«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مات الصراع عاش الصراع . من القاهرة إلى عمان : معاهدات سلام ... من دون سلام !
نشر في الحياة يوم 10 - 01 - 2000

خلال السنة 2000 سيستكمل مسلسل "اتفاقات السلام". وقبل ان ينتهي، لا يبدو العرب موهومين بأن ما يشهدون هو السلام...
المشهد من القاهرة وعمان، العاصمتين المعترفتين رسمياً بالتطبيع، المتعاملتين معه بأشكال متفاوتة، يؤكد ان أحداً لم ينخدع بأن ما هو آتٍ يمكن ان يكون السلام. هنا وهناك، بين الرواية الرسمية والفهم العام لما يحدث فجوة كلما قاربتها تبدو مفزعة أكثر فأكثر.
تختلف الهموم والمخاوف بين القاهرة وعمان. تختلف النظرة الى المستقبل، نظراً الى طبيعة كل من البلدين. لكن التوقعات تتقاطع، والتوجسات تتداخل، كذلك الآمال واليقين، بعيداً عن التمنيات التي لم يعد أحد يجرؤ على الجهر بها بخبرة من لا يريد ان يلوك مشاعر مكررة.
كثير من الاحباط، قليل من التفاؤل. الوضع العربي لا يشجع، انه في نفق مظلم ولا ملامح لضوء في النهاية. ثمة إدراك بأن العرب يلقون القرن العشرين وراءهم كأنه "خردة" لا فائدة منها، ويتوجهون في القرن الجديد الى بدايات صعبة. كتابات كثيرة تستذكر الحقبة الصليبية كأنما اللاوعي يستسقطها على واقع فيه كم هائل من التشابه، خصوصاً في سنوات الانكسار المديدة لشعوب منهوبة ومعتقدات منتهكة ومقدسات مداسة ودويلات ممعنة في التشرذم.
الحساسية بالغة في القاهرة، الى حد انها تكاد تنعكس على المزاج العام. عدا مناوشات المطبّعين واعداء التطبيع واصطفافاتهم، عدا حقائق "السحابة السوداء" وخرافاتها، لم تمر تداعيات سقوط طائرة "مصر للطيران" من دون تلاسن بين الصحافة وسفير اميركي لا يحسن دائماً لجم وقاحاته. لكن الحساسية بالغة أقصاها في تحليل ما بعد "اتفاقات السلام"، دور مصر، موقعها في المنطقة، مستقبل علاقتها باسرائيل الخارجة من حروبها مع العرب بترسانة نووية وتفوق عسكري ونهم الى الهيمنة عبر تقسيم جديد للمنطقة.
"الشهور المقبلة شهور حاسمة" في رأي مسؤول مصري، اذ ستتضح فيها "الدولة الفلسطينية" وابعاد التسوية مع سورية. المشكلة مع اسرائيل، كما يقول، ان ليست لديها "نقطة اكتفاء" و"لا حدود لسياساتها". يسأل ويجيب: هل تلقي الشفافية على سلاحها النووي بعد السلام الشامل؟ تقول لك: لا، هناك ايران، هناك باكستان... المسألة تؤرقنا جداً" ما المطلوب منها؟ "ان تتوقف عن وراثة حضارة المنطقة بدءاً من الاهرام وأبو الهول وانتهاء بالفول والطعمية. يريدون التهام المنطقة حضارة وتاريخاً وتراثاً، يريدون تزييف التاريخ وتغيير الواقع والتهام المستقبل". وهل يقدرون على كل هذا؟ "وهل هم وحدهم، هل حاربناهم وحدهم؟".
ما بعد "اتفاقات السلام" يشغل مصر ويشعرها بأنها مدعوة الى دور لا يستطيع غيرها ان يقوم به. هل تستطيع؟ في أي حال، ليس لديها خيار آخر. إنه قدرها، وهي تجد نفسها أمام مهمات عديدة: تصحيح "السلام" المجحف، مواجهة الهيمنة الاسرائلية، بناء نمط جديد من "النظام العربي"، السعي الى تحقيق دعوتها الى منطقة شرق أوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل. ويبدو سلامها البارد حداً أقصى لما يمكن ان تذهب اليه لتفي بالتزاماتها حيال اسرائيل، ولتبقى نقطة يلتقي عندها المجتمع مع الدولة. وهو هذا الحد الأقصى ما يسهر على فرض "هدنة" بين المطبّعين وغير المطبّعين، فهناك سقف لا يتخطاه أحد وهو ان التطبيع ممنوع ان يكون موضوع فتنة، ولا أحد، بما في ذلك الشركات المتعاملة استيراداً أو تصديراً مع اسرائيل، يعمل إلا بعلم السلطة. مع ذلك يطرح السؤال: هل من "لوبي اسرائيلي" في مصر؟ الاجابات فيها نفي وتأكيد. المطبّعون ينطلقون من نقد لطرق مقاربة اسرائيل بلداً وشعباً ويريدون بناء تفكير جديد يستفيد من حوارهم مع الإسرائيليين ويستسهلون التبشير بأن اسرائيل ليست بعظمة ذلك "الوهم" الذي بنته المخيلة العامة عنها. أما أعداء التطبيع فينطلقون من ان القضية مع اسرائيل لم تنته، وبالتالي فلا علاقة طبيعية معها ما لم يتوافر اقتناع عام بأن عدالة وتوازناً قد تحققا نتيجة "السلام" الذي يطبخ على نار اتفاقات مثيرة للجدل.
"وضع نهائي"... غير نهائي
الصدمة عميقة في عمان. صدمة حرب لا تزال آثارها ماثلة، لأن آثارها بشر موجودون هنا. وصدمة سلام فيه من خيبات الأمل أكثر مما من الأمل. الجميع أمام استحقاق يملأ أذهانهم وأحاديثهم، أمام "مجهول" يعرفون أجزاء كثيرة من ملامحه، ومع ذلك كأنهم أمام صفحة بيضاء لا تشي حتى الآن بما قد يكون المستقبل. لم يشعروا من "السلام" الا بدنو اللحظة الصعبة. لحظة تحديد العلاقة بين الأردني والفلسطيني، بين دولة أردنية قائمة ودولة فلسطينية ستكون، ومن يدير هذه العلاقة ويبني قواعدها وحدودها. هاجس الهيمنة هنا كبير وملموس، كذلك هاجس الاختراق والتغلغل.
