يقال ان كل دولة في العالم لها جيش، إلا اسرائيل، فهي جيش له دولة. إذ أن هيمنة العسكر على شؤون الدولة العبرية معلم غريب وشاذ، لكنه معلم دائم من الناحية التاريخية في الحياة الاسرائىلية. ولعل أوضح مظاهر هذه الهيمنة في هذه الأيام ذلك العدد الكبير من الجنرالات السابقين الذين يشغلون المراكز القيادية في الأحزاب السياسية الرئيسية. فهناك جنرالان سابقان وهما ايهود باراك واسحق موردخاي يتربصان برئيس الوزراء بنيامين نتانياهو الذي كان بدوره ضابطاً سابقاً في احدى وحدات الجيش الخاصة التي قادها باراك نفسه. وحين نزع باراك وموردخاي زيهما العسكري توجها فوراً الى معترك العمل السياسي: فقد تولى باراك منصب وزير الداخلية ثم تولى حقيبة الدفاع في حكومتي اسحق رابين وشمعون بيريز، بينما شغل موردخاي منصب وزير الدفاع في حكومة نتانياهو التي استلمت مقاليد السلطة إثر فوز نتانياهو في انتخابات عام 1996. لكن باراك وموردخاي ليسا سوى غيض من فيض من سيل العسكريين الذين يتصارعون على تولي الحكم، فإلى جانب هذين الجنرالين اللذين يقودان الهجوم على نتانياهو، هناك رئيس الأركان السابق الجنرال أمنون شاحاك الذي يقود حزباً لم يطلق عليه اسماً حتى الآن. وفي حزب العمل تتولى مجموعة من الجنرالات المراكز الاساسية في قيادة الحزب. وفي مقدمة جنرالات حزب العمل يوري أور وإفرايم سنيه وبنيامين بين أليزار وأورين شانور وماتان فيلناي. وبخروج موردخاي من ليكود صار بوسع هذا الحزب الآن ان يتميز عن منافسيه لأنه لم يعد فيه سوى جنرال واحد أرييل شارون يخوض الانتخابات المقبلة. ومن المفارقات ان شارون نفسه ولد وترعرع في أحضان حزب العمل حتى 1972، حين قرر الانضمام الى مناحيم بيغين لتشكيل أئتلاف "ليكود الجديد". وكان قرار شارون آنذاك بداية الابتعاد عن التقليد الاسرائيلي السائد الذي ربط قيادة الجيش الاسرائيلي بحزب العمل بصورة وثيقة منذ قيام الدولة العبرية. ومنذ تأسيس اسرائيل لم يكن هناك ما يثير الاستغراب في تحول العسكر الى القيادة السياسية. اذ أن ايهود باراك وزمرته من الجنرالات يسيرون على الدرب الذي سار عليه قبلهم جنرالات آخرون منهم موشيه دايان وايغال ألون وحاييم بارليف واسحق رابين. وكان شارون أول جنرال يخرج من حزب العمل لينضم الى ليكود، ويفتح الباب بالتالي لجنرالات آخرين لدخول ليكود، وفي مقدمهم عيزر وايزمان ورافائيل ايتان. لكن "القحط" الحالي من الجنرالات في ليكود يعود الى فشل الحزب الذي كان تاريخياً ملاذاً للاخرين من خارج الدائرة العسكرية والزعامة الاقتصادية، مما جعله بيئة غير ودية للنخبة العسكرية الاسرائيلية. وتفضيل العسكر هذه الأيام لحزب العمل على ليكود لا يعود الى تفضيلهم لسياسات العمل، اذ أن موردخاي لم ينضم الى نتانياهو قبيل عام 1996 إلا بعدما صدّه شمعون بيريز. كما أن فيلناي، وهو آخر جنرال يعتزل الجيش لينضم الى حزب العمل يصف نفسه بأنه "من يمين الوسط" وقد انضم الى العمل لأن "الحزب يمثل قطاعاً واسعاً من الآراء، وهو قطاع لا يتوافر في الاحزاب الأخرى". أما موردخاي وشاحاك فهما يجدان أنفسهما في حزب لا يوحده سوى الرغبة في التخلص من نتانياهو. والأمر الوحيد الذي يميزهما عن باراك هو اعتقادهما بأن حزب العمل بقيادة زميلهما السابق لا يستطيع تحقيق تلك المهمة. بمعنى آخر لم تعد اصطلاحات "اليمين" و"اليسار" السياسية ذات شأن في رأي الجنرالات الذين تحولوا الى احتراف السياسة. وهم بذلك انما يعكسون واقع السياسة الاسرائيلية هذه الأيام. فقد كان دايان وآلون يتزعمان دائماً مبدأ انتهاج سياسة عسكرية متشددة تجاه الدول العربية. كما ان شارون قاد اسرائيل الى المستنقع اللبناني، لكنه في الوقت نفسه لبى دعوة بيغن من كامب ديفيد بالموافقة على الانسحاب من سيناء. واليوم ها هو شارون أشد قادة ليكود معارضة لقيام أي دولة فلسطينية مهما كانت محدودة النطاق. أما عيزر وايزمان فقد بدأ حياته السياسية متطرفاً في حزب حيروت، لكنه ترك حكومة بيغن بسبب تردي علاقات اسرائيل مع مصر. وقبل أيام قليلة وجد نفسه يصافح نايف حواتمة في عمان أثناء حضوره جنازة الملك حسين. ونحن نعرف الآن ان رابين وبيريز تعمدا اخفاء جميع تفصيلات محادثات اوسلو عن رئيسي أركانهما ايهود باراك