تختصر قصة أربع عناصر ل"جيش لبنانالجنوبي" الذي يقوده اللواء أنطوان لحد وتدعمه اسرائيل، كانوا يقفون عند مدخل مدينة جزين صباح يوم الثلثاء الماضي واقع تلك المنطقة من جنوبلبنان قبل أن ينهي "جيش لحد" انسحابه فجر يوم الخميس الماضي. فقد كان التوتر والانفعال يسيطران على هؤلاء العناصر الذين أوقفونا قبل أن يطلبوا منا العودة من حيث أتينا أو الإنتظار على مقربة منهم، بانتظار استشارة قيادتهم في أمر السماح لنا بدخول جزين "عروس الشلال". مسؤول أمن الحاجز رجل في العقد السادس يضع مسدساً على خاصرته، عزا اتخاذ القرارات المفاجئة باقتصار دخول المدينة على سكانها فقط أي نجاح "حزب الله" في مهاجمة قوافل المنسحبين من اكثر من 20 قرية وقتل اثنين من ميليشيات "الجنوبي" وجرح ثالث مساء تلك الليلة وفجر اليوم التالي. بيار أحد العسكريين الذي نزل من سيارة صغيرة أوقفها خلف ملالة، اقترب منا وهو يطلب بعصبية، ان نغادر المنطقة، بعد أن قال أن التعرض للقوات المنسحبة "ربما يؤخر عملية الإنسحاب". حين بادر أحد الصحافيين للطلب منه أن يتصل بالنائب السابق إدمون رزق أحد أبرز شخصيات جزين أو النائب نديم سالم، رد بيار بالقول: "لا نعرفهم ولا نتلقى التعليمات من أي منهم، نعرف أنكم ستكيلون لنا الشتائم في وسائل إعلامكم، ولكن لن نسيء معاملتكم لأننا هنا في هذه المنطقة كمسؤولين عن الأمن نحترم الديموقراطية وحرية الرأي تماماً مثلما يحصل في اسرائيل". لكن بيار لم يتوقف عن كيل الشتائم، قبل أن يقول أنه كان من عناصر "القوات اللبنانية" قبل حلها في بيروت، وإن انتقاله الى الشريط المحتل جاء بعدما تعرض للإعتقال والتعذيب مرات عدة. حاولت الإستفسار منه عن الأسلوب الذي نفذت به عمليات المقاومة، فرد بالقول "كانت عبوات ناسفة زرعت على الجانب الترابي من طريق عام وفجرت لاسلكياً". وعلى رغم وقوفه على الحاجز وارتدائه زياً عسكرياً اسرائيلياً بدت الكتابة العبرية واضحة على جانب من سرواله، نفى بيار أن يكون يتلقى الأوامر من اللواء لحد وقال أنه يطيع أوامر أحد قادة "القوات اللبنانية" المنحلة الذي لجأ مع عناصره الى جنوبلبنان بعد اعتقال قائدهم الدكتور سمير جعجع وتقديمه للمحاكمة من قبل الدولة اللبنانية. في هذه الأثناء كانت سيارات رجال الإعلام تصل الى منطقة الحاجز، قبل أن يطلب منها المسؤول الأمني إما العودة وأما الإنتظار لمعرفة ما إذا كان سيسمح لوسائل الإعلام بالدخول الى جزين. فجأة، يصوب عسكري سلاحه الرشاش من طراز "كلاشينكوف" باتجاه سيارة توقفت في منتصف الطريق، يهمس بيار في أذنه، ويطلق بضعة أعيرة نارية باتجاهها. يخيم صمت على الموقع، وتقطع ذلك بعد وقت قصير اتصالات عبر أجهزة اللاسلكي لتوضح أن إطلاق النار استهدف سيارة تضم فريقاً تلفزيونياً محلياً كان يحاول التقاط صور. لحظات وتصل السيارة المستهدفة بالرصاص الى منطقة الحاجز، من دون ان يعرف ركابها ان الرصاص استهدفهم. يعود مطلق النار، ليجلس على حافة الطريق فأسأله عن