تكون كونفيديرالية أو لا تكون، تلك هي المسألة. لكلٍ فهمه لها، لكن يصعب القول انها مآل مرغوب فيه. ليست خياراً، ولا أحد يقبلها كقدر. واذا كان لا بد منها فكل شيء فيها يتوقف على أي "دولة فلسطينية" تخرج من مخاض "وضع نهائي" لا يستطيع أحد ان يتصور انه "نهائي". ستبقى حقوق كثيرة للفلسطينيين في ذمة "السلام" الذي سينشأ. سيكون ظل هذه الحقوق ثقيلاً على مستقبل "الكونفيديرالية" وحياة الشعبين العائشين فيها، وستحول دون شيوع مناخ مصالحة مع "العدو". لكن "الكونفيديرالية"، ولأن اسرائيل وحدها من يريدها، قد تكون بوابة لفرز علاقات جديدة في المنطقة، ربما في "كونفيديرالية" أوسع.
هنا أيضاً تعاش معركة أكثر صعوبة مع... التطبيع. ليس بمنطق "وفاق" بين الدولة والمجتمع في موقفهما من التطبيع. فالمجتمع يرفضه ولا يعتبره من مهماته، لأنه لا يزال ينتظر استقرار تقلبات "عملية السلام"، لا يزال يتوقع من اسرائيل مبادرات لا تبدو مقبلة عليها. ما حصل لأفراد قيادة "حماس" في الأردن كان يمكن ان يتحول مواجهة تفاداها المجتمع من دون ان يعني ذلك ان القضية مضت من دون أثر. في المقابل ثمة ما يعطي مؤشرات أخطر نجدها في ما يمكن ان يسمى "حرب الوحدات والفيصلي"، على اسم الناديين الرياضيين، إذ أنها خرجت عن نطاق الملاعب، وتجاوزت الهتافات الاستفزازية المسيّسة، لتصبح مكامن واعتداءات متبادلة. لا أحد يريد ان يعطي هذه "الحرب" حجماً أكبر من صبيانيتها، لكن تصرفات أبطالها المنتمين الى جيل ما بعد 1967 تنم عن مخزون مشاعر غير رياضية.
مرحلة استفهامات
هذا هو المشهد الذي ينتظر سورية الآتية الى "سلام" بات مستهلكاً أكثر مما يمكن تصوره. فهل تنعشه سورية، هل تصححه، هل يمكنها ذلك، أم ان الأمر يتعلق فقط، بإنهاء هذه المرحلة من الصراع؟
إذاً، فالصراع مستمر؟ يبدو التساؤل مستهجناً، فهو بالتأكيد سيستمر. نتذكر ان الاستراتيجية الاميركية - الاسرائىلية ل "عملية السلام" تريد "إنهاء الصراع"، فهل ان توقعات استمراره تنذر ب "فشل" تلك الاستراتيجية؟!
كيف سيستمر الصراع، هل يكون مواجهة مع "الهيمنة" المرتقبة لاسرائيل، مع سعيها الى اختراق العالم العربي لبناء مرتكزات لها في اقتصاداته مع تفوقها العسكري، مع محاولاتها للتغلغل في السياسات التعليمية بذريعة نزع العداء للسامية منها؟ واستطراداً هل يشكل ما سيتحقق من "السلام" مخاوف للعرب، انظمة وحكومات ومجتمعات، وهل ان المجتمعات ستسكن وتسكت وتستسلم مخافة بطش الأنظمة "الموقعة" على الاتفاقات؟... انها مرحلة الاستفهامات اللامنتهية في العالم العربي. طرحناها في القاهرة وعمان على عينة من المعنيين المطلعين، المخضرمين بين الحرب والسلام...
"العرب ومواجهة اسرائيل: احتمالات المستقبل" كان عنوان ندوة لمركز دراسات الوحدة العربية عقدت في آذار مارس 1999 في بيروت. كانت محاولة أولى لفهم نهاية مرحلة من الصراع، ولتحديد نتائجها وانعكاساتها، كذلك لتقويم كيفيات استمرار الصراع. يفهم منها عموماً: ان ما شهدنا حتى الآن هو خسارة العرب في الصراع العسكري - السياسي على "الحدود" والأرض خصوصاً في فلسطين، وان الصراع سيتخذ بقوة مستقبلاً طابع "الصراع الحضاري" بما يعنيه من هوية واستقلال وسيادة، وان "المقاومة" ستعود بأشكال مختلفة.
يدخل الكثير مما يقوله محدثونا في اطار هذه المفاهيم. وقبل كل شيء هناك اقتناع بأن ما يحصل هو "تسوية" وليس "سلاماً"، لكنها "تسوية مجهضة" في نظر محمد سيد أحمد في القاهرة لأن "السلام المفروض سلام مرفوض" ولأن هذه "عملية سلام مطلوبة اميركياً واسرائيلياً لأغراض اخرى بينها إنهاء الصراع شكلاً وترجمة الانتصار العسكري الاسرائيلي سيطرة على المنطقة". ويقرّ ابراهيم عزالدين في عمّان بأنه "ستكون هناك معاهدات سلام ولكن لن يكون هناك سلام حقيقي، لأن السلام الحقيقي مرتبط بحقوق الفلسطينيين، وهذه ستختصر بدولة فلسطينية على جزء بسيط من أرض فلسطين بسيادة مشروطة، وطالما ان الشعب الفلسطيني هو أساس الصراع فإن قضية فلسطين ستبقى بلا حل".
