهن "يفضل اللعب على الاحصنة القديمة والأصوات المستهلكة التي ربما لا تمتلك المهارات نفسها أو الموهبة نفسها ولكن اصبح لها وجود في السوق نتيجة الرعاية والأعمال التي تعتمد على الموسيقى الراقصة من دون مضمون جيد. وبالتالي فعلى الأصوات الجديدة أن تبحث عن فرصة عمل". وهذه الفرصة لن تجدها إلا في عقود احتكار تقدمها لها بعض المحطات الفضائية لتقديم أعمال المطربين القدامى على رأسهم طبعاً أم كلثوم. ولكن هذه المحطات لن تقدم على إنتاج شرائط أو ألبومات لهؤلاء المطربين او المطربات! وقالت رحاب مطاوع إنها قادرة على تقديم ألوان غنائية خاصة بها لأنها لم تحبس نفسها في أم كلثوم، بل قدمت أعمال محمد فوزي وعبدالوهاب بطريقتها الخاصة. أما مي فاروق، التي تدرس في كلية التجارة، فهي تغني منذ نعومة أظافرها بعدما انضمت الى كورال أطفال الاوبرا وأصبحت "سوليست" في الفرقة القومية وقدمت أغنيات لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وعبدالوهاب، وفازت بجوائز من المركز الأعلى للثقافة وهيئة قصور الثقافة ومهرجان الاذاعة والتلفزيون، ولها اغنيات خاصة ولكنها ليست منتشرة لأنها لا يضمها شريط واحد حتى الآن. وهي سجلت اخيراً أغنيات لمسلسلات تلفزيونية منها مسلسل "ذي النون" الذي أعد ألحانه عمار الشريعي ولكن يظل مع ذلك أكثر ما يطربها ويطرب مستمعيها أداؤها لأغنية "حيرت قلبي" لأم كلثوم! تقول مي فاروق: "قدمت في بداية مشواري الفني أغنيات لأم كلثوم وغيرها حتى ألفت الانظار". خصوصاً أن هذه الاغنيات هي المدارس التي تدرب فيها صوتها لكونها لم تدرس الموسيقى، غير أنها تؤكد قدرتها على أداء خاص بها خارج التأثير "الكلثومي". وتضيف: "ابحث حالياً عن طريقة في الغناء ويساعدني على ذلك بعض الملحنين مثل عمار الشريعي الذي تحمس لي كثيراً". وترى مي أن أهم المواصفات الفنية تتمثل في أن تغني "بأسلوب يجمع بين رصانة القديم وايقاع الحديث" وأن تكون أغنياتها "معبرة عن مشكلات جيلها. وترى أنها تقتفي أثر زميلتها المطربة أنغام التي سبقتها في الشهرة. في مقابل هذا كله هناك مطربة سبقت الجميع في تقديم أغنيات أم كلثوم ولا تزال تقدمها، على رغم أنها أضحت تملك أغنياتها وشرائطها الخاصة، وحققت قدراً لا بأس به من الانتشار، ودرست الموسيقى على يد اساتذة كبار منهم والدها الموسيقار محمد علي سليمان شقيق المطرب الراحل عماد عبدالحليم. انها المطربة غادة رجب التي تعتبر نفسها تلميذة في مدرسة أم كلثوم التطريبية وكل مدارس الطرب الشرقي الاصيل، لكنها تحاول أن تكون "عصرية في تقديم أغنيات بالرصانة ذاتها" ولكن ليس بالأسلوب القديم كما يتصور كثيرون. هناك أيضاً مها البدري التي تحاول الخروج من عباءة أم كلثوم عن طريق تقديم أغنيات خاصة، وشاركت في كثير من الحفلات التلفزيونية. وهي ايضاً من المطربات اللواتي تبنتهن الإذاعة المصرية. وحققت قدراً من الذيوع والانتشار. غير أنها في رأي عدد من الخبراء لم تستطع حتى الآن الخروج عن القالب "الكلثومي". وهذا الكلام ينطبق على مطربة فرقة الموسيقى العربية ريهام كمال التي تشارك في حفلات غنائية عدة لتقديم اغنيات خاصة بها، لكن الجمهور لا ينسجم معها إلا عندما تقدم "سيرة الحب" و"ألف ليلة وليلة" لأم كلثوم! يرى خبير الموسيقى ميشيل المصري، العضو في لجنة الاستماع في الإذاعة، وهي اللجنة المنوط بها فرز الأصوات الجيدة، أن مشكلة هذه الاصوات تنطوي على أبعاد عدة، منها أن هذه الأصوات "كلثومية" بطبعها، وهي لذلك غير قادرة على الخروج عن