جديد اللغة اليابان المعروفة بالتقليد والمحافظة ليست محافظة في اللغة. اكثر من ستة آلاف كلمة وتعبير تنضمّ سنوياً الى اللغة اليابانية، ثلثاها لاستخدامات عابرة وثلثها يجد طريقه الى القاموس. الشبيبة هم الوسيط الاول في عملية اللقاح هذه، والاعلام هو الوسيط الثاني الذي يتولى تعميم الكلمات الجديدة على نطاق واسع. لهذا بدأ عدد من اللغويين والاكاديميين القوميين المعروفين بمحافظتهم يعبّرون عن استيائهم. أحد هؤلاء، هيتوشي شيميزو، الذي يحرر كتابا سنويا سماكته 10 سنتيمترات، وعنوانه "المعرفة الاساسية بالكلمات اليابانية المعاصرة"، قال لكاثرين تولبرت من ال"واشنطن بوست": "نحن من دون عمود فقري. اننا مسترخون ولزِجون لا نمارس اية سلطة على انفسنا. ينبغي ان نكون اشد نظامية وصرامة حيال لغتنا". لكن احتجاجات كهذه لا تقف عائقاً دون محاولات الشبيبة، او كما يقول واحد منهم: "تولد كلمة لتعبّر عن جماعة معينة لكنها لا تلبث ان تعمّ. فاللغة تتبع الحياة، والحياة غنية ومفتوحة دائما على الجديد". والكثير من التعابير والكلمات الوافدة انكليزي، وغالباً ما يتم تقصيره ولفظه بموجب التقطيع الياباني للنطق حيث تنعدم الأحرف الساكنة في الابجدية اليابانية. وبالنتيجة تدخل الكلمات محوّرة فتصير كلمة GAME، ومعناها لعبة: GEIMU، وتصير كلمةPOCKET ومعناها جيب:POKETO ... وهكذا دواليك. ويرى اللغوي فوميو اينوي ان ما يحصل له سببان: واحد هو الحداثة والتعرض لتقنيات غربية وافدة، وآخر كامن في التقليد اللغوي الياباني نفسه. فامتصاص كلمات الآخرين ليس جديداً على اللغة التي اخذت اصلاً شكل الحرف الصيني وتبنّته. وهذه العملية يبدو انها تتكرر بنجاح مع الانكليزية، اذ تتراجع القدرة على التمييز بين ما كان يابانياً في الاصل، وما تم استدخاله لاحقاً. بل تنشأ محاولات تركيب وتصرّف على ما جرى لكلمة SHAME الانكليزية، وتعني العار او الحياء. فقد جعلتها الشبيبة اليابانية SHUCHI، ثم اضافت لها كلمة LESS، التي تعني: بلا. هكذا صار الشخص الذي لا حياء له، الSHAMELESS بالانكليزية، يسمى باليابانية SHUCHI-LESU "ايكونوميست" واتجاهات القرن مجلة "ايكونوميست" البريطانية اصدرت في 11 - 17 ايلول سبتمبر عدداً خاصاً، خاصاً بالفعل. موضوع خصوصيته الاتجاهات الفكرية والعقائدية التي سادت القرن العشرين وانعكاسها على السياسة والحياة. وركّزت المجلة على الشيوعية والفاشية من دون ان تقع في المساواة بينهما، الا انها مع هذا كرّست للشيوعية صفحات وفقرات اكثر مما كرّست للفاشية. لماذا؟ الجواب اليساري السهل عن هذا السؤال ان "البورجوازية" الغربية مستعدة لمغازلة الفاشية حين يكون المطلوب مكافحة الشيوعية. وتوكيداً لهذا التأويل تُضرب الامثلة الكثيرة، من محاولات الاتفاق مع هتلر ضد ستالين التي سبقت الحرب العالمية الثانية، الى التستّر على النازيين بعد الحرب ومحاولات استخدام بعضهم في الصراع مع الشيوعية. الجواب هذا اذا كان يفسّر المواقف الاكثر تخلفاً لدى "البورجوازية" المذكورة، لا سيما قطاعاتها التي لم تفقد الصلة بالارستقراطية القديمة، الا انه يبقى ناقصاً. وهو بالتأكيد يبقى اقرب الى تفسير المواقف التي عرفتها فرنسا الفيشية التي لم تتصالح مع التقليد الجمهوري، منه الى تفسير موقف الجناح الليبرالي البريطاني الذي تنطق باسمه "ايكونوميست". فالاهتمام بالشيوعية ينبع من اسباب اهمها: 1- انها تشارك الرأسمالية صدورها عن التنوير، فيما تقع الفاشية خارج هذا التقليد كلياً. 2- انها اشد تعقيداً وتماسكاً نظريين من الفاشية. 3- ان الصراع معها امتد من 1917 حتى 1991، فيما اقتصر الصراع مع الفاشية على فترة تقل كثيراً عن الحقبة المذكورة. 4- ان الاحزاب الشيوعية، لا سيما في ايطالياوفرنسا، تمكنت بعد الحرب العالمية الثانية من ان تشكل تهديداً من داخل البرلمان واللعبة الديموقراطية للمجتمعات الاوروبية الغربية وتكويناتها السياسية. 5- ان الشيوعية، نظراً الى طول عهدها كسلطة حاكمة والى اصطباغها بعدد لا يُحصى من النزاعات الدينية والقومية والاثنية، تسببت في موت ملايين غير مسبوقة في التاريخ. وتحصي "ايكونوميست" الضحايا المدنيين الذين قضوا، هذا القرن، على ايدي حكوماتهم: اما بنتيجة القمع المباشر، او بنتيجة السياسات الاقتصادية والصحية وغيرها، فتضعنا امام الارقام الآتية: - الاتحاد السوفياتي 1917 - 1991: 62 مليوناً. - الصين الشيوعية 1949 - ...: 35 مليوناً. - المانيا النازية 1933 - 1945: 21 مليوناً. - الصين الامبراطورية 1928 - 1949: 10 ملايين. - اليابان الامبراطورية 1936 - 1945: 6 ملايين. - المجموع: 170 مليوناً. وهذا الرقم الهائل الذي يفوق كثيراً ارقام ضحايا الحروب الدولية خلال القرن 30 مليوناً وضحايا الحروب الاهلية 7 ملايين، لم يعلّم الجميع الحقائق الصارخة. "فحتى الكثيرون من المثقفين في الغرب"، كما تنهي "ايكونوميست" احد مقالات ملفّها، "لا زالوا يعتبرون الرأسمالية غير اخلاقية: فهي مكرّسة لعبادة المال على نحو مبتذل، وهي شديدة الارتكاز الى الطمع، وبالغة التأسيس على فردية ضدية حيال الآخرين. والذين يفكرون هكذا سيبقون، على الارجح، يفكرون دائماً هكذا". جواسيس من نوع مختلف ليس الجاسوس شخصاً محبوباً بالطبع. هناك اتفاق عام على ادانته ورميه بأبشع النعوت. ذوو العقل التآمري يذهبون خطوة أبعد، فيدينون خصومهم بتسميتهم "جواسيس" ظانّين انهم، بهذا، يوجّهون اليهم اقصى الاساءات. فالجاسوس ليس فقط خارجاً عن الجماعة، بل هو طاقة تضاف الى جماعة الخصم، وانضيافها يتم بالسر والعتم والريبة. الكلام عن الجواسيس كان شغل بريطانيا الشاغل قبل أيام، لكن واحدة منهم تستوقف وتكاد تقنعنا بعكس ما هو شائع في الجواسيس وعنهم: السيدة البريطانية ميليتا نوروود، الجدة البالغة 87 عاماً. انها، حقاً، جاسوسة تحملنا على اعادة النظر: إمدادها الاتحاد السوفياتي بالأسرار النووية