عندما اجتمع العاهل المغربي الملك الحسن الثاني قبل فترة مع أعضاء لجنة تضم ممثلي الأحزاب والنقابات مكلفة مراجعة نظام التعليم في المغرب، تركزت كاميرا التلفزيون على عبدالإله بن كيران ممثل حزب العدالة والتنمية الأصولي المعتدل في اللجنة والرجل الثاني في الحزب. كان بن كيران وقتها يخوض انتخابات فرعية في مدينة سلا المجاورة للرباط ضد جمال أغماني أحد القيادات الشابة في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يقوده عبدالرحمن اليوسفي رئيس الحكومة. ويعتبر دخول بن كيران الى القصر الملكي في مراكش حدثاً استثنائياً بجميع المقاييس. ففي العام 1982 كان بن كيران ورفاقه الذين انفصلوا عن عبدالكريم مطيع زعيم "منظمة الشبيبة الاسلامية" المحظورة رهن الاعتقال، وكانت أية علاقة معهم تقود حتماً الى السجن أو الى التحقيق لدى الأجهزة الأمنية. إلا أن مشهد القصر الملكي واللقطة التي ركز عليها مصور التلفزيون الحكومي أظهرا ان مياهاً دافقة مرت من تحت جسور السياسة المغربية، وجرفت الكثير من الطمي والأوحال وحالات الاحتقان. لقد تغير المغرب كثيراً. وذهب مراقبون الى حد توقع ان تلك اللقطة أكدت أن بن كيران سيفوز بالمقعد النيابي على رغم ان أحزاب الكتلة الديموقراطية التي تشكل عماد حكومة اليوسفي اتحدت ضده في مساندة الشاب جمال أغماني الذي سبق له ان فاز بالمقعد، الى أن ألغيت نتيجة الدائرة بقرار من المحكمة الدستورية العليا بعد طعن تقدم به أحد المرشحين الخاسرين. وبالفعل فاز بن كيران، وهو سياسي لامع وبراغماتي ذكي ولماح يعرف جيداً اتجاه الرياح، وسيجلس الى جانب تسعة أعضاء من حزبه داخل قبة البرلمان، وستحتاج هذه المجموعة الأصولية المعتدلة الى مقعدين اضافيين لا يستبعد أن تحصل عليهما عبر الانتخابات الجزئية أو بانضمام نائبين من أحزاب أخرى اليها. لكن بن كيران لم يفز فقط بأصوات حزبه في الانتخابات بل صوّت لمصلحته كذلك مناصرو جماعة العدل والاحسان التي يتزعمها عبدالسلام ياسين، وهي الجماعة الأصولية المحظورة الأكثر شعبية في المغرب. قبل عملية الاقتراع زار بن كيران برفقة الدكتور عبدالكريم الخطيب زعيم الحزب الشيخ عبدالسلام ياسين في منزله في مدينة سلا المجاورة للرباط حيث يوجد رهن الاقامة الاجبارية. وطبقاً لمصادر مطلعة حصل بن كيران على دعم من ياسين، لكن الرجلين لم يحصلا على وعد بوقف المشاحنات بين فصيل الحزب الطلابي وأنصار ياسين داخل الجامعة. في شهر شباط فبراير الماضي قام طلاب "جماعة العدل والاحسان" باستعراض قوة داخل الجامعة المغربية مكَّنهم من السيطرة على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، بعدما ظلت هذه المنظمة حكراً على الفصائل اليسارية طويلاً. ونظراً الى ضعف وجود "الجماعة" داخل منظمات المجتمع المدني فإن اهتمامها تحول منذ فترة نحو الجامعة لاستقطاب الطلاب حتى يتسنى لها التغلغل لاحقاً في منظمات المجتمع المدني. لكن أمر الجامعة لم يكن سهلاً في ظل نفوذ راسخ للفصائل اليسارية. واختارت "الجماعة" التركيز على جامعات الدار البيضاءوفاسووجدة والجديدة والمحمدية والقنيطرة. وفي العام 1989 بدأت عملية استقطاب نشطة في الجامعة تركزت وسط الطلاب الجدد والطالبات وذلك عن طريق حل مشاكلهم الاجتماعية ومساعدتهم في الاستقرار والتفرغ للدروس. وبالنسبة الى الطالبات خصوصاً، فبمجرد أن تتم