عرف المسرح اللبناني في السبعينات فورة صحيّة حوّلت بيروت مختبراً طليعياً، وعاصمة للمسرح العربي، بعد أن لعبت القاهرة هذا الدور في الستينات، وقبل أن تلعبه تونس في الثمانينات. خالدة سعيد واكبت تلك المرحلة، وتابعتها عن كثب ككاتبة وناقدة. وها هي توقّع كتاباً مرجعياً ندر أن نقع على مثله في العالم العربي، يجمع المنهجيّة العلميّة إلى البحث الميداني الذي استغرق سنوات من العمل والبحث. هنا استعراض لبعض محطات العصر الذهبي للمسرح اللبناني. \يواجه الباحث الذي يريد التأريخ للمسرح العربي فقراً مدقعاً في الأرشيف والوثائق. وقد واجهت خالدة سعيد هذا الوضع حين قرّرت الخوض في مرحلة "غير موصوفة أو مدوّنة وغير مدروسة في شطرها الأكبر، والمراجع والمصادر التي تمكّن من استعادة عناصرها محدودة جداً". وكانت الخطوة الأولى لوضع كتابها المرجعي "الحركة المسرحيّة في لبنان 1960 - 1970 - تجارب وأبعاد" لجنة المسرح العربي التابعة ل "مهرجانات بعلبك الدوليّة، "بناء مرجع، أو نواة أساسية لمرجع، حول المسرح اللبناني في المرحلة المدروسة، ثم الاستناد الى هذا المرجع نفسه". فلجأت الكاتبة والناقدة السوريّة الى "مصدرين أو منبعين أساسيين بديلين، الأول يقوم من جهة العروض ومبدعيها، والثاني يتعيّن من جهة الجمهور". ونتيجة للأحاديث التي أجرتها مع ثمانية وخمسين مسرحياً ومعنياً بالمسرح من تلك المرحلة، تجمع لدى صاحبة "حركيّة الابداع" مئتان وثمانون ساعة مسجلة، إضافة الى الرسائل التي تلقتها. وقد شملت الأحاديث مع المبدعين مختلف مناحي علاقتهم بهذا الفن، من ذكريات الطفولة والمشاهدات المبكرة، مروراً بالدراسة والممارسة حتى الاحتراف، وصولاً إلى العلاقات بالأجواء الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية لبنانياً وعربياً وعالمياً. وعادت الباحثة الى المقالات النقدية والتعليقات والأخبار التي نشرتها الصحف اللبنانية آنذاك بالعربية والفرنسية، فأضاءت التجربة المسرحية وموقف الصحافة منها، وكذلك تطور النقد المسرحي المواكب لهذه الحركة "منتقلاً من المديح والوصف والتشجيع والتعليق، إلى التحليل والنظر في الأهداف والأساليب والتقنيات". وتبين بعد دراسة المواد التي تجمعت لديها أن العمل المسرحي بين 1958 و1968 تمحور حول مؤسسات وروابط أو مراكز وحلقات، بينما غلب على المرحلة الثانية حتى 1975 نشاط الأعلام. وهي ترى أن "هذا التقسيم الى دوائر عمل، يتفق مع بُعد التدوين والتأريخ". وقد زودت دراستها بهوامش غنية عرّفت من خلالها بجميع الحركات المسرحية والفنية والأعلام لبنانياً وعربياً وعالمياً. ترى خالدة سعيد أن المسرح اللبناني والمسرح العربي إجمالاً، ولد في حقل الأفكار، ولم ينحدر من الطقوس أو يطلع من ساحة الاحتفالات الشعبية التقليدية... وهذا المسرح المفكر هو كذلك ابن المدينة الجديدة، نهضت به فئة جديدة تميزت في القرن التاسع عشر، وقد تمثلت بالعائلات التي مارست حرف التبادل، فامتهنت الترجمة والكتابة والتجارة والتعليم والصحافة والطبابة. والمسرح ابن هذه الفئة وجزء من منابرها وتعابيرها، احتفظ باستمرار بهويته الثقافية الإصلاحية، وارتبط صعوده وازدهاره أو هبوطه وتراجعه بأزمات التحول واندفاع النهضات الثقافية وانكفائها". وتذكّر أن المسرح اللبناني وليد النهضة ومشاريع الحداثة، واكبت ازدهاره تجديدات في حركة الفن التشكيلي والموسيقى والفنون المشهدية الشعبية وفي مقدمتها المسرح الغنائي، وتزايد عدد الصحف الكبرى وإفرادها حيزاً مهماً للثقافة