الأهمية التي تحظى بها حرب كشمير هي في الواقع اكبر بكثير من الأهمية المعطاة لها في السياسات الدولية. فكيف بهذا النزاع الذي انقضى عليه نصف قرن، يدخل حالياً طوراً جديداً؟ ذلك ان المقاتلين المسلمين الكشميرين عبروا الخط الذي يقسم ولاية كشمير التاريخية بين السيطرة الهنديةوالباكستانية. اما الهند التي قد تعبره بدورها في أي لحظة فجيشها منخرط في حملة دموية بالغة الصرامة والجدية والكلفة لإعادتهم من حيث أتوا. وهذا هو جوهر الاضافة النوعية التي تقدمها الحرب الحالية لتاريخ من النزاع، كلّف في التسعينات وحدها عشرات آلاف القتلى: انه تعدّي الحدود المرسّمة والمعترف بها دولياً. وحين يتم تعدّي الحدود تسقط الروادع الحائلة دون الحرب ودون امتدادها، ويصير التدّخل الدولي شديد الإلحاح حسبما رأينا في الغزو العراقي للكويت. فاذا صحّ ان قوى النزاع وأسبابه مختلفة في الحالين، فيصحّ ايضا ان السيادة التي تحظى بها الدولة فقدت مناعتها كقوة ردع، فكيف حين نضيف الى هذا الواقع حقيقتين اخريين لا تقلاّن قدرة عن اثارة القلق، وهما: - الأولى: ان الهندوباكستان تملكان قدرات نووية جربت مراراً، وهي معطوفة على عداوات متعددة الأسباب، تاريخياً وجغرافياً وسياسياً ودينياً، تجعل المنطقة برميل بارود. - والثانية: بطء الاستجابة الدولية لما يحصل في هذه البقعة من العالم. ضغوط كلينتون لم يقرن الرئيس الاميركي بيل كلينتون الذي اتصل برئيسي الحكومتين في نيودلهي واسلام آباد طالباً منهما العودة بالأمور الى ما كانت عليه قبل النزاع طلبه بأي تهديد فعلي ومؤثّر. وقد اتفق المراقبون على وصف ضغوطه بالغموض، حتى وصل الأمر بأحدهم الى القول انها "مجرد كلام لرفع العتب خصوصاً في المناخ التدخلي الذي أثارته حرب كوسوفو". بعد ذلك اكتسبت ضغوط الرئيس الاميركي درجة أبعد من التحديد والدقّة، فطلب من باكستان ان تستخدم نفوذها لسحب المسلمين من الأراضي الهندية. وبعد ايام اوفد كلينتون قائداً عسكرياً رفيعاً الى اسلام آباد ليكرّر رغبة واشنطن في وقف التصعيد ويعيدها على مسامع حكّام باكستان. ولئن دلّ هذا كله على درجة أعلى من الشعور بالقلق، فإننا لا نزال بعيدين، كما يبدو، عن قرن الأقوال بالأفعال. ان مثل هذا النزاع يملك كل اسباب التحول الى حرب كبرى، حتى لو لم يكن ثمة قرار سابق بذلك، لا عند الهنود ولا عند الباكستانيين. اذ حين تتوافر العداوات والأحقاد، ومعها القدرات الحربية، يصبح في وسع أي "مصادفة" صغرى ان تخلق العجائب. والحق ان قضية كشمير والنزاع حولها ربما كانا اشد تعقيداً من قضية البلقان. وقصتها هي الفصل الاكثر درامية في قصة تقسيم الهند ونشأة باكستان العام 1947. اذ ان 75 في المئة من سكان كشمير مسلمون، لكن المهراجا الذي كان يحكمها إبان التقسيم، شاء ان يضمّها الى الهند ذات الأكثرية الهندوسية، وليس الى باكستان المسلمة. ولم ينتج قراره هذا عن عواطف هندوسية، بل عن عواطف علمانيّة عُرف بها لتأثّره عميقاً بالادارة والاداريين البريطانيين. ولهذا رأى ان من الافضل لكشمير المتعددة دينياً، ولو في ظل غالبية مسلمة، ان تعيش في ظل الهند العلمانية المتعددة الديانات ولو في ظل غالبية هندوسية. ومنذ البداية رفضت باكستان ضمّ كشمير الى الهند، فشنّت حربين لاستردادها من اصل ثلاث حروب خاضتها ضد جارتها الكبرى قبل ان تبدأ الحرب الحالية. وقد نجم عن الحرب الكشميرية الثانية التي اندلعت العام 1971 خريطة جديدة، اذ اضحى ثلثا كشمير في يد الهند وثلث لدى باكستان. المشاعر القومية ومما يزيد النزاع التهاباً ان كشمير بالنسبة الى البلدين محور أساسي من المشاعر القومية . صحيح ان امرها في نظر البلدين قد يختلف عن كوسوفو في نظر الصربيين الذين يرونها مركزاً ثقافياً روحياً ومهداً لقوميتهم، الا ان الأمور لا تختلف