سبب توتره، فيرد: "لقد سقط منا شهيدان وجريح الليلة الماضية، وصباح اليوم". سألته عن مسقط رأسه، فأجاب بأنه من بلدة الخيام. وهل هو من آل العبدالله باعتبار أن هذه العائلة من أشهر عائلات البلدة وربما أكبرها، فيرد: "لا، أنا من آل عواضة". وعن سبب التحاقه ب"جيش لبنانالجنوبي"، يقول "إن عدم وجود فرص عمل في المنطقة هو الذي دفعه للإلتحاق بهذا الجيش"، وأردف قائلاً: "إن 90 في المئة من عناصر "جيش لبنانالجنوبي" يلعنون الساعة التي التحقوا بها بهذا الجيش لما يعانونه من احتقار وما يتلقونه من هجمات على يد رجال المقاومة التي تطاردهم في كل المواقع التي يتحصنون داخلها أو الطرقات التي يسلكونها". ويتمنى لو أن الفرصة سنحت للخدمة في صفوف الجيش اللبناني بدلاً من العمل في صفوف الميليشيات الذي تموّلها وتسلحها اسرائيل. يوسف مقاتل آخر من إحدى البلدات المسيحية في الشريط المحتل، لا يتردد في القول "لو كان واثقاً من مبادرة الدولة الى وضع يدها على مدينة جزين فور انسحاب "جيش لبنانالجنوبي" منها، لما تردد في إحضار زوجته وأولاده إليها وتسليم نفسه للسلطات اللبنانية للتحقيق معه لأنه واثق شخصياً من نظافة كفه وبراءته من ارتكاب أي جريمة يعاقب عليها القانون. منظر حرج الصنوبر وعبق رائحته ونسمات الهواء التي كانت تهب من حين لآخر، خففت من وطأة الإنتظار الذي استمر زهاء ساعتين. لحظات، وتصل سيارة "لاند روفر" تحمل لوحة لمجلس النواب اللبناني في داخلها الوزير السابق والنائب الحالي الدكتور نديم سالم، نخبره عن منعنا من دخول جزين فيعد بإجراء اتصالات والعودة إلينا في أقرب وقت، وهو أمر حصل فعلاً إذ عاد برفقة إدمون رزق الذي شرح لنا ما يجري من تطورات داخل المدينة ومحيطها، خصوصاً لجهة مصير المتعاملين مع "جيش لبنانالجنوبي" من سكان جزين والقرى المجاورة والاتصالات الجارية لضمان اجراء محاكمة عادلة لهم على يد السلطات الشرعية، وليس اي جهة اخرى. الوصول الى جزين، صباح اليوم الذي تحررت فيه بلدة روم و23 قرية اخرى لم يكن كاليوم الذي سبقه من الانسحاب. اذ ان عناصر "جيش لبنانالجنوبي" ومقاتلي "القوات اللبنانية" الذين قدموا من بيروت ويشرف على قيادتهم ضابط يلقب ب"الطحشة" أقل توتراً، وإن كانت الاجراءات الأمنية التي طبقوها على وسائل الإعلام لم تتجاوز أكثر من تسجيل الأسماء عند الدخول، ومنع التقاط صور للمواقع العسكرية والآليات التي تعبر المنطقة. أحد عناصر حاجز السيدة في العشرينات تولى تسجيل أسماء الداخلين الى المدينة، بعد أن قال "إن تعهداً من إدمون رزق هو وراء السماح للصحافة بدخول المدينة". رفض الشاب ذكر إسمه، لكن قال إنه من رجال الأمن في "جيش لبنانالجنوبي" وأنه يخشى البقاء مع العشرات من رفاقه الذين قرروا البقاء في المدينة وتسليم أنفسهم للسلطات الشرعية. عند مفترق بلدة صبّاح على الطريق المؤدية الى ضهر الرملة، انهمك عناصر دورية راجلة ل"جيش لبنانالجنوبي" مدججة بالأسلحة في التأكد من عدم وجود عبوات