عملية الاستقطاب يطلب من الطالبة أن لا تتحاور مع الفصائل الأخرى إلا بواسطة أحد أعضاء "الجماعة". وفي العام 1991 شهدت جامعتا فاسووجدة اصطدامات عنيفة بين الطلاب الاسلاميين والطلاب اليساريين بقيادة فصيل يعرف باسم "القاعديين"، أدت الى جرح عشرات الطلاب. وكانت الجامعة آنذاك تخضع لسيطرة الطلاب الاتحاديين الموالين للاتحاد الاشتراكي وأنصار حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي وهو حزب انشق في أيار مايو العام 1983 عن الاتحاد الاشتراكي اضافة الى الطلاب "القاعديين" وكان الاسلاميون يتوزعون ما بين طلاب "جماعة العدل والاحسان" وفصيل "الوحدة والتواصل" الموالي آنذاك لحركة "الاصلاح والتجديد" التي ستتحول الى "حركة الاصلاح والتوحيد" لتذوب بعد ذلك في حزب "العدالة والتنمية". ومن أبرز أحداث تلك الفترة قيام مجموعة من طلاب "العدل والاحسان" ب"محاكمة" أحد الطلاب "القاعديين" والحكم عليه بالاعدام ثم التمثيل بجثته. وإثر تلك الحادثة تم اعتقال 12 طالباً من طلاب "العدل والاحسان" حوكموا أمام محكمة جنائية أصدرت أحكاماً بسجنهم لمدة 20 عاماً بيد أن الاسلاميين ينفون واقعة المحاكمة والاعدام ويقولون ان مجموعة يسارية هي التي قامت باغتيال الطالب المشار اليه خشية ان يكشف مخطط الطلاب اليساريين للحد من نفوذ الاسلاميين المتنامي داخل الجامعة. وكانت هذه المجموعة التي حكم عليها بالسجن هي المجموعة التي استثنيت من طلب تقدم به المجلس الاستشاري لحقوق الانسان بالعفو عن جميع المعتقلين السياسيين في المغرب بعدما وعد العاهل المغربي بطي ملف الاعتقال السياسي وللأبد. وعلى رغم الجو المتوتر الذي عرفته الجامعة المغربية آنذاك فإن "جماعة العدل والاحسان" استطاعت ان تجد لها موطئ قدم. وفي هذا الصدد يقول حسن بناجح الأمين العام للجنة التنسيق الوطني التي شكلتها غالبية كاسحة من طلاب "العدل والاحسان" لقيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب: "الفصائل المسماة تاريخية في اشارة الى الطلاب اليساريين رفضتنا في الساحة منذ الأيام الأولى لظهورنا، وقد لاقينا منهم صنوف التنكيل والاضطهاد لمجرد أن نتناول كلمة... وما زالت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات شاهدة على ذلك... لكن، لا يمكن أن نتبخر". حالياً بات مناصرون أو متعاطفون مع "جماعة العدل والاحسان" يسيطرون على معظم الكليات، وعلى ضوء ذلك نظموا ندوة في شباط فبراير الماضي أدت الى تشكيل لجنة التنسيق الوطنية التي ستقود اتحاد الطلبة. بيد أن باقي الفصائل الطلابية الأخرى تقول إن ما حدث هو عبارة عن "عملية سطو" على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وطبقاً لمصادر مستقلة فإن الوجود الكثيف لطلاب "العدل والاحسان" يتركز حالياً في كليات الدار البيضاء والمحمدية والجديدة ويوجد لهم وجود أقل في كل من أكاديروفاسووجدة ومكناس، في حين تظل الكليات الجامعية في الرباط بعيدة نسبياً عن الاستقطاب وخامدة سياسياً. بدا عبدالسلام ياسين الذي كان في الأصل من أطر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاتحاد الاشتراكي لاحقاً نشاطه السياسي من جنوب المغرب وسط رجال التعليم، إذ انه كان في الأصل مفتشاً للتعليم في أواخر السبعينات، وكتب في تلك الفترة كتيبا بعنوان "الاسلام أو الطوفان" كان عبارة عن رسالة انتقادية