في أحد مخيمات اللاجئين الكوسوفيين القريبة من الحدود الألبانية - الصربية، كان وزير الدفاع الألباني حيدر علوان آغا يستعد لمغادرة خيمة أسرة ألبانية الأصل من سكان اقليم كوسوفو، حين سارع رب الأسرة من سكان بلدة بريزيرن لسؤال الوزير الألباني عما اذا كانت اقامة النازحين الألبان ستطول في الخارج وبالتالي يقضون فصل الشتاء المقبل في اوضاع مزرية، ورد الوزير بالقول: "نأمل مع حلول شهر تموز يوليو المقبل ان تكون القضية حسمت بشكل نهائي، لكن العودة قد تستغرق وقتاً أطول خصوصا ان معظم المدن والقرى مدمرة وبالتالي لا بد من فترة من الوقت لإعمارها قبل عودتكم" ورد النازح الألباني: "نفضل ان ننام في العراء أو على انقاض بيوتنا المدمرة على ان نستعطي لقمة الأكل". وقال وزير الدفاع الألباني ل"الوسط" اثناء تفقده مخيماً للاجئين ومطاراً أشرفت على بنائه دولة الامارات العربية المتحدة، قبل ان ينتقل الى معبر موريني على الحدود الصربية - الألبانية، إن حكومة بلاده قدمت كل ما في وسعها سواء للاجئين او لقوات حلف شمال الاطلسي من اجل ان يعود هؤلاء الى بلدهم وأرضهم". لكن الوزير تجاهل الارتباك الذي تعيشه تيرانا منذ وصول زعيم ألبان كوسوفو المعتدل ابراهيم روغوفا الى روما، واضعاً بذلك حداً للتكهنات والتساؤلات حول وضعه وما اذا كان يخضع لإقامة جبرية في منزله في بريشتينا ام لا. فالزعيم الألباني المعتدل على عكس أقرانه من السياسيين الكوسوفيين الذين يعملون في جيش تحرير كوسوفو، لا يؤمن بالعمل العسكري لحل أزمة الاقليم ويعتبر ان الحوار مع حكومة بلغراد أمر لا بد منه، وان كان يدعو الى عودة اللاجئين الى قراهم بحماية دولية. ولعل مفاجأة الحكومة الألبانية الأكبر، كانت بحجم الاهتمام الذي حظي به روغوفا، سواء من قبل البابا يوحنا بولس الثاني او من قادة العواصم الغربية، ابتداء بالرئيس الايطالي الذي استقبله ومروراً بالمستشار الألماني غيرهارد شرويدر الذي ترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، أو حتى الرئيس الاميركي بيل كلينتون الذي يستعد لاستقباله الاسبوع المقبل، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الألباني باسكال ميلو للتوجه الى روما للاجتماع بروغوفا ودعوته الى زيارة تيرانا للتشاور حول كل ما من شأنه ان يؤدي الى توحيد الكوسوفيين، لا سيما ان تيرانا راهنت بشكل أساسي خلال الأسابيع الماضية على دور جيش تحرير كوسوفو وزعيمه عثمان ثاتشي الذي اتهم روغوفا مع انصاره بأنه لعبة بيد الصرب، الذين استخدموه في حملتهم الدعائية واستقبله الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش اكثر من مرة في مقره الرئاسي وأطلق تصريحات معتدلة دعت الى حل النزاع بالطرق السلمية. ويقول زعيم الديبلوماسية الألبانية ان روغوفا اكد له انه لم يطلق كلمة رغماً عنه اثناء وجوده في بلغراد او في مسقط رأسه في بريشتينا، وانه اضطر لترك منزله لأن كل اصدقائه ومساعديه وأنصاره لجأوا الى الدول المجاورة بسبب الممارسات الصربية. وقال وزير الخارجية الألباني ل"الوسط" إن عاصمة بلاده لا بد ان تتحول مركزاً تلتقي فيه كل القيادات الكوسوفية بعدما تعذر على بريشتينا استضافة لقاءات من هذا النوع. وأشار الى انه وجه الدعوات الى زعماء التيارات السياسية الكوسوفية، خصوصاً في بون وروما وسكوبيا بهدف الالتقاء والاطلاع على اوضاع لاجئيهم في البلد الذي لم يشهد ازمة بهذا السوء منذ استقلاله عن الامبراطورية العثمانية العام 1912. وما تسعى اليه الديبلوماسية الألبانية هو ضمان اتفاق القوى الكوسوفية على حكومة وحدة وطنية تكون جاهزة للاشراف على ادارة الاقليم، متى نجح حلف شمال الاطلسي في تحقيق اهدافه سواء عبر الديبلوماسية التي لا تزال نشطة على اكثر من صعيد، او من خلال العمليات العسكرية التي لم تتوقف منذ سبعة اسابيع، وهي مرشحة للتصعيد، خصوصاً اذا تبين ان وساطة موسكو لن تؤت أكلها قريباً. ويرفض جيش تحرير كوسوفو عبر ممثليه في ألبانيا فكرة تشكيل حكومة جديدة. ويقول هؤلاء إن على روغوفا القبول بالمقاعد التي خصصتها له حكومة عثمان ثاتشي الزعيم السياسي لجيش تحرير كوسوفو رئيس الحكومة الحالية التي أيد اتفاق رامبوييه تشكيلها. وقال احد هؤلاء: "ان طلب الرابطة