سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"سعيد أفندي" أطلق "الواقعية الجديدة" وآخر مسرحياته بطلتها أفعى . تعلم من بريخت أن التوعية لا تنفصل عن الامتاع يوسف العاني ل "الوسط": ماذا نفعل كي لا تموت ذكرياتنا ؟
يوسف العاني أكثر من فنّان لامع، إنّه استاذ جيل، كما انّه الذاكرة الحيّة لمسيرة المسرح والسينما في العراق. كتب هذا المسرحي والممثل العراقي عشرات النصوص المرجعيّة، وواكب مراحل حاسمة، ومنعطفات عدّة، في تاريخ الحركة المسرحيّة العربيّة، منذ مشاركته في مغامرة "فرقة الفنّ الحديث" التي أطلقت فنانين مثل صلاح القصب وجواد الأسدي وعوني كرومي وفاضل خليل وعقيل مهدي... وهو يسكن في وجدان الجمهور العريض، إذ اقترن بالشخصيات التي اداها على الشاشة من سعيد أفندي إلى أبو نواس المراكبي. في أحدث كتبه "شخصيات وذكريات" "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، يستعيد العاني محطّات ووجوه من تلك المسيرة الحافلة التي عمرها نصف قرن. ولد يوسف العاني في بغداد في الأول من تموز يوليو 1927، وفي 24 شباط فبراير من العام 1944 وقف للمرة الاولى على خشبة المسرح لتقديم مسرحية من فصل واحد من تأليفه. تخرج من كلية الحقوق العام 1949، ثم درس في معهد الفنون الجميلة، حيث ظهر تفوّقه، لكنّه فُصل في السنة الاخيرة 1935 بسبب مواقفه الوطنية. كان من أبرز مؤسسي "فرقة المسرح الحديث" التي تعتبر الانطلاقة الفعليّة للمسرح العراقي، كما خاض منذ مطلع الخمسينات في مجال النقد المسرحي والسينمائي. في العام 1960 كان العاني أول مدير عام لمصلحة السينما والمسرح في العراق. كتب العديد من المسرحيات كما شارك في بعض أشهر المسرحيات والأفلام السينمائية والأعمال الاذاعية والتلفزيونية أكثر من ستين عملاً. وحصل طوال مسيرته الفنيّة على عدد لا يحصى من الأوسمة والجوائز، كما تُوّج رائداً للمسرح العربي والافريقي خلال "أيّام قرطاج المسرحيّة" في تونس العام 1985، وكرمه "معهد العالم العربي" في باريس العام 1998. وضع يوسف العاني 41 مسرحية، وصدر له 14 كتاباً كان آخرها "شخصيات وذكريات" عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت قبل أسابيع قليلة، ويتضمن استعادات عذبة لأدباء وفنانين ومبدعين رحلوا، أراد العاني ان يحتفظ ببريقهم ووهجهم وحضورهم، متسائلاً: "ماذا نفعل كي لا تموت ذكرياتنا؟". واعتبر عبد الرحمن منيف في تقديمه الكتاب ان العاني "يحاول ان يردّ الاعتبار لتقليد عرفه الأدب العربي في فترة سابقة، فأغلب الكتب التي وضعها الأقدمون، وفي حقول شتى كانت تترك مساحة للعصر، ولأبرز الذين أثروا فيه". "الوسط" التقت رائد المسرح العراقي في بغداد، وأجرت معه الحوار الآتي الذي تناول مسيرة هذا الفنان طوال ما يزيد على نصف قرن من التجوال في أقاليم الفن والإبداع. فرقة المسرح الحديث عملت في المسرح منذ الأربعينات، كيف تقوّم تلك المسيرة الطويلة؟ - عندما وقفت اول مرة ممثلاً على خشبة المسرح، في 24 شباط فبراير من العام 1944، كانت البداية ساذجة بلا شكّ. وقد تبدو اليوم بسيطة ومتواضعة. لكنها كانت الخطوة الحاسمة في رحلة ممتعة وغنيّة وصعبة، ولم أكن لأواصل تلك المسيرة التي عمرها اليوم 54 عاماً، لولا ذلك الاصرار الذي دفعني إلى تقديم ما قدمته. فمنذ البداية اعتبرت أن المسرح يحمل للناس متعةً الناس وفكراً في آن واحد، وإستفدت في البدايات مما كنت قد تعلمته ودرسته وأخذته من آخرين سبقوني على هذه الدرب. وتلك المسيرة التي تجاوزت نصف قرن، هي التي أوقفتني يوم 21 تموز يوليو 1998 على مسرح معهد العالم العربي في باريس لأنال ما تعرفه من تكريم. ولا أعتقد أن ما انجزته خلال تلك العقود، يعود الفضل فيه لي وحدي. فلولا المجموعة المخلصة التي كانت معي، ولولا تشجيع الناس الذين أحبوا فنّنا، لما كانت لي هذه المكانة ولا الشرف الذي نلته في تونسوباريس وغيرهما. كيف تحدد الانطلاقة الفعليّة للمسرح العراقي المعاصر الذي تعتبر من أبرز رواده؟ - البداية المسرحية الحقيقية تمثلت في تأسيس "فرقة المسرح الحديث" 1952، بعد تجاوز مرحلة الهواية في كلية الحقوق، وقبلها في الثانوية المركزية. كان معنا في الفرقة الفنان الكبير ابراهيم جلال رحمه الله، ومجموعة من الشباب والمثقفين، وكانت المنطلق لمسرح حديث فكراً وأسلوباً واقتراباً من الجماهير، من دون توسل الأساليب التي كانت شائعة آنذاك في المسرح المصري غير المثقف. ضمت تلك الفرقة مجموعة من الشباب الذين تأسس بجهودهم المسرح الحديث في العراق، مع تقديرنا للمحاولات التي سبقت تأسيس هذه الفرقة، وأعني بالذات تأسيس معهد الفنون الشعبية، وتأسيس الفرقة الشعبية التي ما زالت تعمل حتى اليوم. ويمكن ان نقول إن التجريب في المسرح العراقي خرج من فرقة الفنّ الحديث، فقد سبقنا الكثير من المسارح العربية. ضمت الفرقة: صلاح القصب، جواد الأسدي، عوني كرومي، فاضل خليل، فاضل السوداني، عقيل مهدي، روميو يوسف وآخرين، وتناولت بالدرجة الاولى المسرحيات العراقية، بغية دعم الكاتب المسرحي العراقي. ثم تناولت فيما بعد المسرحيات العربية والعالمية، بل انها حققت فتحاً جديداً في تناول مسرح طليعي جاء به الفنان قاسم محمد من اميركا اللاتينية مع أعمال أوزفالدو دراكوني. ومن التجارب الجديدة التي قدّمتها الفرقة "هاملت عربياً" مطلع السبعينات. كان العمل رائداً في التجريب: على مستوى الرؤية التي جمعت بين الطرح الشكسبيري والتناول العربي الخاص، وعلى مستوى تقريب هذا العمل من المشاهد العربي ظرفاً وموقفاً وفكراً. وحملت تلك التجربة توقيع المخرج الرائد سامي عبدالحميد. وقدّمت الفرقة اول عمل ربما في المسرح العربي يتناول التراث الشعبي، كمادة احتفاليّة تمتاز بشموليّة الفكرة، أتكلّم هنا على مسرحية "المفتاح" 1968 التي لم يقتصر تقديمها على العراق، بل قدمت أيضاًفي الأردن بأخراج احمد شقم، وفي سورية باخراج أسعد فضة، كما قدمت في المغرب والبحرين. وفي العام 1969 كتبت مسرحية "الخرابة" التي تنتمي الى المسرح الملحمي، وانتقلت بعدها لتأريخ مسيرة العراق الحديث عبر المسرح، كما فعل نجيب محفوظ في مصر عبر الرواية، فكتبت "الخان" التي تتناول أحداث الحقبة الممتدّة بين 1941 و1948، ثم مسرحية "الشريعة" 48 - 52، فمسرحية "أمس عاد جديداً" 52 - 65. ثم توقفت بسبب صعوبة تنفيذ هذه الأعمال لأنها وصلت مرحلة من الصعب تناولها ! فتحولت الى نوع آخر من المسرح. هكذا دخلت مرحلة الرومانسية، ومزجت في مسرحية "نجمة" مثلاً الحلم بالواقع. وبعد تجارب عدة وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام المسرحية ذات الفصل الواحد: كتبتُ "الصرير" التي نشرت في مجلة "الأقلام" العراقية 1995، وقُدّمت في التلفزيون بصيغتها المسرحية... تلتها مسرحية "الضربة الموجعة" ثم "السم الشريف"، وآخر مسرحية كتبتها كانت "أنيسة" 1997، وبطلة هذه المسرحية أفعى كانت تؤنس وحشة ربة البيت. المسرحيتان الاخيرتان فيهما محاولة للجمع بين السرد والتمثيل: الممثلة تروي وتمثل في "أنيسة"، بينما هناك من يروي من جهة ومن يمثل من الأخرى في "السم الشريف". وهذا النوع يمكن ان يتم في كل مكان، وهو جزء من مسرح الفرجة ويتطلب جواً يحتضنه. كل عراقي سياسي! ما السمات التي تميز المسرح العراقي؟ - يتميز المسرح العراقي، لا سيما الحديث منه، بأنّه ولد مسرحاً سياسياً. والسبب في ذلك ان الذين كتبوا للمسرح هم في الأصل سياسيون، وكل عراقي هو سياسي. وهذه قضية خطيرة تعقدت مع الأيام. فعندما كتبت في بداية الخمسينات، كنت أنطلق من الفكر السياسي الذي تعلمته وهو مرتبط حكماً بمصير الشعب. وعلى الرغم من ان بداياتي المسرحية كانت تفيض بالشعارات المباشرة، فإن التجربة بعدما نضجت ترافقت مع اطلاعي على المسرح العالمي، ومسرح برتولد بريخت تحديداً، وبرفقته انطلقت إلى فضاء أوسع. صحيح أن اعمالي ظلت مرتبطة بما هو محلي، وارتبطت بخصوصيّة المكان وناسه، ولكن كان هناك شمولية في الرؤية جعلت تلك الأعمال قابلة للعرض فوق اي مسرح عربي أو عالمي. وأذكّر في هذه المناسبة أن مسرحية "المفتاح" تُرجمت الى الألمانية، وسيقدمها المسرحي عوني كرومي في المانيا بمرافقة الموسيقى وفرقة من الغجر. لكنّ السياسة ليست الوعظ، ولا الذهنيّة الثقيلة. أوّل اهدافي أن يشعر الجمهور بالمتعة في مسرحي. هناك الكوميديا وهناك المعرفة، وهذا أمر تعلّمته من بريخت: فالوعي لا ينفصل عن الامتاع. إذا بحثت الكوميديا في تاريخ المسرح العربي، فلن تجد من يمثّلها خيراً من "فرقة المسرح الحديث" في العراق. لا أقول أن الاسقاطات السياسية غائبة، لكنّها لا تصل حد الإغراق، كما هو حاصل في بعض ما يقدم على المسارح العربية. كيف جمعت بين دورك كمخرج وحضورك كممثل؟ - حينما أنتهي من كتابة مسرحية، أُحس برغبة في تمثيل كل شخصياتها، فقد أحببتها ورافقت تكوّنها الداخلي وعايشت ظروفها ومعاناتها، وأعرف كل تفاصيلها. ولهذا فالمخرج الذي يتعامل مع مسرحياتي يجد سهولة في اكتشاف أعماق هذه الشخصيات، وتحديداً الشخصية التي اختارها لنفسي والتي اعرف كيف اوصل أبعادها الى المتلقي. وأنا أحرص على ارتباط كل الشخصيات في وحدة عضوية شاملة، ولهذا السبب قال يوسف شاهين مرة "ان مسرحي يتميز بوحدة عضويّة"، إذ ليست هناك شخصية تنمو على حساب الشخصيات الأخرى، أو تتحرّك خارج السرب. يقال إن لك حكاية قديمة مع احسان عبد القدوس... - عندما نشرت مسرحيتي الأولى "راس الشليلة" اي الخيط في بغداد في العام 1952 ، أرسلت نسخة منها الى الاستاذ احسان عبد القدوس، فكتب يقول: قرأتُ المسرحية من اولها الى آخرها ولم افهم منها شيئاً. فرددت عليه إن هناك في الصفحة الثانية من المسرحية عبارة "الجامعة العربية" فهل هي غير عربية؟ فكتب لي يعتذر عن تلك الملاحظة. وكانت "راس الشليلة" اول مسرحية أنشرها باللهجة العراقية. سعيد أفندي والواقعيّة الجديدة ما سرّ التردي الطاغي حالياً على المسرح العراقي؟ - يدّعي بعض الزملاء والنقاد أن التردي الحالي للمسرح العراقي سببه الحصار، أما أنا فلا أعتقد أن الحصار هو السبب الرئيسي! التردي يعود الى أواسط الثمانينات، كما أشرت في كتابي "المسرح بين الحدث والحديث"، ويتحمل تبعاته المسؤولون عن المسرح وأنا منهم. كان ينبغي أن نستدرك ذلك من خلال حركة تعمل على انقاذ المسرح عبر تقديم اعمال تجذب الجمهور وتذكّر بالمسرح الحقيقي، لأن الجمهور الواسع يعتقد ان ما يشاهده الآن من أعمال ساقطة هو المسرح الحقيقي. وهذا خطر كبير! هناك مسرحيون يقدمون اعمالاً جيدة كصلاح القصب. لكن هذه الأعمال لا يصاحبها اعلام يعرّف بها ويكرسها كخيار جمالي، وكتجارب مرجعيّة. أما الحصار فربّما عزز ذاك التردي ورسخه. ورفع الحصار قد يساعد في تجاوز التردّي، شرط أن نعي وسائل التجاوز، ونتجرأ على الابتكار، ونحسن الوصول إلى الناس. وقفت ممثلاً أمام الكاميرا، سواء في التلفزيون ام في السينما، حيث ما يزال فيلمك "سعيد افندي" علامة مميزة في السينما العراقية والعربية. ما ظروف هذا الفيلم وحيثيات انتاجه؟ - كتبتُ سيناريو "سعيد أفندي" 1957 عن قصة "شجار" للراحل أدمون صبري، ومثلتُ ايضاً الدور الرئيسي فيه. وكان اول تجربة سينمائيّة لي، كاتباً وممثلاً. في تلك الفترة من حياة العراق كان هناك تميز ثقافي وفني في مختلف المجالات في الفن التشكيلي وفي الشعر والموسيقى، وكان علينا ان نقدم للسينما نموذجاًَ يتلاءم مع الحالة الثقافية السائدة آنذاك. وكان التأثر واضحاً بالسينما الايطالية آنذاك، وتحديداً بمدرسة "الواقعية الجديدة". نظّمنا وقتذاك عروضاً لعدد من الأفلام الايطالية، وكان حلمي الحقيقي ان ينتمي اول فيلم أمثّله إلى هذه المدرسة الرائدة. تحقق الحلم، ولقي المشروع استجابة من المخرج كاميران حُسني والمجموعة الفنية. وما حصل اثناء تكريمي في باريس العام الماضي في "معهد العالم العربي"، يؤكد مستوى هذا الفيلم : لقد تجاوب الجمهور، كما تجاوب النقاد من عرب وفرنسيين، مع هذا الفيلم الذي عُرض بعد مرور 41 عاماً على ظهوره، واعتبروه واحداً من أنضج الأفلام العربية. وأسف ناقد فرنسي معروف لكونه لم يسمع ب "سعيد أفندي" من قبل، هو الذي درس تاريخ السينما العالمية. وأعلن خجله لأنّه لم يكن يعرف ان فيلماً بهذا المستوى أعلن عن ولادة "الواقعية العراقية الجديدة" قبل أربعة عقود، ولا علم له به. كيف تقوّم تجربتك في العمل مع يوسف شاهين؟ - تربطني بيوسف شاهين صداقة منذ العام 1966، عندما شاهدني على المسرح لأول مرة. وكان من المقرر ان امثل دوراً في فيلمه "العصفور" ولكن ذلك تعذر لأسباب سياسية. وحينما بدأنا العمل في "اليوم السادس" 1986 المأخوذ عن رواية أندريه شديد الشهيرة من بطولة داليدا، استدعاني لأمثّل شخصية "أبو نواس المراكبي". واعتبر ان عملي مع يوسف شاهين قد أغناني وعلمني الكثير، فهو مدرسة كبيرة ومن يعمل معه - مهما كانت تجربته المهنيّة غنيّْة - لا بد أن يكتسب خبرة ومعرفة جديدتين، وأن يتعلّم أشياء كثيرة. تجربتي الأخرى مع شاهين، كانت في فيلم من انتاج عراقي لبناني، عنوانه "وداعاً يا لبنان" 1967، وكانت تجربة مؤلمة على المستوى الشخصي. لم ينجح الفيلم بسبب النكسة حيث كان من المفترض ان تشترى جهة في اميركا نسخة منه، لكننا اكتشفنا ان تلك الجهة صهيونية. وماذا عن تجاربك السينمائية الأخرى خارج العراق؟ - في العام 1995 مثّلت في فيلم "السنونو لا يموت في القدس" من اخراج التونسي رضا الباهي. وقد استهوتني في الفيلم المجموعة التي عملت معي، وبين أفرادها فرنسيون وايطاليون. كما ان الشخصية التي أديتها تعكس وجهة نظري القائمة على رفض ما تم في اتفاق اوسلو. وهناك سبب ثالث حبّبني بالفيلم، هو انني عملت مع مخرج مبدع اكتسبت منه الشيء الكثير. وقد عرض الفيلم خلال تظاهرة تكريمي في باريس، الى جانب "المسألة الكبرى" و"الملك غازي" وفيلم "المنعطف" الذي اخرجه جعفر علي عن رواية "خمسة اصوات" لغائب طعمة فرمان، واعتبره النقاد العرب والأجانب واحداً من افضل الأفلام السياسية العربية التي قدمت خلال عشرين عاماً