تكمن الاشكالية الراهنة في ما يقبله الفلسطينيون من شروط مجحفة، لكنهم يقبلونها، هنا يقول الدكتور محمد سليم العوا: "قبول الفلسطينيين لا قيمة له. هم جزء من القضية وليسوا كل القضية، بل انها ليست قضية فلسطينيين، ولو كانت كذلك لتصرفت القيادات العربية، خصوصاً قياداتنا في مصر، بشكل مختلف. هذه قضية العرب لأنها قضية حدودنا الآمنة، والحدود الآمنة معناها ان لا يكون مجالنا الحيوي ملوثاً بوجود نووي صهيوني، ولا بوجود اسلحة قادرة على تدميرنا، ولا بعدو يهددنا كل لحظة، اذا غيرنا وزارة مش عاجبو، اذا عملنا سد على النيل مش عاجبو، اذا غيرنا مكان ترعة مش عاجبو، اذا أنشأنا ميناء جديداً في دمياط مش عاجبو... لا يمكن العيش بهذه الطريقة"... وينبه جميل مطر الى انه "إذا قبل أبو عمار بأي شيء الآن فإنه سيفرضه على العرب... لا تستطيع بعدئذ ان تطالب بشيء غير موجود في اتفاقية الدولة. مضمون الدولة وشكلها سيحددان الى حد كبير هوية الصراع المقبل. إذا كانت الدولة وشعبها تحت سيطرة اسرائيل فأي سلام سيبقى؟!".
إختراق العالم العربي
لا أوهام عند رئيس الوزراء الاردني السابق طاهر المصري "فالتسوية لن تعني مصالحة أو سلاماً، لأن بذور الصراع ستبقى في الأرض على رغم اتفاقات السلام، وما يجري الآن محاولة لدفن بذور الصراع أعمق ما يمكن في الأرض لئلا تطلع بعد سنوات واذا هي على وجه الأرض في مواجهة الجميع". وفي رأيه ان اسرائيل ذاهبة الى اختراق العالم العربي لأنها "طرف واحد ومنظم ويعرف ما يريده وعنده الدوافع والمبادرات، فيما نحن اصبحنا مجتمعات محبطة ومنهارة تلهث وراء رزقها"، ولتحقيق اختراقها "ستظل اسرائيل تتولى أمر عدم وجود ديموقراطية حقيقية في العالم العربي، وستعمل على تعزيز نظام الملّة ليترجم ب"القطرية" التي شرذمت العالم العربي دولاً بينها مناكفات ومنافسات، حتى ان القطر بدأ يتحول الى "أمة" في حد ذاته، وستعمل اسرائيل كذلك على استكمال تطويق العالم العربي من تركيا الى جنوب السودان واثيوبيا واريتريا".
لكن الدكتور عبدالمنعم سعيد يرى ان الموقف الجديد الذي سينشأ عن حصول سلام "ستكون فيه اسرائىل مثلها مثل الدول غير العربية في المنطقة، والتركيز على ان العلاقة في الشرق الأوسط هي علاقة العرب بإسرائيل وحدها ليس صحيحاً في عالم السياسة الواقعية، هناك ايران وتركيا واثيوبيا، اسرائيل ستكون حالة من هذه الحالات". وإذ يشير الى ان "الذاكرة التاريخية" ستجعل التعاون مع اسرائيل مختلطاً بالتنافس والصراع، فإنه يلفت ايضاً الى المنافسة مع تركيا التي "لها دور الاقليمي، واقتصادها أكبر كثيراً من اقتصاد اسرائيل، ولديها طاقة انتاجية كبيرة، في حين ان اسرائيل بلغت درجة التشبّع ولا يستطيع مجتمعها أن يفعل أكثر مما فعل اقتصادياً". اما التسوية فأساسها عنده "الانسحاب الاسرائيلي الى حدود ال67 كحدٍ أدنى".
هذا يلتقي مع عرض الدكتور مصطفى خليل لتجربته في التفاوض على اتفاقات كامب ديفيد، اذ يؤكد ان "أهم شيء كان يشغلني هو الأرض، اعتبرناها أولى الأولويات، اذا تنازلت عن شيء فلن تسترده في المستقبل، وتتلازم طبعاً مع الأرض السيادة عليها كاملة، كل ما عدا ذلك يأتي في المنزلة الثانية"، ملاحظاً ان الموقف تغير في الاتفاقات العربية لكن "ليس من شأني ان أتدخل في هذه الاتفاقات، فمشاكل مصر تختلف عن مشاكل الآخرين"، معتبراً ان "التفاوض كمجموعة غير ممكن عملياً". ويخلص الى ما يعتبره سمة الاتفاقات المصرية "انها لم تلق علينا أي التزام من أي نوع، فهي اتفاقات كما بين أي دولتين، حتى النقطة المتعلقة بالخلافات بين الدولتين حاول الرئيس كارتر حلّها بجعل الولايات المتحدة حكماً بينهما، لكني قلت له ان علاقة مصر واميركا يجب ألا يكون الترمومتر فيها علاقة مصر باسرائيل لأن احتمال حصول خلافات وارد".
لا يعترفون بأخطائهم
أما تجربة الدكتور مصطفى حمارنة، ليس كمفاوض أردني، وانما كمحاور، فأثبتت له "ان الاسرائيليين ممتلئون بفكرة انهم انتصروا ولم يبق عليهم سوى ان ينتزعوا ما يستطيعون انتزاعه"، يقول: "كنا نعتقد ان اسرائيل تريد ان تغزو المنطقة العربية بالبضائع لنكتشف ان هذا ليس تفكيرهم، وفي جلسة مع رجال أعمال اسرائيليين وجدت انهم لا يهتمون بذلك، أحدهم قال: بعنا العرب ما نريد بيعه لهم. بمعنى أنهم أرادوا العلاقة الاقتصادية والسياسية معنا لهدف استراتيجي هو ان نمنع قيام حرب جديدة، يريدون ربطنا باتفاقات لمنع نشوب حرب". لكن خيبة الأمل من "عملية السلام" تتمثل في رأيه في ان الاسرائيليين اثبتوا انهم غير جاهزين للاعتراف بما ارتكبوه من اخطاء وجرائم تاريخية في حق الفلسطينيين "لذلك سيستمر الصراع الى ان يقرر الاسرائيليون ان يكونوا جزءاً من المنطقة، ولن يكون ذلك إلا بالاعتراف المسبق باخطائهم وجرائمهم، هذه خطوة أولى نحو تطبيع حقيقي، في نهاية القرن العشرين ضيّعت اسرائيل فرصة تاريخية".