كثيراً في نتائجها. اذ ان القادة الهنود يخشون ان يفضي انشقاق كشمير الى إطلاق موجة انفصالية تطاول سائر الولايات مؤدية في النهاية الى تمزيق الهند وتحطيم المبدأ الايديولوجي الذي قامت عليه، وهو ان تكون بلداً لجميع الأديان والاثنيات. وبدورها فإن باكستان التي ولدت استجابة لفكرة "وطن واحد لجميع مسلمي شبه القارة الهندية"، سيكون من الصعب عليها احتمال بقاء كشمير خارجها. فكيف حين نضيف هذا الواقع الكشميري الى انفصال البنغاليين المسلمين في 1973 عن باكستان، واذ لم تمنعهم وحدة الدين من ان ينشئوا لأنفسهم دولة مستقلة؟ هنا تنمو التكهنات التآمرية على هامش الصراع، فيذهب هنود كثيرون الى ان كشمير هي عنوان الثأر الباكستاني من الهند رداً على تأييد الهند لقيام بنغلاديش قبل ربع قرن. ويذهب باكستانيون كثيرون الى ان كشمير هي عنوان الثأر الهندي من باكستان التي انشقت عنها منذ نصف قرن! ولأن المتطرفين من الجانبين لهم قرصهم في كل عرس، فإن لهم في هذا المأتم أقراصاً عدة. اذ ان الأصوليين الباكستانيين يرفضون ان تبقى كشمير ومسلموها تحت حكم الهندوس. والكثيرون من هؤلاء حاربوا في افغانستان وارتبطوا، بشكل او بآخر، بأسامة بن لادن وغيره من المجاهدين الأفغان. ولئن اتجه هؤلاء الى استخدام قضية كشمير لفرض مزيد من الأسلمة السياسية على حكومة رئيس وزراء باكستان نواز شريف، فإن الجيش بدوره يجد في القضية الكشميرية ما يغريه: تعطيل كل دور يمكن ان يمارسه الغرب والمعارضة المدنية على نواز شريف من اجل تأصيل الديموقراطية وتفعيلها، ومن ثم تفكيك المجمّع العسكري الحاكم فعلاً. وفي الهند لا يتردد حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي المتطرّف في الاستفادة من مسألة كشمير لإذكاء المشاعر الهندوسية. واذا كانت الميليشيات والتنظيمات الأكثر تطرفاً تلعب دوراً ملحوظاً من خلال مزايدتها على "بهاراتيا جاناتا"، فان اجواء الانتخابات المقبلة لا تُعدم تأثيراتها. وفي هذا السياق حركت عودة حزب المؤتمر الى الصدارة بزعامة صونيا غاندي مخاوف من قبيل المخاوف الباكستانية التي يثيرها شبح بنازير بوتو خطة للتدخل الدولي؟ تتردد في واشنطن أفكار تتعلق بإنهاء الحرب الدائرة في كشمير. وأهم خلفيات هذه الأفكار وعناصرها ما يأتي: تقوم سياسة الهند منذ عقود على رفض كل التدخلات الدولية في نزاع كشمير، بحجة أنها قضية داخلية بحتة تستغلها باكستان لممارسة سياسة معادية للهند. لكن يبدو ان قمة كولونيا المانيا الأخيرة للبلدان الصناعية وروسيا توصلت إلى قناعة مفادها ضرورة الضغط على الهند لكي تقبل بالدور الدولي، شريطة ان يبدأ هذا الضغط بمطالبة باكستان بسحب المتمردين من الأراضي الهندية. تبعاً لتجربة رواندا حيث لم يحصل تدخل، وتجارب يوغوسلافيا السابقة حيث حدث تدخل، ترتفع في الغرب أصوات مطالبة بتدخل ما قبل أن تنفجر هذه الأزمة أو غيرها وتبلغ درجة اللاعودة. صحيح أنه لم ينشأ بعد اجماع حول متى وأين وكيف، وصحيح ان المخاوف لا تزال كبيرة حيال التدخل المباشر، لكن ستزداد من الآن فصاعداً صعوبة عقد مؤتمرات وقمم تتحاشى مسألة التدخل. كشمير مكان نموذجي للتدخل في مرحلة ما بعد كوسوفو، لأن أخطارها تمتد من تفكك الكيانات وتهجير السكان إلى استخدام السلاح النووي. هناك قضية كشميرية يمكن تطويرها بمعزل عن الهندوباكستان ومطامحهما، خصوصاً أن القوى المطالبة باستقلال كشمير هي في أكثرها غير راغبة في الانضمام إلى الهند. كذلك يوجد بين غير المسلمين في كشمير من يحرّكهم شعار "الوطنية العلمانية الكشميرية" التي تضمن لهم مستقبلاً وسط جيرانهم المسلمين من دون أن تهددهم دولة إسلامية أو الضم إلى باكستان. وتجد الصين بدورها ما يغريها في هذا الشعار الذي يضعف الهند ويضعف، في الوقت نفسه، الاصولية الإسلامية في جوارها.