في خطوة غير معهودة، وافق الأعضاء التسعة في لجنة خاصة تمثل الحزبين الديموقراطي والجمهوري في مجلس النواب الأميركي، بالاجماع، على تقرير من 872 صفحة يؤكد ان الجاسوسية الصينية حصلت فعلاً على تفاصيل التكنولوجيا الأميركية الخاصة بالرؤوس الحربية النووية الحرارية الأميركية السبعة الأساسية، وتفاصيل تكنولوجيا رؤوس النيوترون الحربية. وتشتمل الأسرار "المسروقة" على تكنولوجيا رؤوس ترايدانت الحربية دبليو88 ودي5 المستخدمة في الصواريخ التي تطلقها الغواصات البحرية الأميركية التي تشكل خط الدفاع النووي الأميركي الأول، إضافة إلى رأسين حربيين آخرين. ودفعت الفضيحة ثمانين جمهورياً من أعضاء الكونغرس إلى توجيه رسالة عاجلة إلى الرئيس كلينتون يطالبونه فيها بإقالة صموئيل بيرغر مستشار الأمن القومي وجانيت رينو التي تشغل منصب النائب العام، لأنهما رفضا السماح لعملاء مكتب التحقيقات الفيديرالي إف. بي. آي بالتنصت على أحاديث الدكتور لي وين هو ومكالماته الهاتفية، بعدما ارتاب العملاء في أنه يعمل لحساب الصين. والدكتور لي أميركي من أصل تايواني ومن كبار العلماء العاملين في مركز المختبرات الوطنية في لوس ألاموس في ولاية نيومكسيكو. وتنطوي هذه الفضيحة التي بدأت في عهد الرئيس ريغان واستمرت في عهد خلفه جورج بوش وخلال فترتي رئاسة كلينتون على عدد من الجوانب الغريبة، منها: - لم يسبق للدكتور لي وين هو أن تعرض لأي مضايقة أو اعتقال، ولم يسبق أن وجهت له السلطات أي تهمة على الاطلاق. - يقول تقرير مجلس النواب إن اكتشاف "السرقات" الصينية يعود إلى العام 1995، وان الذي كشف أمر تلك "السرقات" آنذاك كان ضابطاً في الاستخبارات الصينية عرض خدماته على وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي. آي. ايه، لكنه عاد بعد ذلك إلى عمله في الاستخبارات الصينية بعدما تبين أن رؤساءه الصينيين هم الذين أصدروا إليه التعليمات بالاتصال بال"سي. آي. ايه". - يقول اثنان من المدراء السابقين لبرنامج تطوير الأسلحة النووية الأميركية إن معظم المعلومات التي حصلت عليها الصين لم تكن سرية أو مكتوبة. وقال دونالد غريغ المدير السابق لمكتب مكافحة التجسس الصيني والكوري الشمالي في ال"سي. آي. ايه" ل"الوسط": "من خلال خبرتي الطويلة في التجسس على أبحاث وبرامج الأسلحة النووية في كل من الصين وكوريا الشمالية، لا بد لي من أن اعترف بأنني لا استطيع فهم الطريقة التي تم بها تقديم تقرير الكونغرس وما رافقه من ضجة. فنحن نعرف منذ مدة طويلة ان برامج تطوير الأسلحة النووية في الصين متقدمة مثل برامجنا، كما اننا نعرف جيداً ان الصينيين تمكنوا من الحصول على التكنولوجيا الأميركية والسوفياتية بطرق ووسائل مختلفة من بينها عمليات التجسس والنشاط الاستخباري. وأنا واثق من أنهم استطاعوا أيضاً الحصول على "أسرارنا" من دول أخرى أطلعناها نحن على تلك الأسرار مثل إسرائيل. ولهذا فإن الخطر الذي تمثله الصين على السلام العالمي لن يتعاظم أو ينحسر لمجرد حصولها على تلك التكنولوجيا، وإنما يكمن ذلك الخطر في احتمال نقل الصين هذه التكنولوجيا إلى باكستان أو ربما إيران. وفي اعتقادي ان الصين تريد منا أن نشتبه في الدكتور لي، لأنه ربما تجسس أيضاً على الصين. وربما كان لدى الصين هدف آخر وهو زراعة الشك في نفوس الطلاب الصينيين الذين يدرسون في الولاياتالمتحدة وبالتالي اقناعهم بالعودة إلى بلادهم بدلاً من البقاء في أميركا. ولعل أفضل وسيلة لاقناعهم بالعودة إلى الصين هي تلك الموجة من الهستيريا المعادية للصينيين مثلما نرى الآن في وسائل الاعلام الأميركية بسبب هذه الفضيحة". أما الناطق بلسان جانيت رينو فقال في معرض رده على سؤال ل"الوسط" إن الوزيرة "رفضت السماح لمكتب التحقيقات الفيديرالي بالتنصت على مكالمات الدكتور لي الهاتفية لأن الأدلة التي قدمها المكتب لم تكن كافية أو مقنعة"، مع أن المكتب طلب منها الترخيص له بمراقبة مكالماته الهاتفية ثلاث مرات. ويقول جون فوستر الذي تولى رئاسة مختبر "لورانس ليفرمور" النووي بين عامي 1952 و1965، أي خلال سنوات انتاج قنبلة النيوترون: "إن في وسع علماء الفيزياء والخبراء الآخرين في مختلف أنحاء العالم أن يحصلوا على الغالبية الساحقة من المعلومات التي وردت في تقرير الكونغرس بكل سهولة". وأضاف ان الحصول على تلك المعلومات "ينطبق أيضاً على قنبلة النيوترون وعلى الرؤوس الحربية دبليو87 المستخدمة في صواريخ "إم إكس" البالستية عابرة القارات، وهي أقوى الرؤوس الحربية التي عرفها العالم حتى اليوم". كذلك صرح ل"الوسط" هارولد اغنيو الذي رافق الطائرات الأميركية في غارتها الذرية على مدينة هيروشيما العام 1945 لالتقاط صور الدمار آنذاك، والذي كان أيضاً رئيساً لمركز المختبرات الوطني في لوس ألاموس بين عامي 1970 و1979: "لا أريد الادعاء أن اجراءات الأمن في لوس ألاموس مثالية أو محكمة مئة في المئة، ولهذا فمن المحتمل ان يكون الصينيون قد حصلوا على بعض المعلومات عن طريق التجسس، إلا أن ما حصلوا عليه من معلومات لم يساعدهم، في رأيي، على أكثر من تسريع برنامجهم مدة عام أو عامين فقط. وأنا اتفق مع دونالد غريغ في رأيه وهو ان الصينيين أرادوا ان يثيروا ارتيابنا وشبهاتنا في الدكتور لي لمعاقبته على تجسسه عليهم أصلاً". في هذه الأثناء نفى يو تشو ننغ القنصل العام في السفارة الأميركية في واشنطن ادعاءات تقرير الكونغرس بأن جميع الطلاب الجامعيين الصينيين في أميركا يجمعون المعلومات لحكومتهم. وقد ربط البعض في العاصمة الأميركية بين هذه "الفضيحة الأمنية" وبين قصف طائرات حلف شمال الأطلسي ناتو السفارة الصينية في بلغراد في الشهر الماضي. ولهذا يرى المعلقون ان الأيام المقبلة ستشهد انحسار الاهتمام بفضيحة "التجسس الصيني". ومما سيساعد على ذلك الانحسار أيضاً المصالح والاستثمارات الأميركية الضخمة في الصين. إذ أن هذه المصالح طالما دفعت واشنطن إلى غض الطرف عن كثير من جوانب السياسة الصينية الداخلية والخارجية.