والفنون. فكما "نشأ المسرح النهضوي في نطاق رجال الإصلاح ودعاة التقدم، نشأ المسرح الجديد في الستينات في نطاق الفئة المثقفة... والحركة المسرحية الحديثة، ما أن تجاوزت مرحلة البناء وامتلاك القدرات التقنية 1965 حتى انطلقت في البحث راسمة ملامح الحداثة في تطلعاتها وانشقاقاتها. فخطّت، في حدود زمنها القصير، المسار الذي ميزها عن المسرح النهضوي". وتتوقّف الباحثة عند مظاهر التجديد التقنيّة والأسلوبيّة التي رافقت النزعة إلى إعادة ترتيب القيم والعلاقات: من مسرح في المسرح الذي يسمح بازدواج الزمن والموقع والرؤية واللغة... إلى اعادة النظر في موقع الجمهور من العرض. وتلك الأعمال التي سعت لاستدراج الجمهور الى نوع من المشاركة، كانت في أساس النزعة الاحتفالية في المسرح الجديد". ولا شكّ في أن توافر ديموقراطية ولو نسبية على مستوى حرية التعبير والاعتراض والتظاهر والاتجاه واحترام التنوع والتعدد الطائفي والإتني، أفاد الحياة الثقافية في لبنان بشكل واضح، حتى أوائل السبعينات، ما سمح للمسرح الجديد بتطور متسارع ومتنوع، في غياب هيمنة الدولة على الثقافة. وتذكّر خالد أن المسرح في لبنان، خلال تلك الحقبة، كان ناشطاً بأربع لغات هي العربية والإنكليزية والفرنسية والأرمنية، ولكل لغة روافدها الإضافية. كما حدثت تداخلات وتنقلات للمبدعين من مخرجين وممثلين بين هذه المسارح، مع التحول غالباً نحو مسرح اللغة العربية، لكن المهم هو "أن العلاقة بين مسارح اللغات المختلفة لم تكن علاقة تنكّر أو تناحر، وإن لم يعمّ التبادل". يضاف الى ذلك أن طلاب المسرح الذين تخصصوا في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا وأرمينيا وبولونيا وألمانيا، وبقوا بعد تخرجهم على اتصال بما يجري في هذه المراكز. ويتضمّن كتاب "الحركة المسرحيّة في لبنان 1960 - 1975" لمحة تاريخيّة منذ البدايات، حين قدّم مارون نقاش مسرحية "البخيل" 1848 في منزله البيروتي. ويعرض لهجرة المسرحيين اللبنانين الى مصر وتشكيلهم الفرق هناك، ولأنواع النشاط المسرحي الذي عرفه لبنان منذ مطلع هذا القرن من فرق زائرة، خصوصاً من مصر، ومن مسارح الهواة في المدارس والجامعات والأندية. ولعلّ ازدهار المسرح في الستينات يعود، في جزء منه، إلى دور "لجنة مهرجانات بعلبك" التي تعاونت مع روّاد مثل منير أبو دبس وأنطوان ولطيفة ملتقى. وقد أدى هذا التعاون الى تأسيس معهد التمثيل الحديث 1960 الذي انبثقت منه فرقة المسرح الحديث، فتشكلت بذلك نواة المسرح الحديث. وتتناول خالدة سعيد أسلوب عمل منير أبو دب بين المعهد والفرقة، والأعمال التي قدمتها الفرقة قبل وبعد افتتاح مبنى مسرح مهرجانات بعلبك الدولية 1969 مثل "أمسية من المسرح الإغريقي" و"مكبث" و"الذباب" و"الإزميل" و"هاملت" و"الملك يموت"... ثم تنتقل الباحثة للحديث عن تجربة "حلقة المسرح اللبناني" التي أسسها انطوان ملتقى العام 1963 بعد خلافه الفني مع منير أبو دبس وانفصاله عنه. وتدرس الأسس النظرية الفنية والفكرية لأنطوان ولطيفة ملتقى وعملهما الإخراجي والتمثيلي، وتعاونهما مع فنانين تشكيليين مثل ميشال وألفرد بصبوص في إطار مهرجانات راشانا. وكان ملتقى شارك في مؤتمر المسرح العربي الحديث في تونس 1965، واهتمّت الحلقة بالتأليف والاقتباس والترجمة انطلاقاً من مفاهيم تجريبية جديدة. بعد ذلك تتناول الكاتبة بالدراسة المسرح الأرمني في لبنان ومؤسساته وأعلامه مثل جورج سركيسيان وفاروجان حدشيان وبيرج فازليان. ثم تتناول المسرح الإنكليزي المنطلق من الجامعة