قائم على حجة ليس من السهل دحضها. مفاد تلك الحجة ان امتلاك طرفين للسلاح النووي هو وحده شرط عدم نشوب حرب نووية. فحين كانت الولاياتالمتحدة تحتكر هذا السلاح استخدمته في اليابان، اذ ضربت هيروشيما وناغازاكي، عام 1945. لكنْ حين امتلكه الاتحاد السوفياتي، فصار طرفان يمتلكانه، توقّف استعماله تماماً وعاش العالم، كما بات معروفاً، في ظل "توازن نووي رادع". لقد احست السيدة البريطانية، مسكونةً برعب نشوب حرب نووية، ان عليها ان تساعد "الطرف الثاني" كي يملك السلاح الذي يملكه الطرف الاول. هكذا تجسست وخانت بلدها لكنها ساهمت في الحؤول دون نشوب حرب نووية. صحيفة "انديبندنت" البريطانية قالت في افتتاحيتها، رداً على المطالبين بمحاكمتها، ان السيدة نوروود "بطلة وطنية وانسانية في آن". وقول "انديبندنت" وغيرها يشير الى تحول بدأ يطول كلمة "جاسوس" ومعناها في زمن ما بعد الحرب الباردة. فاسترخاء العضلات، وتراجع التشنج القومي، وتداخل الدول والحدود، ونمو هموم انسانية تجمع بين البشر، واتساع قنوات المعرفة والاتصال خارج نطاق "الجاسوسية"، تعمل كلها على تعديل فهمنا للمفهوم واعادة الاعتبار لبعض "الجواسيس". ليس هذا فحسب. فمع صعود ثقافة كوزموبوليتية تنظر بكبير تقدير الى اجادة اكبر عدد من اللغات، ومعرفة اكبر عدد من البلدان والمدن، والالمام باكبر عدد من الآداب والموسيقى والعادات والمآكل الوطنية، صار الجاسوس يندرج في خانة تختلف عن تلك التي أُدرج فيها قديماً. ومع تراجع ثقافة محلية تقدّس الوطني والقومي والمتعصّب دفاعاً عن قضية، او الذي "يستشهد" دفاعاً عن مبدأ، تراجعت جاذبية "المناضل" الذي يُغفَر له ضيق أفقه وقلة معرفته لمجرد انه "مناضل" وانه "مستعد للموت". والمجتمعات الاكثر تطوراً صارت حين تتحدث عن الجواسيس تضحك وتمزح. حلقة أكسفورد الشهيرة صارت قصصها وهوايات افرادها مادةً مسلّية وموضوعاً لكتابات محبّبة. كذلك نشأت متاجر تبيع السلع الكهربائىة والاليكترونية التي يُفترض ان الجواسيس يستعملونها، وهي تبيعها كما تباع سائر الألعاب. وبسبب صعود الفردية في تلك المجتمعات، صار الجاسوس فرداً خاصاً، بعدما ظل طويلاً مجرد "أداة" ملحقة بدولة ما. صارت هواياته ورغباته وغرامياته موضع اهتمام وتعاطُف، وصارت مغامراته تخاطب الفرد الباحث عن مُتنفّسات لحياته الباعثة على شيء من السأم. وجاءت ثقافة التسامح بمساهمتها هي الاخرى. فتجربة المانياالشرقية في فتح ملف الذين تعاونوا مع "شتازي"، انتهت الى مكان مسدود وفضائحي للمجتمع بأسره. وحين أصرّ بعض قادة "التضامن" في بولندا على احراج الشيوعيين السابقين، وفتح ملف المتعاونين مع الاستخبارات الشيوعية، كان صاحب الاسم الاول على قائمة المتعاونين قطباً من "التضامن". اذن تفتح المحاسبات جروحا تفوق ما تغلقه من جروح. ولهذا فمن الاحسن، فيما العالم يتغير حقاً، ان تتغير النظرة الى الجاسوس، بحيث يخالطها شيء من الخفّة والمتعة.