في العام 1995 نشرت احدى كبريات المجلات السينمائية الأميركية لائحة تضم، حسب ترتيب الأهمية، اسماء ووظائف أهم مئة شخصية في السينما العالمية، من الذين نشطوا وانتجوا في ذلك العام. كان أغرب مافي تلك اللائحة ورود اسم المخرج الأميركي ستانلي كوبريك، في موقع متقدم. سبب الغرابة يكمن في أن كوبريك لم ينتج شيئاً في ذلك العام، ولا في العام الذي قبله ولم يكن متوقعاً ان ينتج شيئاً في العام الذي يليه. كل ما في الأمر أن المجلة بررت حضوره على ذلك النحو بقولها: ان كوبريك صامت منذ عقد من الزمن، ولكن من المؤكد انه لو أعلن عزمه على تحقيق فيلم جديد، فإن صاحبي المكانة الأولى والثانية في هذه اللائحة وهما من كبار المنتجين في هوليوود مستعدان للسفر فوراً الى بريطانيا لتوقيع عقد معه. ستانلي كوبريك اسطورة من أساطير السينما العالمية. وهو، على قلة انتاجه وتباعده زمنياً، يعتبر واحداً من أساطين فن السينما، فملايين الهواة ينتظرون أفلامه بفارغ الصبر. وهو، في كل مرة يحقق عملاً جديداً، يحقق فتحاً جديداً في فن السينما. إذا حقق فيلماً عن الحرب، يكون فيلمه هو الأفضل. وإن حقق فيلم رعب، يكون فيلمه الأكثر رعباً، وإذا عالج مسألة العنف تتسم معالجته بالاستشراف وبقدر من العنف لم يسبقه اليه أحد غيره وان قلده بعد ذلك الكثيرون. منذ نحو 45 سنة وكوبريك يتربع على عرش الفن السابع، ومع هذا ظل صامتاً منذ العام 1985 حين انجز تصوير فيلمه الشهير "سترة معدنية كاملة" عن حرب فيتنام. بعد نجاح ذلك الفيلم، النسبي على أية حال، كان من المتوقع ان ينصرف كوبريك، الذي يعيش في منفاه البريطاني، بعيداً عن وطنه الأميركي منذ أكثر من ثلاثين سنة، الى تحقيق فيلمه/ الحلم عن نابوليون بونابرت، لكنه لم يفعل، بل طلع أخيراً بمشروع ها هو يصوره منذ أكثر من عامين، ويحيطه - على عادته - بقدر كبير من التكتم الذي وصل الى حد اجبار ممثليه والعاملين معه على توقيع اتفاق مكتوب ينص على عدم تفوههم بكلمة حول الموضوع. ولنا أن نتصور اليوم، ارتباك ممثليه الرئيسيين في الفيلم توم كرويز ونيكول كدمان، وهما محرومان من الثرثرة حول فيلم قد يدخلهما المجد من بابه الفني الضيق، بعد أن دخله كل منهما من بابه الجماهيري العريض، الأوسع انما الأقل خلوداً بالطبع. إذاً، هذا العام 1999، سيكون عام "عائد" كبير هو ستانلي كوبريك. وعام اطلالة أساسية وجديدة لهذا الذي يعتبر صمته وعزلته اسطورة من الأساطير. ولكن، من سوء حظه - أو من حسنه؟ - انه ليس متفرداً في هذا الباب: باب العودة بعد صمت وغياب. إذ، هناك عائد اخر هو تيرنس مالك، الهوليوودي ذو الأصل اللبناني - كما تشير الصحافة البريطانية - والذي طالت فترة صمته أكثر مما طالت فترة صمت كوبريك: 14 سنة لكوبريك، مقابل 20 سنة لمالك. ولئن ظل صاحب "لوليتا" و"اوديسا الفضاء" كوبريك، حاضرا في الصحافة وفي كتابات الباحثين والمؤرخين، فإن مالك غاب تماماً، حيث كاد يكون نسياً منسياً. لكنه برز فجأة حين أعلن عن قرب عرض فيلمه الجديد الثالث في أكثر من ثلاثين عاماً؟ "خيط أحمر رفيع" المرشح الآن لغير جائزة أوسكار، والذي يعرض في أوروبا هذا الاسبوع، ويلقى تقديراً نقدياً وصحافياً كبيراً. وإذا كان ستانلي كوبريك قد اعتبر، دائماً، مهندس السينما وفيلسوفها وربما محللها النفسي، فإن مالك اعتبر شاعر السينما، وأفلامه الثلاثة "أراض فاسدة" و"أيام الحصاد" واليوم "خيط أحمر رفيع" أفلام تحفل بالشعر والتأمل العميق. ومن المعروف ان مالك يشتغل على أفلامه كاشتغال الشاعر على القصيدة، والرسام على اللوحة، على الرغم من أن مهنته الثانية التي يمارسها حين لا يعمل في السينما هي... تدريس الفلسفة. من ناحية مبدئية، لا علاقة لفيلم مالك الجديد بفيلم ستيفن سبيلبرغ "انقاذ المجند رايان"، ومع هذا فإن مقالات النقاد تجمع بينهما، وذلك لسببين أساسيين، أولهما أن الفيلمين يتحدثان عن فصلين من فصول الحرب العالمية الثانية التي أعادها سبيلبرغ الى الواجهة بعد أن كان خيل لهواة السينما أن كل شيء عن تلك الحرب قد قيل. مع فيلم سبيلبرغ تبين انه يمكن قول أشياء جديدة. ويأتي فيلم مالك ليؤكد ذلك بعد تحقيق فيلم عبقري ورائع الجمال وفلسفي النظرة عن "أكبر مجزرة جماعية عرفها القرن العشرون". وثاني السببين ان الفيلمين، مع "شكسبير عاشقا" و"الحياة حلوة" يتقاسمان الترشيحات الرئيسية لجوائز الأوسكار. الحرب في الفردوس بالنسبة الى تيرنس مالك، ليس هذا هو المهم طبعاً. المهم، بالنسبة اليه، أنه عاد الى السينما، حبه الأكبر وهواه الأثير، بعد كل ذلك الغياب. والمهم أكثر هو ان تتركه الصحافة لحاله، وان يبقى بعيداً عن الأضواء. وكأن الرجل، مثله في هذا مثل كوبريك الذي يكبره بما يقرب من عقد ونصف العقد من السنين، يريد أن يربي الى الأبد اسطورة جعلته - أكثر من كوبريك - يوضع في مصاف كبار المختفين في الأدب والفن في أميركا: د. سالنجر، توماس بنشون، وغيرهما من اولئك الذين يؤثرون العيش في صمت وهدوء. من هنا رفض مالك، ولا يزال يرفض، الادلاء بأية أحاديث صحافية كما يرفض ان تلتقط له صور خلال التصوير. يكفيه - كما يرى المقربون منه أنه قبل عامين وأكثر حين أعلن عن قرب اشتغاله، أخيراً، على فيلمه الجديد المأخوذ من رواية لجيمس جونز 1921 - 1977، تهافت كبار الممثلين عليه مبدين رغبتهم في العمل تحت ادارته، ولو من دون مقابل. وهو إذا كان اختار، في النهاية، جيم كافيزل وبن شابلن وشين بين وجورج كلوني وغيرهم للقيام بالأدوار الرئيسة، فهو انما اختارهم من بين عشرات رشحوا أنفسهم بينهم بعض كبار هوليوود من أمثال براد بيت وليوناردو دي كابريو. ومع هذا، يبدو "الخيط الأحمر الرفيع" للوهلة الأولى وكأنه فيلم "آخر" عن حرب تحدثت عنها السينما كثيراً. بل يبدو الفيلم استمراراً لفيلم آخر عن الحرب نفسها، حققه فرد زينمان في العام 1953 عن رواية لجيمس جونز نفسه. فالفيلم يتحدث عن المعركة التي خاضتها القوات الأميركية بين آب اغسطس 1942 وشباط فبراير 1943، للاستيلاء على جزيرة غوادا في ارخبيل جزر سلمون في المحيط الهادئ وهي معركة عنيفة خاضها الأميركيون ضد اليابانيين وانتهت بانتصارهم. غير أن مشاهدة الفيلم ستقول لنا انه "فيلم غير عادي عن معركة غير عادية تدور في منطقة غير عادية". ففي المقام الأول اهتم مالك في فيلمه بنقل صورة المكان الذي يبدو جميلا، بنباتاته العجيبة وعصافيره الملونة للمناسبة مالك خبير في أنواع العصافير ايضاً!