حادة للنظام اعتقل على اثرها مع مجموعة من أنصاره. وفي العام 1979 وحتى العام 1983 أصدر ياسين اسبوعية "الجماعة" وصدر منها 18 عدداً وكانت تسحب في حدود 3000 نسخة. ثم دخل ياسين السجن مجدداً وبعد الافراج عنه اصدر عدداً واحداً من صحيفتين هما "الصبح" و"الخطاب" وكان ذلك العام 1987. وتصدر "الجماعة" حالياً اسبوعية في حجم تابلويد بعنوان "رسالة الفتوة". وبسبب نشاطه السياسي ظل ياسين قيد الاقامة الاجبارية منذ كانون الأول ديسمبر 1989 في منزله في مدينة سلا التي تعد المعقل الرئيسي لجماعة "العدل والاحسان" وافرج عنه في عام 1995 لكنه أعيد الى الاقامة الاجبارية في منزله بعد ثلاثة أيام بعدما اتهمته السلطات بتأليب المصلين في مسجد مجاور لمنزله في حي السلام في سلا. واعتمدت "جماعة العدل والاحسان" على أسلوب تنظيمي دقيق ومتكتم يركز في الدرجة الأولى على التغلغل البطيء في الأحياء الشعبية مع التركيز على الجوانب الاجتماعية ومساعدة الطبقات الفقيرة. وفي هذا الاطار يتولى مسؤول "الجماعة" في كل حي من الأحياء المأهولة، ويطلق عليه اسم "النقيب" الاشراف على شبكة عنقودية يتوزع أعضاؤها على مختلف النشاطات الاجتماعية، فهناك الذين يتكلفون بتقديم مساعدات للأسر المعوزة بشتى الطرق، فإذا كانت هناك أرملة تعيل أطفالاً تقدم لها المساعدة من أجل ايجاد عمل وإذا تعذر ذلك يقدم لها مبلغ صغير من المال لتشتري به ماكينة خياطة على سبيل المثال لتنفق من دخلها على أطفالها. وهناك فئة أخرى من أعضاء "الجماعة" تتولى رعاية المرضى ومساعدتهم في البحث عن طبيب وتدبير مصاريف الدواء وتلقي العلاج. وفئة ثالثة تتولى غسل ودفن الموتى، وهكذا تنشأ بين أفراد "الجماعة" وأهل الحي علاقات انسانية واجتماعية. وركزت "الجماعة" في بداية انتشارها على المسجد كمكان مثالي للاستقطاب، بيد أن تحويل المساجد للدعوة الى قضايا سياسية نبه السلطات الى ضرورة مراقبة المساجد، وفي نيسان ابريل 1985، أعفي الهاشمي الفيلالي الذي ينتمي لحزب "الاستقلال" من منصبه كوزير للأوقاف والشؤون الاسلامية عندما عارض وضع المساجد تحت رقابة وزارة الداخلية، ومنذ تلك الفترة أضحت المساجد لا تفتح إلا في وقت الصلاة وتغلق بعد أداء الصلاة. وعقب تلك الفترة ركزت "جماعة العدل والاحسان" على الأحياء الشعبية وجعلت من المناسبات الاجتماعية فرصة سانحة للتواصل مع السكان واستقطاب مؤيدين، خصوصاً في صفوف النساء. وفي المناسبات السياسية تعتمد "الجماعة" تكتيك الانزال، فإذا كانت هناك مسيرة أو تظاهرة يتم تجنيد أعضاء "الجماعة" في جميع أنحاء المغرب للمشاركة، وكانت بداية هذا الاسلوب أثناء المسيرة التي نظمتها الأحزاب السياسية المغربية في شباط فبراير عام 1991 تأييداً للعراق. وإذا كانت "العدل والاحسان" قد وجدت لها أنصاراً في الجامعة والأحياء الشعبية في بعض المدن خصوصاً أحياء الدار البيضاء فالملاحظ ان دائرة انتشارها تتقلص في المدن الكبرى الأخرى وتقتصر على بعض المدن الصغيرة في شمال المغرب وجنوبه لكنها لا تشكل قوة جماهيرية ضاربة وهذا الوجود يكاد ينعدم تماماً في البادية والأرياف. وعلى رغم التشدد التنظيمي والأسلوب الحديدي الذي تدار به الأمور داخل "الجماعة" فإنها لم تسلم من الانقسام، وهو أمر لا تقبل قيادة التنظيم التي تتكون من 12 عضواً يطلق عليهم أعضاء "مجلس الإرشاد" بمثابة مكتب