يكمل الدكتور لبيب قمحاوي، في عمان أيضاً، بأن ما فشلت حال العداء العسكري بين العرب واسرائيل في اثباته بدأت تثبته حال السلام "وهو ان القضية تجاوزت احتلال أرض عربية الى تأكيد ان وجود اسرائيل نفسه يشكل خطراً على المصلحة القطرية للدول العربية الأساسية"، لأن هناك تعارض مصالح فسينتج عنه، في رأيه، استمرار للصراع في منحيين: "الأول، ابتعاد في السنوات المقبلة عن الأسلوب العسكري الى تنافس اقتصاد وتقنيات. والثاني، تحول الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الى صراع داخلي في أرض فلسطين التاريخية بين شعب فلسطين وكيان صهيوني تجسده دولة اسرائيل، وسيكون صراعاً مركزاً على اصلاح البنية السياسية للدولة الاسرائيلية، وعلى توزيع اكثر عدالة للأرض ولمصادر الثروة فيها".
ويلاحظ الدكتور وحيد عبدالمجيد ان التسوية الحالية شبيهة بتسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى لا بتسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي انها "لا تحل المشاكل ولا تصنع سلاماً" ولأنها تسوية محدودة تقوم على غالب ومغلوب، فهذا يعني "استبعاد المصالحة التاريخية"، والمغلوب "لا بد ان يجد فرصة يستثمرها لتحصيل حقوقه"، علماً "ان التسويات الظالمة غالباً ما تكون مراجعتها صعبة ما لم يحدث تغيير جوهري في الأوضاع العربية". اذاً، فعلى مدى زمني طويل "لن يكون سلام حقيقي، ولن يعاد النظر في التسويات، اي اننا سنكون في وضع ليس فيه يقين، وسيتوقف الأمر على طول النفس العربي وطبيعة الاجيال الآتية، وفي التاريخ قليل من السوابق لكيفية تحول تسويات ظالمة الى وضع طبيعي".
المقاومة؟ كيف؟
الحد الأدنى المطلوب والمتوقع، عند العوا، هو المقاومة "وأنا أدعو الناس الى موقف أبعد من الحد الأدنى، مواقفنا العربية تراجعت منذ 1948 الى دخول عرفات غزة رافعاً راية السلام وملقياً سلاح النضال ضد العدو. بقيت على الساحة العربية قوة واحدة تقاوم العدو هي القوة الاسلامية، كنا في الحركة الاسلامية موحدين في بداية الصراع ونحن الآن متفرقون". وهو يدعو الى "ايقاظ الوعي لدى الأمة، وعي حدّه الأول بيان بطلان ما تشيعه الأجهزة الرسمية عن علاقتنا بالعدو الصهيوني، فنحن لن يكون بيننا وبين الصهاينة صلح أو علاقة طبيعية. وحدّه الثاني اشاعة المعرفة بحقيقة قضيتنا، فهي ليست تحدياً اقليمياً على أرض أو سلطة، انها قضية تحد حضاري بين العرب مسلمين ومسيحيين وبين الغرب الذي لا يرى حضارة أو ثقافة إلا حضارته وثقافته، ولا يريد لأحد ان يحيا إلا على نمط حياته". ويقول: "الحوار بيننا وبين عدونا الصهيوني ومن هم وراءه هو حوار مسلح. لا أتصور ان يلقي اليهود السلاح في يوم من الأيام. لذلك فالصراع المسلح واقع والغلبة لمن عنده الأسباب، أما معاهدات السلام فلها وظيفة واحدة هي تحييد قوتنا أو منعها من التنامي والعمل. ليست لها أي وظيفة على الجانب الاسرائيلي. هذه معاهدات مهمتها وضع حد بيننا وبينهم، حد يعمل من جانب واحد هو الجانب العربي، أما من جانبهم فالأمر لم يتغير قيد شعرة".
المقاومة هي ايضاً أبرز أشكال استمرار الصراع بالنسبة الى الدكتور رفعت سيد أحمد، والمقاومة عنصر لا يمكن ضبطه وتوقعه لأنه "لا يصنّع في معامل" ففي الستينات كان حركة تحرر وفي الثمانينات كان انتفاضة وفي التسعينات اصبح "عمليات استشهادية"، و"حتى لو وقعت اتفاقات سيأتي جيل آخر ويبدع أشكالاً أخرى من المقاومة، وسيستمر الصراع من حيث لا نتوقع لأن التسوية بنيت على أسس غير عادلة"، وفي الملف المصري الذي يعتقد انه مغلق "الصراع مستمر عندنا بأشكال عدة، والمقاومة مجتمعية وسياسية. اذا رصدنا الممانعة للتطبيع خلال 20 عاماً نجدها متقدمة جداً وعميقة ومؤثرة. ستكون هناك أشكال من المقاومة لا تكتفي بالشكل الثقافي أو السياسي، يمكن ان تأخذ شكلاً مسلحاً، هذا متوقع بسبب الاهانات التي توجه لمصر، نماذج محمود نورالدين وسليمان خاطر وطارق حسن يمكن ان تتكرر، كذلك نموذج تنظيم "ثورة مصر". وحتى مشاريع الشرق أوسطية ستلاقي مقاومة من رجال الاعمال أنفسهم لأن التعامل مع اسرائيل على مدى عشرين عاماً لم يشجعهم. أحد أكبر رجال الاعمال المصريين يقول في أحاديثه ان مقاومة حزب الله في جنوب لبنان أنبل وأشرف ظواهر الكرامة العربية، ويقول انه يستحيل ان يتعامل مع اسرائيل إلا في ظل سلام حقيقي. الاسرائيليون يعرفون ممانعة الرأي العام المصري لكل ما هو اسرائيلي، كل بيت مصري له عزيز أو قريب استشهد، 65 ألف أسير مصري قتلوا أو دفنوا أحياء في رمال سيناء في حربي 56 و67، القطن المصري لم يعد منتجاً منذ استوردوا له بذوراً من اسرائيل... عدا ذلك نسمع عن قتل الأهل في فلسطين، وعن الاعتداءات على جنوب لبنان، كل ذلك يؤدي الى ردود فعل، حتى ان تظاهرات تخرج من حرم الأزهر وتتطلع الى المشاركين فيها فإذا هم جميعاً ممن ولدوا بعد كامب ديفيد. هناك أشياء أكثر عمقاً مما يعتقد الاميركيون والاسرائيليون".