، بحيث ان الحرب تبدو في النهاية طارئة وغريبة عن هذا المكان، الحرب - مهما كانت هوية المنتصر أو المنهزم فيها - نشاط يدمر الطبيعة وجمالها، يقف ضد كل ما هو حنون وطيب. وفي المقام الثاني المعركة غير عادية لأنها ستبدو في النهاية عبثية: اذ ما معنى الانتصار، أمام الموت وحين يبدو واضحاً أن محور المعركة نفسه لا يتعادل مع التضحيات المبذولة من أجلها. أما في المقام الثالث، فإن المنطقة غير عادية، لأن أي مخرج آخر كان من شأنه أن يصور فيها قصة حب، أو قصة فنان يلجأ إلى الطبيعة بعيداً عن صخب البشر، فما بال مالك أتى ليصور فيها حرباً قاسية عنيفة؟ ثأر الشاعر والفيلسوف باختصار، ما أراد مالك أن يصوره هنا، هو جنون الحرب وقسوة البشر ازاء طبيعة رائعة تعيش سكونها وجمالها منذ ألوف السنين ولم تكن بحاجة لهؤلاء الطارئين يفسدون عليها هدوءها. تلك هي الرسالة التي شاء مالك أن يقدمها هنا. لذلك نراه يصور تفاصيل الطبيعة وزقزقة العصافير وحكمة التماسيح في سباحتها وتدفق الأنهار، ثم يهدم ذلك كله بصوت الرصاص وزحام الجنود. والحال ان المخرج يضعنا في هذا السياق منذ اللحظات الأولى للفيلم حيث يصور لنا المكان بأصواته العذبة وجمال طبيعته فيخيل إلينا اننا أمام سيمفونية من الجمال، ثم فجأة وبشكل مباغت نجدنا أمام الحرب. ومع هذا، فإن الفيلم لا يحاول أن يقدم موعظة اخلاقية بقدر ما يحاول أن يطرح اسئلته عن الحرب والإنسان والجنون. اسئلة الشاعر لا أسئلة الفيلسوف. أسئلة الرسام لا اسئلة إنسان الكومبيوتر. ويمكننا القول إن مالك نجح في رهانه، وتمكن من أن يجذب، لمشاهدة فيلمه، جمهوراً كان ادهشه تصوير الحرب لدى سبيلبرغ في "انقاذ المجند ريان"، لكنه حيّره إذ رأى في بعض ما في ذلك الفيلم ما يشبه التمجيد والحنين إلى الحرب: جماليات الحرب والموت إذا شئتم. وبهذا يثأر مالك، على طريقته، من هوليوود، لكنه يثأر، خصوصاً، لماضيه السينمائي، حيث من المعروف أن فيلميه الأولين "أراض فاسدة" 1973 و"أيام الحصاد" 1978 لم يحققا في ذلك الحين أي نجاح يذكر، بل أن ثانيهما يعتبر، على الدوام، واحداً من الأفلام الأكثر خسراناً في تاريخ السينما الهوليوودية. "الثأر" ربما كان - أيضاً - كلمة تنطبق على علاقة ستانلي كوبريك بهوليوود. وان كان لكلمة "جنون" في سينماه، مكانها كذلك. فكوبريك غادر هوليوود، غاضباً، ذات يوم وهو في عز نجاحه. وهو في هذه النقطة يختلف كثيراً عن مالك الذي لم يحصد في تاريخه السينمائي - على قصره - سوى الفشل. وهو، إذ يحقق اليوم، في انكلترا قريباً من لندن، فيلماً سيعتبر - مهما كان شأنه - معلماً جديداً من معالم