ناسفة على جانبي الطريق. بينما كان 15 عاملاً آسيوياً برفقة جنود "الجنوبي" يشاركون في عمليات الإخلاء. مسافة قصيرة ويتوقف موكبنا أمام دورية أخرى راح عناصرها يدققون في هوياتنا. كان "الطحشة" على رأس المجموعة، وتردد أنه هو الذي تسلم قيادة الفوج العشرين بعد إصابة قائده في عملية نفذتها المقاومة في منطقة جزين قبل بضعة أسابيع. نسير مسافة قصيرة لنفاجأ عند مفترق يؤدي الى بلدة جباع في إقليم التفاح بدورية أخرى، يشير أفرادها الجالسون خلف رشاشاتهم بمتابعة سيرنا. أحد عناصر الحاجز، لم يتردد في القول إنه من أتباع "الباش" في إشارة الى الرئيس بشير الجميل الذي تولى قيادة "القوات اللبنانية" وقتل إثر انتخابه رئيساً العام 1982 في انفجار كبير استهدف أحد مقرات حزب الكتائب في بيروت. في منطقة المعبور عند مدخل جزين، قال أحد سكان البلدة "كما ترى معظم عناصر "جيش لبنانالجنوبي" من سكان البلدة التزموا بيوتهم وقرروا البقاء، أما الباقون ومعظمهم من خارج البلدة أو من سكان بيروت، فليس أمامهم غير الرحيل". ويضيف: "نأسف لضياع مستقبلهم، معظمهم بات لا يعرف ما يريد من هذه الحياة. ولذلك تحول قسم منه الى احتساء الكحول وادمان المخدرات للهروب من الواقع الذي وصلوا إليه، بعدما تركوا منازلهم في بيروت وكسروان، وهم مهددون بترك منازلهم في الشريط المحتل متى استكملت القوات الاسرائيلية انسحابها من جنوبلبنان". اللافتة العريضة عند مدخل جزين والتي كتب عليها "جزين عروس الشلال ترحب بكم" لا تخفي في شوارعها حركة كثيفة. فساحة القصر البلدي الذي جرى ترميمه حديثاً خالية، والدكاكين حولها والمقاهي المطلة على الشلال مقفرة. منزل إدمون رزق تحول الى مركز لاستقبال الصحافيين والمنسحبين من "جيش لبنانالجنوبي" في آن معاً. عمال من مؤسسة كهرباء لبنان، يقومون بإصلاح أعطال في الشارع المزروع بأشجار السرو. وعلى مسافة غير بعيدة من "فندق جزين" الى الشمال تقع ثكنة جزين التي تحيط بها البراميل والأكياس المعبأة بالرمل. عبر حي مار يوسف والشخاريب تبدو مطلات جزين الرائعة على سهل البقاع وسرعة العبور منها الى بقية المناطق اللبنانية. فالطريق على حد قول أحد أبناء جزين عبر مدينته هي الأقرب بين دمشق والبحر المتوسط من مدينة صيدا عبر مشغرة. فعندما جاء الفرنسيون في مطلع القرن التاسع عشر عرضوا انشاء مرفأ في مدينة صيدا باعتبارها أقرب مدينة ساحلية في المنطقة الى العاصمة السورية، لكن رفض أهل صيدا خشية تحول مدينتهم الى موطئ قدم للأجنبي ولمباذله، والذي اعتبر لاحقاً بخطأ تاريخي، لم يكن بالإمكان تسويته فيما بعد. رجل مسنّ كان يسير مستنداً على عكازه قال إن أهل جزين تقتلهم الهواجس والوساوس إذ إنهم معرضون لخسارة هويتهم اللبنانية، أو تهميشهم بين أصناف اللبنانيين فلا يكونون مواطنين من الدرجة الأولى إذا استمر الإحتلال في سلخ بلدته لفترة أطول. مدرِّسة جزينية قالت إنها كانت تعرف "حجم اهتمام العالم الخارجي ببلدتها، صحيح أن مبادرات