الأميركية ومحيطها في بيروت، ومسرح اللغة الفرنسية المنطلق من المركز الجامعي للدراسات المسرحية وأهم من عملوا في إطاره، مثل شريف الخزندار وجوزيف طراب وجلال خوري وروجيه عساف وجان - ماري مشاقة وغابرييل بستاني. أما الفنان حسن علاء الدين شوشو فأفردت له خالدة سعيد فصلاً خاصاً، عرضت فيه مسيرته، وتجربة المسرح الوطني، وطبيعة عمله الكوميدي الشعبي انطلاقاً مع نصوص اقتبسها نزار ميقاتي عن لابيش، أو النصوص التي ألّفها فارس يواكيم. كما توقفت عند تعاونه مع روجيه عساف في "أخ يا بلدنا". وتجدر الاشارة إلى أن المسرح الوطني هو التجربة الوحيدة التي استطاعت أن تقدم عروضها يومياً للجمهور العريض، وتحافظ على استمراريتها فنياً. وعلى رغم تعدد التجارب والتوجهات الفنية في تلك المرحلة، وكثرة العروض التي بدأت باستقطاب الجمهور ولفتت اليها اهتمام الصحافة الفنية، فإن مشكلة النص المسرحي لم تصل الى حل. لقد بقيت الترجمة والاقتباس خياراً أساسياً ساهم فيه بعض ممثلي الحداثة الشعرية مثل أدونيس وأنسي الحاج وعصام محفوظ. أما المسرحيات المؤلفة قبل هذه المرحلة "فقد كانت سماتها الأدبية والفكرية تشكل، بحد ذاتها، عوائق تحول دون وصولها الى الخشبة. هذا فضلاً عن ارتكاز بنيتها الدرامية على القصة والعقدة، وعن فقدان أشخاصها في الغالب، للعمق والقوام الدرامي وتحولهم الى ناطقين بإسم المؤلف". وتلاحظ المؤلفة أن "الترجمة الى العامية لم تعد تلقى معارضة، بل أثبتت جدارتها على الخشبة، ولا سيما في الأعمال الكوميدية. وقد شجع هذا على الاقتباس ثم على التأليف. لما بدأ التأليف كانت الطريق ممهدة، لا سيما أن معظم المؤلفين كانوا من المخرجين لا من الكتّاب". وما يجدر ذكره هنا أن عدداً كبيراً من عروض الحركة المسرحية الحديثة، في تلك الفترة، لم يقدم في المكان التقليدي، أي في مسرح العلبة الأيطالية، وإنما في الهواء الطلق ومن منظور مغاير للعلاقة بين العرض والجمهور المتلقي، كما جرى في عروض منير أبو دبس في جبيل وبعلبك وعروض أنطوان ملتقى في راشانا. وترى الباحثة أن العام 1965 يشكل مفصلاً مهماً في تاريخ المسرح اللبناني. ففي شهر تشرين الثاني نوفمبر افتتحت ثلاثة مسارح: "مسرح الأشرفية" لحلقة المسرح اللبناني، و"مسرح بيروت"، والمسرح الوطني. وفي الشهر نفسه صدر مرسوم تأسيس "معهد الفنون الجميلة" في الجامعة اللبنانية مع تخصيص فرع للفنون المسرحية في نطاقه، عمل فيه معظم رواد الحركة المسرحية الحديثة. ولعلّ أهم نتائج المرحلة الأولى "أن المسرح باللغة العربية تصدّر النشاط المسرحي اللبناني، محدثاً انقلاباً تقويمياً كاملاً. فبعد أن كانت القيمة العليا والمنزلة الأرفع يحظى بهما مسرحا اللغتين الفرنسية والإنكليزية، بينما يوصم المسرح العربي في الغالب بالجمود أو التقعر إذا كان بالفصحى، أو بالابتذال إذا كان بالعامية، قفز هذا المسرح الى الصدارة والطليعية. ومن أسباب تلك القفزة دعم مؤسسات رفيعة مثل "مهرجانات بعلبك"، وقوة النخبة المثقفة والفنية التي شاركت فيه، ودور الطليعة المسيّسة الساعية إلى الارتباط بالجمهور، ومواكبة هذا المسرح البحوث الفنية في العالم". قطيعة مع المسرح العربي وفي سياق تناولها انجازات المرحلة الثانية من حركة المسرح الحديث في لبنان، تتناول خالدة سعيد جهود الممثلين نبيه أبو الحسن ونضال الأشقر والياس الياس وألان بليسون وفائق حميصي ورضى خوري وتيودورا راسي ورفعت طربيه وأنطوان كرباج ومنير معاصري وميراي معلوف وميشال نبعة، والمؤلفين جورج شحادة، عصام