السينما، فإنه سيعتبر فيلماً أميركياً، كما هو حال سينما كوبريك كلها، بما في ذلك تلك الأفلام التي ما فتئ يحققها في بريطانيا. "ثأر" كوبريك يقوم في قوله، في كل مرة، للهوليووديين: "مهما فعلتم، فإن سينماي أهم من سينماكم بكثير". وهذا هو دأب كوبريك، الذي يمكن اليوم وضعه في مصاف اورسون ويلز وانغمار برغمان واكيرا كوراساوا، منذ أفلامه الأولى. فهو ان حقق فيلما عن العصابات "القتل" 1957 يعتبر فيلمه الأهم في مجاله، وان حقق فيلماً تاريخياً "سبارتاكوس" 1960 يأتي فيلمه مميزاً شيقاً وعميقاً، وان طاول الحرب العالمية الأولى "خطوات المجد" 1957 حقق فيلما استثنائياً لا يزال يثير اشكالات حتى يومنا هذا، وان غاص في علاقة غرامية غريبة ومدمرة "لوليتا" 1962، عن رواية فلاديمير نابوكوف الشهيرة، قدم فيلماً لم يتمكن أحد من مجاراته حتى الآن، وان تحدث عن جنون القنبلة الذرية "دكتور سترانجلاف" 1963 قدم أبرع مرافعة ضد الحكم العسكري والسلاح النووي في قالب هزلي شديد الحداثة. طبعاً بعد ذلك يعرف هواة السينما أن "الخيال العلمي" الأكثر جدية وتأملاً فلسفياً بدأ مع فيلم كوبريك "2001 اوديسا الفضاء" 1968، وان "البرتقال الآلي" 1971 كان واحداً من اول الافلام التي فلسفت العنف وتمرد الشبيبة واختلاط الايديولوجيتين الستالينية والرأسمالية الرواية لأنطوني بارغس. بعد ذلك، وطوال ما يقرب من عشرين عاماً، لم يحقق كوبريك سوى ثلاثة افلام هي "باري لندون" 1975 عن الجنون والانتهازية في الزمن الفيكتوري وصعود البورجوازية على حساب الارستقراطية، و"اشراق" 1980 عن رواية ستيفن كنغ واحد من اكثر الافلام رعباً وجنوناً في تاريخ السينما ثم "سترة معدنية كاملة" 1985 عن حرب فيتنام. وماذا اليوم عن فيلمه الجديد "عيون مغلقة على اتساعها"؟ لا شيء، لا احد يعرف شيئاً، فقط من المعروف ان الفيلم مأخوذ عن قصة قصيرة شبه مجهولة للكاتب النمسوي آرثر شنيتزلر، وان احداثها تدور في الربع الاول من هذا القرن، بين برلين وفيينا وان موضوعها التحليل النفسي والتنويم المغناطيسي، وانها رواية عن جريمة! فيلم كوبريك الجديد سيعرض قبل خريف هذا العام وهو استغرق، من التصوير، اضعاف الوقت الذي كان مقدراً له، ومن المال اضعاف ما رصد من اجله. اي ان كوبريك يضع نفسه مرة اخرى في موضع التصادم مع منتجيه. ما يعيدنا الى السؤال الاساسي: هل حقاً: لا يزال الاولان على لائحة المجلة السينمائية الاميركية الكبيرة، مستعدين للتوقيع فوراً مع كوبريك اذا اعلن انه في صدد مشروع جديد؟ لا يمكننا ان نجيب، فقط يمكننا القول ان فيلم كوبريك الجديد، سيكون دون ادنى شك، حدث العام، وانه سيكون للصحافة - ولنا كذلك - مناسبة نعود فيها للحديث عن كوبريك، عن سينما كوبريك، عن الجنون والتنوع في سينما هذا الذي من الواضح انه - على غرار تيرنس مالك - كان حريصاً على الا ينتهي القرن العشرون من دون ان يذكر بحضوره السينمائي، حتى وان كان - وايضاً على غرار مالك - غير راغب في ان يكون ثمة اي تذكير بحضوره الشخصي