كثيرة حصلت للتخفيف من معاناتنا وفي مقدمتها تعيين البابا يوحنا بولس الثاني مبعوثاً خاصاً له، وحرص الدولة على استمرار بقاء مئات من جنودها وضباطها داخل ثكنتهم في جزين على رغم تعطيل فعاليتهم ودورهم من قبل "قوات لحد" وبأوامر من اسرائيل. وتستطرد قائلة "لكن كل ذلك لم ينجح في مداواة الجرح الجزيني المملوء بالمرارة والإستغراب لاقتطاعه عن قلب لبنان". صاحب محل سوبر ماركت تمنى اليوم الذي تستعيد فيه بلدته جزين الدور الذي كانت تلعبه كمركز للاصطياف يأتي إليها المصطافون العرب من مصر وسورية وفلسطين لقضاء إجازاتهم. وأضاف "إن لبنان كادت تختصره في وقت من الأوقات قطعة من خشب الأرز وطقم سكاكين وملاعق جزينية الصنع". ولعل ما يميز جزين والقرى المحيطة بها البيوت المسقوفة بالقرميد والقصور التي سجلت ولادة زعامة أصحابها، مثل قصر الدكتور فريد سرحال نائب جزين السابق الذي أنفق أموالاً طائلة وأعطى الكثير من الوقت لتشييده، وقصر إدمون رزق الذي يعمل بحماسة مع آخرين لضمان عودة بلدته الى السلطة الشرعية بأقل الخسائر. كانت جزين معروفة سياسياً بأنها تتأرجح بين حزبين، حزب آل كنعان، ومن فروعه عبر الخؤولة آل سرحال وحزب عازار الذي ضم تاريخياً آل كرم وجان عزيز والمعوشي. أما إدمون رزق، فينتمي عبر الخؤولة الى آل ناصيف العائلة الأقدم تاريخياً في المدينة. لكن جزين الحالية، مختلفة عن تلك التقسيمات التي غيرتها التطورات وقسوة الظروف على الجميع من دون استثناء، فحزبيات الماضي تخطاها الزمن، وإن كانت جذور الأشجار العائلية تسير أحياناً بعيداً تحت الأرض لتنبت هنا وهناك. وتعكس حركة الوفود الجزينية المختلفة الى الهيئات والمراجع المختلفة صورة عن هذا الواقع، إذ أن الاتصالات حرصت على الحصول على ضمانات بأن لا يكون لغير الشرعية موطئ قدم في المنطقة التي انسحبت منها قوات "جيش لبنانالجنوبي". ويقول مختار بلدة روم جرجي حداد أبو عجاج إن عودة بلدته الى كنف الشرعية واستراحتها من كابوس الإحتلال وعملائه شيء يبعث على البهجة في نفوس المواطنين الذين كانوا يخشون على حياتهم. كانت الآثار المتروكة في الموقع المحصّن وراء منزل أبو عجاج، تدل على السرعة التي ترك فيها جنود لحد موقعهم. ملابس عسكرية، وأوراق خاصة، وذخائر رصاص مرمية في أرجاء المكان وكتابات على الجدران. الأعلام اللبنانية التي زينت ساحة بلدة روم وغيرها من البلدات المجاورة زيّنت أيضاً ساحة جزين وبلدات أخرى بعدما فتحت الطرقات أمام الصحافيين إثر انسحاب آخر عنصر من "جيش لبنانالجنوبي". إلا أن السؤال المطروح الآن بعد الإنسحاب من منطقة جزين هو هل ستتبع ذلك انسحابات أخرى سواء تنفيذا لوعود باراك، أم بفعل ضربات المقاومة التي لم تتوقف عن تذكير المحتل بأن لا بديل عن الرحيل، خصوصاً أن الجزيني يرفض الإعتراف بأن هناك شرعية غير شرعية العلم اللبناني والدولة اللبنانية وقوانينها، ولو انه كان مضطراً حتى الأمس القريب لممارسة كل شيء في حياته على أساس آخر مختلف