سياسي الحديث عنه. وفي هذا السياق كان قد انشق عن "الجماعة" محمد البشيري أحد مؤسسيها وعضو "مجلس الإرشاد" الذي وزع في البداية شريطاً مسجلاً تم تداوله على نطاق واسع وهو ما يدلل ربما على حدة الانقسام. وفي أعقاب ذلك أدلى البشيري بتصريحات انتقد فيها بشدة وبطريقة مباشرة عبدالسلام ياسين وقال انه تحول الى ما يشبه شيوخ الطرق الصوفية لا يسمح لأحد بمناقشة أفكاره، وان كل من يخالف تلك الأفكار يتعرض للتهميش. وتطرق البشيري الى أمر حساس عندما قال ان لا أحد يعرف كيف تجمع أموال "الجماعة" ولا كيف تنفق. وحول هذه المسألة يقول أحد قادة "الجماعة" ان "كلمة أموال خادعة، فمواردنا محدودة وهي تجمع من تبرعات الاعضاء ومن ريع المبيعات المباشرة لمؤلفات عبدالسلام ياسين التي تباع للأعضاء بأعلى من سعرها الحقيقي لضمان مداخيل كافية". ويذكر من أبرز مؤلفات ياسين كتب المنهاج، والاسلام أو الطوفان، الاسلام غداً، والاسلام والقومية والعلمانية، وحوار مع الفضلاء الديموقراطيين، وأخيراً صدر له كتاب بالفرنسية بعنوان أسلمة الحداثة. تبقى مسألة علاقة حكومة اليوسفي ب"جماعة العدل والاحسان"، وفي هذا الصدد يقول وزراء نافذون ان اتصالات أجريت وتجرى مع عبدالسلام ياسين من أجل التمهيد لمنح مجموعته شرعية سياسية، لكن أعضاء في "مجلس الارشاد" ينفون ذلك، في حين عبر أكثر من مسؤول حكومي عن عزم الحكومة على طي ملف الاقامة الاجبارية المفروضة على ياسين. وفي هذا الصدد تقول مصادر رسمية انه "لا يوجد حظر على ياسين للقاء اي شخص وهو يجتمع بانتظام مع أعضاء مجلس الارشاد أي قيادة التنظيم كما يستقبل شخصيات أخرى، لكنه يرفض اللقاء مع الصحافيين حتى لا يعطي انطباعاً بأن حريته ليست مقيدة، وهذا خياره هو ولا علاقة للسلطات الأمنية بهذا الاختيار" الوزير الحليمي يتوقع تسوية وضع الشيخ ياسين ألمح السيد احمد الحليمي وزير الشؤون العامة في الحكومة المغربية إلى قرب تسوية وضع الشيخ عبد السلام ياسين وقال أن الأمر الآن بيد الملك الحسن الثاني. وسألته "الوسط" إذا كان يعتقد بأن ظاهرة الاصولية أصبحت تزعج بلدا كالمغرب، فأجاب: "لا أعتقد، الأصولية كانت لها تعابير مختلفة طوال تاريخ المغرب والآن هناك تجليات من هذا النوع، أعتقد بأن ما يضخم الحديث حولها هو ما يجري خارج المغرب، أما حجمها المغربي وثقافتها المغربية تبقى مستمدة من العقيدة التي يؤمن بها الشعب المغربي قاطبة. هناك بعض المواقف تساعد على حدتها في بعض الأحيان مثل الظروف الاجتماعية الصعبة". وقال الحليمي ان الاتصالات مستمرة مع الشيخ ياسين، ومن جهات مختلفة، منها ما هو رسمي وما هو شبه رسمي، والمفروض هو أن يأخذ الشيخ ياسين موقعه كرجل دين له إشعاعه الديني وأن تنتهي كل الشروط التي جعلت السلطات تعتقد بأن وجوده في منزله وفي حماية السلطة بهذا الشكل هو أضمن لسلام الأمة. وأشار الى أن العاهل المغربي "ليس له اعتراض على رفع الإقامة الإجبارية التي تعتقد السلطات الأمنية أنها أحسن صيغة حتى الآن وتعتبرها ضرورية لحماية الرجل"، معتبراً أن "السلوك الذي سلكه ياسين أثناء خروجه من الإقامة ونوعية نشاطه اعتبرت السلطات الأمنية ان من شانها أن تحدث اصطداما". وهذا ما حدث وكنا آنذاك خارج الحكومة. وعلى حد علمي أن الامور الآن بيد السلطات العليا. وعندما سألناه إذا كان القرار قريباً، أجاب: "نتمنى ذلك".