لكن التطبيع ومقاومة التطبيع قد يأخذان منحى آخر بعد توقيع "اتفاق سلام" سوري - اسرائيلي. هذا ما يعتقده عبدالمنعم سعيد، شارحاً ان التطبيع "سيبقى اشكالية اذا بقي النظام السوري على ما هو عليه، لكن مضامين الاشكالية ستتغير. في مصر حصل التغيير باتجاه السلام متزامناً مع متغيرات اخرى. السادات أرفق التسوية بنظام سياسي تعددي، عمل علاقة مع الغرب، اطلق بداية لتحول اقتصادي. اما في سورية فلو حصل السلام وبقي حزب البعث متمسكاً بنهجه فإن التغييرات الداخلية لن تكون كبيرة، والعلاقة مع الغرب لن تكون كبيرة، وبالتالي ففي نظام كهذا لن يسمح باعتبار التطبيع خيانة. في مصر ناس تعتبر التطبيع خيانة والسلام استسلاماً، النظام هناك لن يسمح بهذا لا في سورية ولا في لبنان، وبحكم نفوذ سورية ورصيدها في كثير من الدوائر الراديكالية العربية فإن كثيراً من خطابها سيتغير بعد ان تدخل سورية السلام. قد يبقى التطبيع نفسه محدوداً عملياً لكنه لن يعود موضوعاً صراعياً مداناً".
"الهيمنة"... ومصر
أحد أبرز النتائج المتوقعة للتسوية أنها ستتيح للولايات المتحدة ترتيب وضع مهيمن لاسرائيل، طالما أنها تدعمها في فرض تسوية غير عادلة خصوصاً على الفلسطينيين، ومن خلالهم على العرب، كما انها تهيئ لها فرزاً اقليمياً يمكنها من استثمار هذه التسوية. في هذا الإطار تشعر مصر بأن ثمة محاولة لتهميشها، حسب تعبير محمد سيد أحمد، وهي حاولت تحسين شروط التسوية على المسار الفلسطيني لكن النتيجة ان الاسرائيليين التفوا على موضوع الدولة واصبحوا هم أنفسهم راغبين في "دولة فلسطينية تدرأ عنهم مشاكل الفلسطينيين"، بل ان جنرالاتها يقولون "أعطوهم دولة عندئذ يمكننا ان نضربهم". ويرصد محمد سيد أحمد محاولات مصر لمصالحة سورية - فلسطينية، بمنظور بعيد المدى ولا علاقة له بمجريات التفاوض الراهنة، لكن شيئاً لم يحصل، ما زاد في الحساسية المصرية. لذا فهو يرى ان دواعي المنافسة مع اسرائيل لا بد ان تضطر مصر الى "تجاوز كامب ديفيد" في شقّه العربي، للانتقال من دور "المسالم الأول" الى دور "الطرف الأكثر تحسساً" و"يجب ان تثبت مصر للعرب استعدادها للدفاع عنهم كلما كانت هناك مشكلة مع اسرائيل، هذا يتطلب تجاوز كامب ديفيد"، فالمنافسة على من يكون "الأول" في المنطقة تحسم لمصر أو لا تحسم لأحد، خصوصاً لإسرائيل. والحجة الأهم عند مصر هي ان "دا مش سلام"!
لكن مصطفى خليل يتساءل: "فات 20 سنة هل هناك هيمنة. لا أجد سبباً للمنافسة، صادراتنا وأسواقنا مختلفة عن صادارتهم وأسواقهم. هل تهيمن اسرائىل على معدل انتاجنا، على المشروعات التي ننفذها، على الأساليب المالية التي نتبعها؟ كدولة لا تستطيع، كأفراد نفوذهم محدود. على فكرة هم تركوا موضوع الزراعة، يبيعون البذور ولا يهمهم بيع المحاصيل. في أي حال هم وصلوا الى الاسواق العربية من زمان، بضائعهم تحمل اشارة منشأ غير اسرائيلية، لا يصدرون الى الاسواق العربية أكثر من 6 في المئة من صادارتهم".
تظهر قائمة الواردات والصادرات المصرية من اسرائيل واليها، في الشهور الستة الأولى من سنة 99، فارقاً كبيراً لمصلحة الصادرات. يبلغ اجمالي الاستيراد 8.62 مليون دولار فيما تبلغ الصادرات 56.07 مليون دولار ويمثل النفط الجزء الأكبر منها. لا تختلف أرقام السنوات السابقة كثيراً عن أرقام 1999، وهي نسبة متواضعة بالمقارنة مع اجمالي الاستيراد المصري من الخارج، اذ يبلغ 13 - 14 بليون دولار في العام. لعل هذا سبب عدم القلق من هيمنة ذات طابع اقتصادي، ثم ان القاهرة وإن لم تتحمس بقوة لمشاريع الشرق الأوسطة إلا أنها لم تقصِ نفسها عنها، وعند الضرورة كانت تنافس لتأمين حضور في الموقع المهم والمقرر، كما في مشروع بنك التنمية للشرق الأوسط الذي اقرّت القمم الاقتصادية انشاءه.