محفوظ، والمخرجين شكيب خوري وجلال خوري ثم تجربة محترف بيروت للمسرح مع روجيه عساف ونضال الأشقر، ثم رضى كبريت وريمون جبارة وفيليب عقيقي ويعقوب الشدراوي وجيرار أفيديسيان وموريس معلوف. وفي خانة طلائع المستقبل، تصنّف: جوزيف بونصار وكميل سلامة وزياد الرحباني ورئيف كرم، شارحة مساراتهم الفنية والفكرية، متوقفة عند أهم محطاتهم الإبداعية. وإذا كان هناك شيء من التجاوز في اعتبار جورج شحادة كاتباً لبنانياً مؤثراً في حركة المسرح الحديث، فإن عصام محفوظ كان له حضور مؤثّر خلال تلك المرحلة. بدأ محفوظ يكتب للمسرح منذ العام 1963، وعرضت جميع نصوصه على الخشبات اللبنانية، فكان لها أثرها الواضح على مسيرة التأليف المسرحي لأنه كان أول من كتب نصاً بالعامية من منظور "تنفيذ رؤية جديدة للعالم... ثم التعبير عن ذلك بلغة جديدة". وتتوقّف خالدة سعيد مليّاً عند ظاهرة المخرج المؤلف الذي يمثّل ريمون جبارة أبرز رموزه، معتبرةً أنّها "من خصائص المسرح اللبناني الحديث في تلك الحقبة. وقد كانت محصلة لمجموعة من العوامل والتطورات، وكذلك مجموعة من الأفكار والنظرات التي رافقت مرحلة التأسيس، وكانت مدار اهتمام المخرجين المؤسسين". فقد برز هؤلاء في مرحلة ازدهرت خلالها تيارات النقد، وشعارات التغيير وإعادة البناء : "لقد كان العمل المسرحي يجري في ساحة فكرية ومحيط ثقافي تضطرم فيه أفكار الحداثة، وشعارات التمرد وإعادة النظر، ومن قلب ذلك المحيط طلع المسرحيون. وسواء كانوا مسيّسين أو غير مسيّسين فإن معظمهم تطلع الى تغيير في الفن تمكن ترجمته الى تغيير في الوعي والواقع... ولا ينفصل تحول المخرجين الى مؤلفين عن النظر الجديد الى دور المخرج، والى عملية الإخراج أساساً، واعتبار المخرج مؤلف العرض المسرحي يتحكم بسائر عناصره، بما فيها النص، ويحمل العرض بالنتيجة، رسالة المخرج أكثر مما يحمل رسالة المؤلف". وفي ختام كتابها، تسوق خالدة سعيد مجموعة من الاستنتاجات حول حركة المسرح اللبناني الحديث، وأولها "أن معظم التجارب هي الحركات المسرحية الطليعية في الغرب ممثلة بآبائها" بدءاً من كريغ وستانسلافسكي ومايرهولد، مروراً ببريخت وبروك وغروتوفسكي وحتى المسرح الحي. وثانيها هو الانقطاع عن كل ما يمت بصلة الى مسرح وقضايا ما قبل الستينات في لبنان والعالم العربي، خصوصاً على صعيد مسرح اللغة العربية. وثالثها هو الانقطاع القائم بين المسرح اللبناني الحديث والمسارح العربية على مستوى التبادل المباشر. "إذ يتبين من أحاديث المسرحيين ومن مراجعة الأعمال والاطلاع على ما واكبها من نقد في الصحافة، غياب تأثر ملموس أو تفاعل مباشر مع العواصم العربية". وتضع سعيد يدها على مفارقة أساسيّة، هي أن "المسرح اللبناني الذي تحرك على مستوى الهموم والقضايا داخل إيديولوجيا المثقفين العرب، تحرك على المستوى الفني داخل خط البحث المسرحي الطليعي في العالم. وقد احتفظ بتميزه إذ وجه هذا البحث وجهة همومه وداخل خصوصيته الثقافية". إن كتاب "الحركة المسرحيّة في لبنان 1960 - 1970 - تجارب وأبعاد"، وهو ثمرة خمس سنوات من الجمع والمتابعة والبحث، عمل رائد ومهمّ في سياق التأريخ للمسرح اللبناني والعربي. إنّه يسلّط اضاءات فنية وعلمية وفكريّة أساسيّة على حركة المسرح الحديث التي جمعت بين المراجع العالمية والخصوصيّة المحلية. ولا بدّ من الاشارة أيضاً إلى المنهج العلمي الدقيق الذي بنته واتبعته خالدة سعيد لتقديم هذا الجهد الموسوعي الكبير سواء في المتن أو في الهوامش والشروحات والتحليلات الغنية