لأنهما خشيا ان يحبط المفاوضات. وفي الآونة الأخيرة شن باراك، الذي امتنع عن التصويت على اتفاق أوسلو الثاني، حملة على نتانياهو واتهمه بأنه "يمهد الطريق لقيام دولة فلسطينية". وحتى هذا اليوم ظل باراك يبتعد عن ياسر عرفات. وتقول مصادر عليمة ان موردخاي دعا الى ضبط النفس مرات عدة لمنع شن هجمات عسكرية على لبنان. وفي الآونة الأخيرة، علق دان ميريدور وزير العدل والمال السابق الذي يخوض الانتخابات مع موردخاي - شاحاك، على وصف العمل بأنه يمثل اليسار وليكود بأنه يمثل اليمين، فقال: "يقولون ان حزب العمل يمثل الجناح اليساري. لكنني أود أن أذكركم بأن العمل وليكود شكلا حكومة وحدة وطنية خلال فترة الانتفاضة. فهل تعتقدون انني كنت من الجناح اليميني حين طالبني رابين بتكسير عظام الفلسطينيين، بينما كنت أنا أنادي وأطالب باحترام حقوق الانسان؟... أو خذوا مثالاً من هذه الأيام: من هو اليميني؟ ومن هو اليساري في قضية حقوق الانسان، إذا ما وضعتموني مع باراك ونتانياهو؟ أليس من الواضح انني أنا اليساري الوحيد بين الثلاثة؟". وتابع: "الحقيقة ليس هناك أي فروق سياسية كبيرة. ففي الماضي كان حزب العمل يؤيد تقديم تنازلات اقليمية، لكننا كنا في ليكود نريد امتلاك جميع أرض اسرائيل. أما اليوم فقد تغير كل شيء وأصبح الجميع يؤيدون تقديم تلك التنازلات. وهكذا لم يعد حزب العمل يشكل بديلاً لليكود لأن الاختلافات والفروق بين العمل وليكود أخذت تتلاشى، كما أن الكثيرين من ناخبي كل من المعسكرين بدأوا يغيرون آراءهم لأن اليكود البورجوازي لم يعد يجتذب الفقراء الآن مثلما كان يجتذبهم في الماضي. كذلك لم يعد حزب العمل حزباً اشتراكياً مثلما كان في السابق، لأنه أصبح اليوم حزب الأثرياء". وهكذا نجد ان ما يوحد جنرالات اسرائيل هذه الأيام رابطة أقوى من أي انتماء سياسي، وهي تلك الرابطة التي نشأت بينهم جميعاً إبان حياتهم التي قضوها رفقاء سلاح. وبغض النظر عن الحزب أو الزعيم الذي سيفوز في الانتخابات المقبلة، فإن النظرة العامة التي يشترك فيها الجنرالات على مختلف انتماءاتهم الحزبية ستفرض نفسها بقوة على الساحة وستترجم نفسها الى سياسة اسرائيلية. فبادئ ذي بدء سيعمل الجنرالات، قبل كل شيء آخر، على الاحتفاظ بآلة عسكرية قوية تتفوق على أعدائها، لأن الأمن الذي حققته اسرائيل عن طريق الحروب والمعاهدات لم تتم ترجمته الى "عائد سلام" لا سيما إذا ما قيس بطول مدة الخدمة العسكرية الاجبارية أو بحجم الموازنة العسكرية. اذ أن حوالي 60 في المئة من الموازنة العسكرية هذه الأيام مخصص لرواتب الجنود مقارنة بنسبة 26 في المئة فقط في 1996. وصرح موردخاي بأن اسرائيل تحتاج الى خمسة الاف مليون دولار اخرى خلال العقد المقبل اضافة الى موازنتها العسكرية والمساعدات الاميركية لتمويل حاجاتها من المعدات والجنود. لهذا ليس من المستغرب ان يعتبر "فرسان" اسرائيل الجدد من العسكر اقامة علاقات وثيقة مع القيادات العسكرية للتسليح والسياسية للمال الاميركية ضرورة استراتيجية لا غنى عنها. من هنا ليس هناك بين الجنرالات الاسرائيليين أي سياسي اطلاقاً حين يتعلق الأمر بوجوب ضمان المساعدات الاميركية والتأييد السياسي الاميركي والتعاون الاستراتيجي والعمل على توسيع ذلك كله. في هذه الاثناء يرحب الفلسطينيون بصعود نجم العسكر في السياسة الاسرائيلية. فقد رحبوا بدخول أمنون شاحاك المعترك السياسي لأنهم يرون فيه خلفاً لرابين يبعث الطمأنينة، لا سيما انه تفاوض على معاهدة أوسلو الثانية، حين كان رئيساً لأركان رابين، كما اجتمع في غزة الى العقيد محمد دحلان في ايلول سبتمبر 1997 لإنهاء موجة الاشتباكات التي رافقت أزمة "نفق القدس". وحين زار موردخاي في آخر عهده وزيراً للدفاع كلاً من عمان والقاهرة لم يجد الكثير مما يثير الشكوى والتذمر مثلما كان الحال حين زارهما أثناء عمله في مكتب رئيس الوزراء. يقول العالم السياسي الفلسطيني محمد مصلح: "إن العرب يثقون بالمؤسسة العسكرية الاسرائيلية، بما فيها باراك، أكثر مما يثقون بالساسة، وأكثر مما يثقون بنتانياهو أو يوسي بيلين لأنهم يعتبرونهم فنيين من دون تلك الأجندة التي لدى السياسيين". وسنرى خلال الأشهر القليلة المقبلة، ما إذا كانت تلك الثقة في موضعها أم لا