مع ذلك: تحذير... اسرائيل على وشك ان تصبح مركز ال"سوفت وير" في المنطقة، يلفت جميل مطر، "فهي تستفيد بسرعة من خبرة الغرب، قد تسبقنا في انشاء مركز الانترنت العربي، هذه السيطرة على قطاع الاتصالات، وهو الأهم في عصرنا، خطيرة، انها السوق التي تتطلع اليها في العالم، وهي ستجهد للامساك بالخدمات معتمدة على "وسيط" هو الفلسطيني". هناك هاجس عربي، وليس مصرياً فقط، بأن تقفز اسرائيل الى التحكم بقطاعات انتاج عدة ليكون العرب يدها العاملة.
صراع تكنولوجي
"المسألة أخطر مما كنا نتصور"، يقول الدكتور زياد أحمد بهاء الدين، "إذ كنا نعتقد انها ستسيطر بالتملك أو بالسيطرة على الموارد، المسألة هي في توزيع مراكز الثقل في المنطقة. هناك اتجاه الى توزيع أدوار ومراحل انتاجية ليأتي في النهاية منتج بلا جنسية، اسرائيل واعية ان دورها يجب ان يكون في "أغلى" مراحل العملية الاقتصادية. ما يشغل المسؤولين العرب هو اين سيكون مركز تكنولوجيا المعلومات في العالم العربي، هناك صراع غير معلن عليه. المشكلة ان اسرائيل قد تكون المركز ونصبح نحن مجرد عاملين فيه، هذا ينطبق ايضاً على تكنولوجيا المياه، وعلى الزراعة حيث السيطرة لا تكون بتملك الفدادين وانما بالتقنية وبتسجيل التركيبة الجينية للمنتجات الزراعية. هذه مجرد عينة سريعة، فالسيطرة هنا سيطرة على المعرفة".
طبعاً تشكل الجهوزية العلمية لاسرائيل ملفاً كبيراً في الصراع، لكن ماذا عن الجانب العسكري فيه وهو أكثر ما يقلق مصر؟ وعدا مصر، لن ترضى الدوائر العسكرية العربية بوجود دائم للتفوق العسكري الاسرائيلي، هذا ما يعتقده جميل مطر، ويقول: "إذا فتحت الحدود سيسأل العسكر: ونحن ماذا نفعل؟ لا بد من كسر الاحتكار الاسرائيلي، لا بد ان تكون لدينا أسلحة دمار شامل، وان نشعر بوجود توازن". ولكن التفوق الاسرائيلي من صنع اميركا؟ "نعم، ولكن اميركا تحتاج دائماً الى شرعية مصرية في المنطقة".
يوافق عبدالمنعم سعيد على الفكرة مؤكداً ان "حجر الأساس في الأمن الاميركي هو مصر. هذه حقيقة عند العسكر، البنتاغون يتبنى هذا المبدأ أياً كان رأي البيت الأبيض والخارجية. شروطهم كثيرة لكنهم يبنون نظام الأمن الاقليمي على مصر. اسرائيل حليفتهم لكنها لا تحمل مقومات الشريك الدائم والراسخ كما هي حال تركيا أو مصر، وكما كانت حال ايران في السابق". هل يعني ذلك ان اميركا ستأخذ باقتراح مصر انشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل؟ "حتى لو قبلت اسرائيل بهذا الاقتراح في المدى القريب، خلال 10 سنين مثلاً، فإن التجربة العالمية تعلمنا ان مثل هذه الاتفاقات يستلزم 15 - 30 سنة لعقده. الجوانب الفنية كثيرة. والسوابق قليلة. فالعالم تعامل مع اتفاقات على نوع واحد من الاسلحة. والمناطق الخالية من أسلحة نووية باتفاقات اميركا الجنوبية، افريقيا لم تكن فيها دولة تملك السلاح النووي، في حالتنا تملك اسرائيل 200 رأس نووي، من هنا ان وضع اتفاق مع امكان نزع هذا السلاح يعني وضعاً جديداً".
ويرى وحيد عبدالمجيد "ان اسرائيل لن تتخلى اطلاقاً عن سلاحها النووي. وستبقى مراقبة لتطورات الوضع العربي وما إذا كان سيفرض عليها اعادة نظر في التسويات المجحفة. مجرد نشوء وضع عربي كهذا تعتبره تهديداً... ولو افترضنا وجود اتفاق وقبولها التخلي عن سلاحها النووي، فهذا يعني ان اسرائيل تأكدت انها انتصرت وان الصراع انتهى فعلاً، وان مشروعها قد تحقق".
البعد الفلسطيني... والأردن
المسألة في الأردن ليست تنافساً اقليمياً. للأردن دور اقليمي، بلا شك، لكنه مثقل بمشكلة. اذا استمر الصراع فهو سيكون في قلب الصراع، لأنه ملتصق بقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه. "عندما أذهب الى القدس فأنا لا أذهب الى قطر عربي شقيق، يقول مصطفى حمارنة، انا ابن الضفتين. المطلوب ان تعود الضفة، ليس لنا وانما معنا. الدولة الفلسطينية انفصال. كانت للحكم الأردني، في أيامه، اخطاء لكنه لم يكن احتلالاً. طمست الهوية الفلسطينية؟ صحيح لكن هذه الهوية لم تكن مشكلة حتى 1967، كما هي الآن. بالنسبة الينا في الأردن البعد الفلسطيني بعد داخلي".
يشير حمارنة الى دراسة ميدانية اجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية العام 1995، الذي يرأسه، وحددت "معوقات" تشكل قاعدة الاستقطاب وتعوّق الانصهار بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني. الأولون يطرحون تركز الاعمال الخاصة لدى المواطنين من أصل فلسطيني، ويتخوفون من الاعداد المتزايدة لهؤلاء ومن "أزدواجية الولاء" لديهم وعدم تقديرهم ل"الفوائد" التي حصلوا عليها نتيجة انتمائهم الى الأردن. ويطرح الآخرون تركز التعيين في القطاع العام على المواطنين من أصل أردني، وحصر الوظائف الحساسة في هؤلاء ومحاباة الجهاز الحكومي لهم في مختلف المعاملات، كما يثيرون عدم تمثيل المواطنين من أصل فلسطيني في الحكومة والبرلمان بما يتناسب واعدادهم.