الديموقراطية الكوسوفية التي يتزعمها روغوفا في هذا الشأن لا توافق عليه ثلاثة تنظيمات كوسوفية شاركت في مفاوضات رامبوييه في نهاية آذار مارس الماضي ووافقت على تشكيل الحكومة الحالية على ان تخصص مقاعد فيها للمستقلين، ومثل هذه الخلافات التي أدت الى فشل مفاوضات حاولت حكومة تيرانا عقدها الاسبوع الماضي، بدليل ان اربار جعفري زعيم الحزب الديموقراطي الألباني في مقدونيا، خرج الى العلن ليؤكد دعمه لحكومة ثاتشي، وطالب المجتمع الدولي بأن يحذو حذوه، ولم يتوقف عند ذلك، بل حث روغوفا على الذهاب الى البانيا بدل ان يتحول دمية بيد الصرب ويغيِّر الثوابت، التي أكدها اتفاق رامبوييه. ولعل حساسية الموقف الحكومي الألباني المتعاطف مع جيش تحرير كوسوفو ناجمة عن عدم وجود مودة بين جيش تحرير كوسوفو وعدد من العواصم الغربية الفاعلة، التي ارتأت ان تنأى بنفسها عن الاتصال او التنسيق مع جيش تحرير كوسوفو، خصوصاً بسبب الشكوك في خلفياته، سواء بعد الاتهامات التي وجهت الى بعض كوادره في شأن الصلة التي تربطهم بتنظيمات اسلامية متطرفة منها تنظيم اسامة بن لادن، أو جماعات الجريمة المنظمة المافيا التي تلعب دوراً كبيراً في تسليح هذا الجيش حسب مصادر في اجهزة الاستخبارات الغربية. وتجهد الحكومة الألبانية نفسها لإرضاء حلف شمال الاطلسي وعواصم الاتحاد الاوروبي، بدليل حرصها على اتخاذ كل موقف يرضي تلك الجهات حتى لو كان ذلك على حساب السيادة الوطنية. ولعل ابرز ما تسعى اليه ألبانيا حالياً هو الانضمام الى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الاوروبي والاستفادة من اي مشروع يخصص لمساعدة دول منطقة البلقان على النهوض اقتصادياً. ولا يصدق السياسيون الألبان ما يرونه على الارض من تعاون بعد مضي تسعة اشهر على تشكيل حكومة ديموقراطية في بلادهم، فالزائر لمطار ريناس الذي تحولت معظم ارجائه الى قاعدة عسكرية اميركية، لا يصدق ان رجال البحرية الاميركية يتجولون في محيطه بعرباتهم المدرعة ويسهرون على حراسة المطار وأمنه بعد ان بات منظر إقلاع وهبوط الطائرات الاميركية الضخمة المحملة بالجنود والعتاد وكل انواع الصواريخ عادياً ويفاجأ بوجود حوالي 30 من مروحيات أباتشي. ويقول سياسي ألباني ان الموقف الذي اتخذته الحكومة من النزاع في اقليم كوسوفو حول بلده عامل مهم لضمان الاستقرار في البلقان، الامر الذي سيساعد الحكومة على الحصول على الموافقة للانضمام الى الهيئات والمنظمات الدولية لحلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوروبي، حتى لو كان ذلك بحاجة للانتظار عقداً آخر. وما رؤية الاعلام الاميركية ترفرف فوق المطاعم والمحال التجارية والترحيب الذي يلقاه جنود البحرية الاميركية سوى دليل على حجم اليأس الذي حل بالألبان، فتلمسوا في الوجود الاميركي على ارضهم فرصة لاكتساب تجربة جديدة قد تنشلهم من الفقر الذي يعيشونه وان يكن ذلك على حساب سيادتهم. ويرى الألبان في المشاريع الاقتصادية وعمليات التمويل لبرامج وخطط اعمار بلدهم من جانب الاتحاد الاوروبي مساهمة في انتعاش الاقتصاد الوطني. وتلعب ايطاليا دوراً كبيراً حث ألبانيا على الاقتراب من اوروبا وتشجيعها على الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، ويقدر الالبان كثيرا الدعم الذي قدمته روما للاجئين الكوسوفيين ووضعها خططاً عاجلة لتعبيد عدد من الطرقات الحيوية الضرورية لنقل مواد الاغاثة. ولا يبدو ان موقف الحكومة الألبانية بعيد عن موقف مواطنيها بدليل ان جولة في شوارع تيرانا، والحديث مع مواطنين على اختلاف توجهاتهم، يدلان على ان هناك اجماعاً وترحيباً بما يقوم به حلف شمال الاطلسي داخل البانيا وفي مسرح العمليات داخل الجمهورية الصربية باعتبار ذلك أمراً لا مفر منه، خصوصاً ان الديبلوماسية الدولية المتواصلة منذ سنوات لم تنجح في التوصل الى حل يجنب المنطقة الواقع الذي تعيشه حالياً. والسؤال المطروح الآن: هل ينجح قادة الاحزاب الكوسوفية بمساعدة الحكومة الألبانية على توحيد موقفهم والتعاون لتشكيل حكومة ائتلافية، لكي يسهل ذلك على حلف شمال الاطلسي ان يواصل الوقوف الى جانبهم ويساعدهم على بناء كيانهم، وان قد لا يصل الى الاستقلال الكامل عن الكيان الصربي والجمهورية اليوغوسلافية