الأداء "الكلثومي"، وأنه "ليس من العيب أن تكون هناك أصوات كلثومية لكن العيب انه يكون مصير هذه الأصوات الدوران في فلك أداء أم كلثوم الى الابد". وقال المصري: "قلّة من هذه الأصوات ستنجو من هذا الشرك أو المصيدة ولكن بعد جهد، مع ملاحظة أن الصوت لا يمثل إلا نسبة معينة في المئة من شخصية المطرب وقدراته، اذ ان هناك اضافات مهمة مثل حضوره وشخصيته وقدرته على الاختيار السليم للألحان التي يقدمها". وقال الموسيقار محمد علي سليمان إن الساحة تعج بأصوات جيدة ولكن هناك غياب تام لأي مهارة من جانب القائمين على تقديم هذه الاصوات في خلق شخصية متفردة للمطرب أو ما يعرف في الغرب بصناعة النجم. ورأى أن هناك أصواتاً كثيرة "تستطيع أن تتمرد على الأداء "الكلثومي" لو أحسنت اختيار المؤلف والملحن وقدمت ألحاناً تناسب امكاناتها الصوتية والنفسية والمزاجية شرط أن يكون ذلك في إطار من الصدق والإلحاح على المستمع الذي تعرض لفترة طويلة لموجة من الألحان الهابطة". أما الشاعر جمال بخيت الذي يحتضن المواهب الواعدة وفي مقدمها ريهام عبدالحكيم التي قدمت من نظمه أغنية "مش عايزة أمشي" في المهرجان الأخير للإذاعات العربية وفازت بالمركز الأول، فيرى أن تقليد هذه الأصوات لأم كلثوم ضروري في البداية لإثبات قدراتها، ولكن لا يجب أن تتجاوز المسألة هذه الحدود. مؤكداً انه حاول"تقديم الشكل المناسب الذي يمكن أن يتقبله الجمهور بالنسبة لأداء ريهام التي تعودت الأداء "الكلثومي" فلحنت لها الأغنية في قالب كلاسيكي يحتوي على الآهات والليالي، ولكن في صياغة حديثة. وجاء اللحن البسيط من حيث الجمل الموسيقية والتطريبية ليكمل شكل الاغنية الملائمة لصوت ريهام ولغيرها من عينة المطربات اللواتي يتميزن بأداء هذه القوالب الرصينة في الغناء. وهذه القوالب مطلوبة ولا بد من وجودها مع الأعمال الحديثة التي تعتمد على الموسيقى الحديثة الراقصة ولكن لابد من تخليصها من الزخرفات واللوازم والمقدمات الموسيقية الطويلة التي ميزت الأعمال الكلاسيكية القديمة". سألنا الموسيقار عمار الشريعي عن السبل التي يراها ليتخلص أداء المطربة التي يتحمس لها ويشارك في إعدادها وتدريبها وهي آمال ماهر من الأداء "الكلثومي" فأجاب: "في الحقيقة لست أدري. ولكن أنا لا أؤيد الاستعجال في ذلك، اذ يجب أن نشارك في هذه المهمة أطراف متعددة من ملحنين ومؤلفين وموزعين، ليست المسألة وقفاً على عمار الشريعي بل يجب ألا تكون تلك مهمة الخبراء في مصر وحدها، ولكن في جميع الدول العربية باعتبار أن أي صوت جديد وجيد هو اضافة عربية، كما ان هذه الاصوات ومنها طبعاً صوت آمال استفادت جداً من الأداء الكلثومي إذ ترعرعت في هذه المدرسة الكبيرة الرصينة، والمفروض أن هذه الاصوات لن تكبر ولن تكون لها شخصية بين يوم وليلة". وأضاف "ان هذه المواهب لا بد أن تأخذ وقتها وفرصتها كاملة قبل أن نطالبها بأن يكون لها اسلوبها أو شخصيتها الخاصة". وقال حمدي الكنيسي رئيس الإذاعة المصرية التي تتبنى كثيراً من الاصوات، ومنها آمال ماهر وريم كمال ومها البدري"ان الاذاعة تتبنى هذه الاصوات على أساس أن يكون لها خطها المستقل في المستقبل، ونربحها على أساس أن لكل صوت شخصيته ومذاقه واسلوبه في الاداء. وهذا التبني لا يكون عن طريق صقل هذه الموهبة بالدراسة فقط مثل حال آمال ماهر ولكن في محاولة إعداد الحان تناسب امكاناتها الصوتية عن طريق التعاقد مع كبار المؤلفين والملحنين وعن طريق مشاركتها في الحفلات الغنائية لاكتساب الخبرة في التعامل مع الجمهور".