هذه ليست سوى عناوين للمشكلة اقترحت لها الدراسة عناوين اصلاحات: المحافظة على الوحدة، تعميق الديموقراطية والتعددية، اعتماد المواطنة والكفاءة كمعايير موضوعية للعمالة والتوظيف... "الدولة الأردنية ليست لديها سيناريوات جاهزة للتعامل مع الموضوع الفلسطيني يتابع حمارنة ويبدو كلامها عن الوضع النهائي معيباً أحياناً. يقولون سنكون في مفاوضات الوضع النهائي لأن لنا مصالح. ما عاد يقال ان مصيرنا واحد. كل ما يهمهم في موضوع اللاجئين كيف لا يتحول الفلسطينيون اكثرية في الأردن. إنهم مرعوبون من قصة الأرقام. في المقابل يمكن تلخيص خطاب السلطة الفلسطينية ب"أبعدوا عنا، لا تكونوا أوصياء علينا" كل حكيهم دولة وسلطة. المتطرفون هنا وهناك يجمعهم اتفاق ضمني، كل لغاياته. لكن السؤال المطروح هل نجعل بلدنا مكاناً مفضلاً للجميع أم نؤجل كل شيء الى ما بعد؟".
يعي طاهر المصري كل ذلك، فهو كان رئيس وزراء سابقاً وهو من أصل فلسطيني. يشرح "المعضلة التي لا توجد في الأردن" كالآتي: "هناك مليون ونصف مليون لاجئ فلسطيني. انهم أردنيون يمارسون حياتهم، جيلهم الرابع والثالث لا يعرف فلسطين، لكنه يعتبر نفسه لاجئاً ويريد ان تعامله كلاجئ، اي ان تحفظ حقه في العودة وتحفظ هويته، لكن عليك ايضاً ان تعطيه حقوقه السياسية ويكون جزءاً من نظامك السياسي. الوضع النهائي آت، كيف نتعامل معه؟ المخاوف موجودة عند الناس، هناك أردنيون يؤمنون بالقضية الفلسطينية وكلما اقترب الحل كلما زادت حساسيتهم وخوفهم من ان تكون فيه ما تسمى كونفيديرالية قناةً للتهجير ولمجيء الناس الى هنا"... كل شيء في الأردن يتفاعل حالياً في انتظار الحل النهائي، من "تراجع التماسك المجتمعي الى الوضع الاقتصادي الى بدايات الحكم الجديد، من التزام بالقضية الفلسطينية الى خوف من ان تدفع الأرض الأردنية ثمن التسوية"... والأهم ان اسرائيل "تريد الأردن منطقة آمنة نظيفة من أي تهديد لأمنها، وتريده وعاء كبيراً لامتصاص تداعيات الحل غير العادل على الأرض الفلسطينية". وفي مواجهة ذلك "لا بد من الحفاظ على تماسك المجتمع وتعزيز مصداقية الدولة، ولا بد خصوصاً من توفير أكبر مقدار ممكن من الديموقراطية ومن تفعيل التنمية الاقتصادية".
"إنقاذ" اسرائيل؟
يذهب لبيب قمحاوي، وهو اقتصادي من أصل فلسطيني، أبعد في تحديد المشكلة مشيراً الى أحداث ايلول سبتمبر 1970 التي "أدت الى بروز ما أصبح يدعى "الهاجس الأردني" المبني على ان العلاقة مع الموضوع الفلسطيني قد تؤدي بالنتيجة الى ابتلاع الكيان السياسي الأردني، عندئذ ارتسمت معادلة: الدور الفلسطيني لنظام الحكم والدولة الأردنية للاردنيين. وبدأ العزل السياسي للاردنيين من أصل فلسطيني، وضرب المستفيدون من تلك المعادلة جذورهم في مؤسسات الدولة حتى أصبح اي تغيير يعني لهم خسارة مصالح. "الوضع النهائي" سيطرح استحقاقات تؤثر في الوضع الأردني، لذا نبّه بعض العقلاء من المسؤولين الأردنيين الى أهمية اصلاح الأمور داخلياً وإلغاء حال التمييز حتى لا تكون لأحد مصلحة بأن يدفع الأردن ثمن أي تسوية نهائية. الفلسطينيون والأردنيون قد يكونون في مسار الخسارة الحتمية في تعاملهم مع الموضوع، والتنسيق في هذه اللحظة قد يكون في منتهى الخطورة لأنه اذا جرت مفاوضات ثلاثية ستسعى اسرائيل الى التنازل من خلال طرف ثالث هو الاردن. أما اذا جرت ثنائية فعلى اسرائيل ان تتنازل وإلا تفشل المفاوضات. عندئذ يصبح دفع الثمن بطريقة غير مباشرة، عندما تتم التسوية، بجعل الأردن يتعامل مع واقع حقيقي على أرضه من خلال تعديل حال التمييز وإلغائها ضد الأردنيين من أصل فلسطيني. يجب ان يكون الأردن في وضع متماسك للحؤول دون "انقاذ" اسرائيل مما هو مطلوب منها في الحل النهائي. اسرائيل وحدها يجب ان تدفع ثمن هذا الحل بدل ان تفرضه على الأردن".
20 في المئة لفلسطين
"يجب ألا نفتش عمن يدفع الثمن"، يقول ابراهيم عزالدين، "فهو قد دفع للاسف الشديد، وقد دفعه الشعب الفلسطيني، ولن يأخذ سوى 20 في المئة من فلسطين في دولة منقوصة السيادة. للأسف الشديد دفع هذا الثمن يوم وقعت اتفاقات كامب ديفيد ودخلنا المسارات المستقلة وأصبح الحوار حول حكم ذاتي وليس حول انسحاب اسرائيلي من أرض فلسطين". ويدافع عزالدين عن نهج عقلاني في التعامل مع الاستحقاقات المقبلة "فلا خيار غير العقلانية، هناك مشاكل حقيقية في المجتمع الأردني بسبب تعرضه لكثير من التجارب التي تفاقمت مع نهاية القرن، اقتصادياً وسياسياً وديموغرافياً، وفي الوقت نفسه هناك مسارب لتنفيس التوتر. هناك مسار ديموقراطي يحتاج الى تطوير وهناك حرية تعبير وحرية نشاط اقتصادي يعطي الفرصة للجميع. بالطبع يطرح قرب الحل النهائي للقضية الفلسطينية اعباء على الدولة والمجتمع لا يمكن مواجهتها الا بالحكمة، وبتجاوز ما حصل في الماضي، لا بد من لحمة بين الطرفين. على الأردني ان ينشط في المجال الاقتصادي ويأخذ فيه حقه، وعلى الفلسطيني ان ينشط سياسياً ويأخذ دوره. هذه هي المعادلة التي تدخلنا القرن المقبل بشيء من الأمان. ولنتذكر ان لنا خصماً واحداً علينا ان نواجهه معاً".
لكلٍ صراعه.... لكل "قضيته" الفلسطينية
كان التفاوض دولة دولة، و"قطعة قطعة". لذلك يأحذ العرب ثمناً زهيداً، لأن طاقاتهم مبعثرة وتستنفد افرادياً، ويخشى ان تكون خسارة السلام لأن "كل واحد يعمل سلامه لوحده" مشابهة لخسارة الحرب "لأن كل واحد حارب لوحده". في رأي عبدالمنعم سعيد ان استخدام العرب لطاقاتهم بشكل منظم يحسن شروط السلام"، ولا يستبعد فكرة "اعتذار اسرائيلي" عما ارتكب من مذابح واساءات. ينوه بجهد المؤرخين الجدد وبعملية تنقيح التاريخ المدرّس، ويعتبر التعامل مع قضية اللاجئين وتعويضاتهم مؤشراً الى هذا "الاعتذار". اما وحيد عبدالمجيد فيرى ان منطق الاعتذار والتعويضات هو "منطق تسوية مختلفة عن التي نشهدها، ويصعب تصوره في اجراءات جزئية، وهو أقرب الى منطق المصالحة التاريخية ولا ينسجم مع تسويات مفروضة وظالمة. لو ان التسوية اكثر عدالة لكان الاعتذار والتعويضات جزءاً لا يتجزأ منها".
لكن د. جلال أمين ينظر الى مجمل الوضع بخليط من الواقع والخيال: "ما حصل في سياتل وتصرف اميركا بعصبية يذكرني بالدولة الكبيرة التي تكون في بداية التدهور، فتبدأ تخطئ". ما علاقة هذا بموضوعنا؟ "الجبروت الاسرائيلي يمكن ان ينتكس إذا تعرضت الحماية الاميركية نفسها للانتكاس. اسرائيل لا تستطيع، بحجمها السكاني والجغرافي، ان تحتفظ وحدها بتفوقها. اسرائيل تعرف ان تفوقها يضمن لها تنازلات العرب. المحك هو الإجبار. ثم ان اميركا واسرائيل تتصرفان بسرعة كأنهما خائفتان من المرحلة التي اتحدث عنها، تتعجلان ترتيب الوضع في الشرق الأوسط قبل ان ينتهي عمر الهيمنة الاميركية".". ما المطلوب لتكون اسرائيل دولة عادلة؟ "اسرائيل ليست دولة، انها مشروع، ليس قصدها ان تكون عادية، ولا يمكن ان تكون كذلك. هي ليست مثل هولندا لأن هذه لا تقول امنعوا صحفكم من مهاجمتنا. هذا يفعله المندوب السامي. كان جمال الدين الافغاني يقول لو ان الهنود ذباب وعملوا وززز كان الانكليز خرجوا. ما الذي منع الهنود من ان يقولوا وززز... ما الذي يمنع العرب، ما الذي عند اسرائيل لتخضع 250 مليون عربي؟ عندها كل شيء، لأنها داخلة في مخّ العملاق الاميركي وقاعدة في الكونغرس وفي التلفزيون الفرنسي والانكليزي، وفي... وفي... ومع ذلك يسأل التطبيعيون: انتو خايفين ليه؟".
عناصر اخرى ستدخل هذا المشهد مع انضمام سورية ولبنان الى التسوية، بما يعنيه ذلك من ملفات ستبقى مفتوحة بين العرب واسرائيل، وملفات ستفتح بين عرب وعرب. وكما خرج وسيخرج كل طرف بتسويته، سيكون لكل صراعه ما بعد التسوية مع مجتمعه، مع اسرائيل، مع التاريخ.
كلمات أخيرة من زياد بهاء الدين: "اسرائيل نجحت في ان تشكل نظامها التعليمي والاقتصادي على اساس تقدمها. لديها بنية كاملة تؤدي الدور الذي تتطلع اليه. ليست عندنا آليات لصنع تفكير علمي معاصر، ولا آليات لإعادة انتاجه. المقارنة بين انفاق اسرائيل على التعليم وصناعة المعرفة ومراكز البحث وتكنولوجيا الاتصال ترسخ الاعتقاد بأن اسرائيل هي التي ستفكر وتخطط ويبقى لنا العمل الحرفي البسيط، هي بؤرة تنتج الجانب القيم ونحن محيط كبير يعمل لديها".
بدوره يثير "التقرير الاستراتيجي العربي"، الذي يوشك ان يصدر عن "الاهرام"، هذه المهمة الملحة: "لا مستقبل من دون نهضة تكنولوجية: فجوة علمية مفزعة بين العرب واسرائيل"... ذلك هو الصراع الحقيقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.